مقالاتمقالات مختارة

موسم التكفير العقلاني في شاشات العرب

بقلم حسام شاكر

عباراتٌ معدودة أطلقها ممثل عربي قرعت في مجتمعها ناقوسَ التجاوز، وأوجزت بذاتها مرافعاتٍ متزايدة تفيض بها الشاشات والشبكات. أعلن الممثل الظريف على شاشة رمضانية أنه يحترم الملحد، حسنا، وأنّ هذا الأخير أفضل منه، حسنا أيضا، ثم قرّر بثقة مطلقة أنّ “إيمان الملحد” هو أقوى من إيمانه. لا ينقطع العجب، فقد دفع صاحب الفكاهة في فتواه المرئية الجادّة هذه؛ بأقوال أخرى منها أنّ “الله يحبّ الملحد أكثر منّا جميعا، لأنه يبحث عن الحقيقة، لذلك فهو (الملحد) مميّز عن كل الاشخاص الباقين”.

هل يَقوى لوبي الإلحاد على الدفع بدعاية أفضل مما تتطوّع به نزعة التكفير العقلاني، بتلاعباتها اللفظية وفنونها الإيحائية التي تتزاحم على شاشات العرب؟ فحتى دعاية الإلحاد ذاتها لم تكن لتجرؤ على الزعم بأنّ الله تعالى يحبّ لكم أيها الناس الكفرَ به، وأن تفرض هذا ضمن برامج الذروة الرمضانية في شهر الصيام.

موسم العطف على الإلحاد

رغم النقمة التي أثارتها تلك التصريحات في مجتمعها؛ فمن الإنصاف الإقرار بأنّ ما يوافقها قيل من قبلُ على الملأ، فبعض الشاشات والمنصّات مكرّسة منذ زمن لحاملي معاول التقويض وهواة تحطيم الثوابت والساعين إلى إسقاط الروايات الكبرى ونثر الشكوك في وعي المجتمعات العربية. وليس من عجب أن يتساوق هذا كلّه مع تسعير حرب الأفكار على جبهة العالم الإسلامي بتواطؤات رسمية عابرة للقارّات.

ما قرّره الممثل الظريف بلا تردّد إنما جاء صياغةً متعسِّفةً لمقرّرات جماهيرية دؤوبة دفع بها خطباء منابر، ونادى بمثلها متحدِّثون تنافسوا في الفوز بألقاب العقلانية والتجديد والتنوير، في برامج “دينية” تزاحمت في الشاشات والشبكات، وتعاقب على ما يشبهها محسوبون على الثقافة والأدب والفنّ. ولم يبخل بمثل هذه المقولات رئيسٌ خرج على قومه من محراب “ليلة القدر” من سنة 2015 ليقود طقوس الحنوّ على القائلين بالإلحاد فالتمَس التبريرات والتأويلات لهم، فهم ما أقدموا على هذا إلاّ لأنهم “ما استَحمِلوش”، حسب منطوقه الذي جاء به لتسويغ دعوته إلى “ثورة دينية” في وادي النيل.

الوجه التكفيري الآخر لهذه النزعة التي نادرا ما تُفصِح عن ذاتها بصراحة الممثل العربي على الشاشة الرمضانية؛ أنها تُوحي بأنّ المجتمعات التي تعلن الإيمانَ ليست مؤمنةً كما ينبغي، أو لعلّها ليست مؤمنة في أعماقها

إنه موسم العطف على الملحد؛ الذي لا ينفك متحدِّثوه عن جَلد ظهر المؤمن وتأنيبه وتقريعه ودفعه إلى تحسّس عقله والشكّ في ذاته؛ مع اتهامه المتلاحق بالتحجّر والتطرّف في برامج الشاشات المبثوثة آناء الليل وأطراف النهار. يشهد الموسم إسرافا في إيحاءات الثناء على الملحدين في شاشات العرب، وفيه يحظَون بإشارات التودّد مع إيثارهم بامتياز العقل والتفكير ويقظة الضمير والحسّ النقدي.

تتوالى المزايدات في هذا المنحى دون أن يكفّ المتحدِّثون أنفسهم عن التباري في غمز المحسوبين على الإيمان ولمزهم، ورَمْيِهم بالردّة عن العقل وبالقعود عن التفكير وببلادة الحسّ وبفقر الضمير. إنها نزعة التكفير العقلاني التي ترمي مجتمعات المسلمين بالردة العقلانية وتنثر الشكوك حول حقيقة إيمانها أو تعدّه ساذجا لا يُعتدّ به ولا يرقى في جوهره إلى مصافّ الإلحاد الذي يحظى بتمجيد غير مسبوق في هذا الخطاب.

نزعة التكفير العقلاني

يقوم التكفير العقلاني هذا على مصادرة امتياز التفكير وحجبه عن فئات وأقوام دون غيرها بموجب اختيارات انتقائية. تباشر هذه النزعة استتابة المجتمعات في عقولها ورميها بالردّة عن العقل والمروق من التفكير الواعي، فهي توحي بكفر المجتمعات المسلمة بالعقل وردّتها عنه؛ هذا إن كانت عندها مشمولة بامتيازه أساسا.

والوجه التكفيري الآخر لهذه النزعة التي نادرا ما تُفصِح عن ذاتها بصراحة الممثل العربي على الشاشة الرمضانية؛ أنها تُوحي بأنّ المجتمعات التي تعلن الإيمانَ ليست مؤمنةً كما ينبغي، أو لعلّها ليست مؤمنة في أعماقها، وقد تَعُدّ إيمانَ المجتمعات المسلمة هشيما تذروه رياح العولمة لمجرد أنّ الأجيال قد تعاقبت عليه، فنشأتك في بيت مسلم تقتضي منك بالتالي أن تشكّ بإيمانك، وفق هذا المنطق.

لتقعيد هذه المقولات يمضي القوم إلى التفريق بين تصنيفات لا تخلو من افتعال في تنزيلها التعسفي على الواقع، من قبيل الإيمان التسليمي، الذي يقع وصمه بأنه سطحي وساذج، والإيمان البرهاني القائم على التماس الإيمان عبر خوض مغامرة الشك.

وما هي رسالة التكفير العقلاني إذن؟ مغزاها، كما يُفهَم أحيانا، أنّ عليك مفارقة تسليمك الإيماني إلى قنطرة شكّ مندوبة تخالجها ومغامرة اعتقاد مرغوبة تخوضها، كي يكتسب إيمانُك مشروعيته إن وصلت إليه حقا في نهاية الرحلة المحفوفة بالشعارات والمقولات والإيحاءات الضاغطة على ذهنك ووجدانك في زمن العولمة وتحت وطأة حرب الأفكار المستعرة.

تأتي نزعة التكفير العقلاني مشحونةً بتعبيرات تنضح بها القوالب النمطية الساذجة، فتعبِّر عن ذاتها بصفة فاقعة في خطابات ترسم للملحد صورةً لصيقة بالعقل وحرية التفكير ويقظة الضمير

في بعض ما تطفح به هذه النزعة ما قد تفهمها الأجيال على أنها دعوة مفتوحة للمؤمنين إلى خوض مغامرات الشكّ الجماعية والفردية؛ بدل تثبيت إيمانها بحكمة وتوطيده على بصيرة وتفتيتح الأذهان وتحرير الوجدان وإصلاح ما يلزم إصلاحه في أمر الدين والدنيا. ينعقد النجاح المأمول لدى أصحاب تلك النزعة، على مجرد الجاهزية لخوض المغامرة الاعتقادية من حيث المبدأ؛ حتى دون اشتراط الخروج منها بإيمان ويقين، فقد اجتهد القوم وإن لم يصلوا، ولهم أجر المحبّة المخصوصة من الله؛ بتعبير الممثل الفكاهي الذي نطق بخلاصة مكثفة لما أفاضت به تلاعبات الإطلالات المرئية لجوقة التكفيريين العقلانيين الذين يلتمسون الأعذار للقائلين بالإلحاد دون أن ينقطع تحاملهم على المحسوبين على التديّن.

واضح أنّ المقدّس الذي تستبطنه هذه النزعة هو العقل الذي يحظى بالتمجيد الفائق، فهو المرجعية لديها، بما يستدرج المفهوم إلى نزعة تقديس الإنسان بصفته حامل العقل والفكر والحسّ والضمير، في تقابلية مُفتعَلة يُؤتَى بها، بعناية، بديلا عن تعظيم الدين والإيمان اللذيْن يجري إلحاقهما بصفة ضمنية مفهومة؛ بجمهرة غير رشيدة تُرمَى بالسذاجة والتخلّف والتقاليد البالية، فيكون إيمانها على هذا النحو دون منزلة إلحاد غيرها عند الله وعند الناس، وفق تعبير صاحبنا الممثل ومن لفّ لفّه.

يقضي هذا الخطاب بإسباع اشتراطات متحيِّزة وانتقائية، فهو يُلزِم المؤمن باختبار الشكّ في الاعتقاد ويُعفي منه غيره، فالمحسوب على الإيمان هو الذي يُرمَى بالمروق من العقل أساسا في الاتهامات الإيحائية المستترة أو حتى في السهام اللفظية الصريحة. تلك إذن قسمةٌ ضيزى تُملي استتبابةَ جمهرة المؤمنين على الملأ بأنّ عليكم تشغيل عقولكم يا قوم وأن تسعوا إلى الحقيقة التي قد لا تكون ما في رؤوسكم، وسط الانهماك بتحرير شهادة امتياز عقلاني للقائل بالإلحاد باعتباره الفريد الذي شغّل عقله وسعى إلى الحقيقة واهتدى إلى “إيمانه” بالذي هو عليه، حتى أنّ “الله يحبّه أكثر” كما أفتى بذلك سماحة الممثل العربي على الشاشة الرمضانية.

تحيزات متذاكية: عقلانية ملحد وبلادة مؤمن

تأتي نزعة التكفير العقلاني مشحونةً بتعبيرات تنضح بها القوالب النمطية الساذجة، فتعبِّر عن ذاتها بصفة فاقعة في خطابات ترسم للملحد صورةً لصيقة بالعقل وحرية التفكير ويقظة الضمير، وتحيط المؤمنَ بإيحاءات البلادة وهالات السذاجة وأمارات التخلّف، وهو ما يجري التعبير عنه بصيغ شتى إعلامية وفنية وثقافية. لا تقوى الصور الذهنية التعميمية في هذا الخطاب على الاعتراف بألوان الطيف المتمايزة ضمن مشهد محسوب على الإيمان ومَشاهد محسوبة على ما سواه.

تلجأ النزعة التكفيرية العقلانية إلى قوالبها الجاهزة، كأن ترسم صورتيْن متقابلتين بصفة انتقائية غير أمينة. قد تكون الصورة الأولى لإنسان يُعَدّ في المنظور السائد “بسيطا” أو “ساذجا”، ويُحسَب فيها على الإيمان، وتقابله صورة المفكر والفيلسوف أو المهموم بانشغالات ذهنية عميقة أو العالق بين أكوام الكتب، ويُحسَب بالطبع على الإلحاد أو الشكّ الاعتقادي. لا ينتقي القوم في التعبير عن النزعة الإلحادية؛ أيّا من كبار مجرمي الحرب مثلا، أو منتهكي الحقوق ومقترفي التجاوزات، أو المتطرفين السياسيين والميدانيين، من الذين اشتهروا بإلحادهم في الماضي أو الحاضر، كما يتحاشون الإشارة إلى جمهرة العالقين في اضطرابات ذهنية وسلوكية تحت تأثير شكوك وجودية أفضت ببعضهم إلى محاولة وضع حد لحياتهم الدنيا بغية الانعتاق من المتاهة.

يفرض التقليد النمطي على أحدهم، إن تطرّق إلى نزعة الإلحاد؛ أن يستحضر في حديثه لازمة من استدعاءات علمية وفلسفية، أو أن يذكر أسماء من أعلام الفلسفة والاجتماع والعلوم، مثلا، فتكون هذه الإشارات هي الكناية الحصرية عن النزعة الإلحادية؛ بما يرسم صورة ذهنية إيجابية ويعقد ارتباطا شَرطيا بين الاشتغال العقلي والامتياز العلمي من جانب؛ والشك الاعتقادي والنزعة الإلحادية من جانب آخر. وستتكثّف في الفسطاط المقابل إيحاءاتٌ ذميمة عن القائلين بالإيمان؛ فيُمارَس كُفرانُ العقل بحقهم ويقع تجريدهم عنوة من امتياز التفكير ويقظة الضمير دون أن يُمنحَوا فرصةً عادلة.

توظيف رمزية العبقري البريء المقعد

كشفت وفاة الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ استشراءَ نزعة التكفير العقلاني في بعض المنصات والشاشات والشبكات العربية، التي سعت إلى توظيف رمزية “العبقري البريء المُقعَد”، بمتلازماتها العلمية والعقلية والإنسانية المُرهَفة. وحرصت النزعة على حجب هذه الوشائح المتضافرة عن مؤمنين تمّ اختزالهم في ما يشبه رسما كاريكاتيريا تعميميا لوجوه فظّة غليظة القلب ومنقطعة عن العصر؛ لا تبديل لها في هذه الصورة الذهنية الذميمة.

   

تَعامَل هذا التحيّز، كعادته، بانتقائية جارفة في اختيار المعبِّرين عن فسطاطيْ الإيمان والإلحاد، أو اليقين والشكّ، ليعزِّز مسعاه في حرمان جمهرة المؤمنين من امتياز العقل والعلم والضمير والإنسانية والحسّ النقدي والذكاء الواعي؛ إلاّ من رضخ منهم لإغراء الانخراط في مغامرة المتاهة الاعتقادية التي يقترحها هذا الخطاب دون أن يحدِّد مواصفاتها أو يضمن مآلاتها.

يعقد أحدهم في لحن قوْله مقارناتٍ ساذجة بين فيلسوف مُلحِد وفلاّح مؤمن، كي يرسم استنتاجا محبوكا بأنّ إيمان الفلاّح لا قيمة له إزاء إلحاد الفيلسوف الذي ما “اهتدى” إلى هذا إلا أن “هداه” عقلُه. على الفلاّح الذي يُرمَى بالسذاجة أن يمضي، إذن، على نهج الفيلسوف البارع الذي يُستدعَى اسمه من قائمة مشاهير أوروبية تقليدية، فيمارِس الفلاح المغمور في القرية رَهَق الشك بمحاكاة الفيلسوف الساطع عالميا، إن أراد أن يحظى صاحب المحراث بشهادة امتياز يمنحها المتحدث التكفيري العقلاني عبر الشاشة والشبكة وفق هواه. يضرب هذا الخطاب بخلاصات الاجتماع الإنساني في العقائد والأديان عرض الحائط، ولا يقيم مع هذا المروق “السوسيولوجي” لها وزنا ولا يكترث بسِيَر البشرية وبسننها التاريخية.

لا جدال في أنّ المؤمنين مطالَبون بتعزيز إيمانهم، لكن هل يقتضي هذا حضّ الجماهير على الاندفاع إلى تمحيصه واختباره بمعايير فلسفية ومنطقية لن يحصل الإجماع على صوابيتها أو كيفية اشتغالها ومآلات تنزيلها؟ وهل المطلوب حقا أن ينخرط الناس في هذه المتاهة زُرافاتٍ ووحداناً على النحو الذي توحي به هذه الخطابات المتشنجة، مع إطالتهم النظر في مرآة الشكّ بما هم عليه من تسليم بالإيمان؛ رغبةً في الوصول بطريقها إلى يقينٍ ما وإن ضلّوا السبيل؟

يعقد هؤلاء الذين يتذرّعون بمقولات سطحية منسوجة عن العقل والعلم والمنطق والضمير، مقارناتٍ انتقائيةً متحيّزةً في روحها؛ وساذجة ومضلِّلة في جوهرها. لا تأتي مقارناتهم، مثلا، بين مؤمن قوي في علمه ومنطقه وحجّته ومؤمن ضعيف لا يقوى على هذا؛ بل تطيب لهم مقارنة المؤمن الضعيف بنموذج بارع يُحسَب على الإلحاد أو الشكّ الاعتقادي، وهكذا يفعلون في مقام الالتزام الأخلاقي أو الضمير الإنساني، رغم أنّ الخطاب الإسلامي واضح في إنصافه الناس عموما واعترافه بمعادنهم خيارا كانوا أم شرارا؛ على نحو مجرّد عن وجهة الاعتقاد، مع بيان أنّ العلم لم يكن ضامنا لهداية البشر.

استعمال كاريزما العقل

لا مبالغة في تحسّس الرؤوس عندما يباشر أحدهم مصادرة العقل لذاته واحتكار العقلانية لخطابه، فالعقل الذي يجري الحديث عنه مع ما يلازمه من مفردات مثل: الإنسان والتفكير والضمير والعلم والنقد؛ يبقى الشعار الاستعمالي الملائم لهذه الحقبة تماما.

لنضع أيدينا على قلوبنا إن رأينا أحدهم يترافع بثقة زائدة باسم عقله، أو يبالغ في التغنِّي به عموما، واعتباره مرجعيّته التي لا يُشَقّ لها غبار، وأنّ أمرا ما “لا يدخل” عقله. يتحدّث بعضهم بإسهاب عن العقل ويغلِّفون آراءهم ومزاعمهم باسمه، مع تحاشي شرح مفهومهم الواضح أو الدقيق للعقل. فما يكون العقل الذي يقصدون تحديدا؟ يُوحِي بعضهم بأنه يتأسّس على المغايرة، فينزعونه عمّا ينبذونه من آراء أو يستقبحونه من اتجاهات هي في منظورهم “ليست عقلانية”. تشبه هذه الحيلة النمطية تقرير أحدهم بأنّ العقلانية هي نقيض اللاعقلانية، دون توضيح لفحوى متماسكة في الاتجاهيْن.

التباس مفهوم العقل بوشائج شتى وتأويلات متعددة، لا يقضي بإلغاء العقل أو نفيه، وتلك خطيئة مؤكدة، وإنما يشي الالتباس باستعصائه على تحديد مُتفق عليه، وهو ما يتطلّب التدقيق في المقولات التي تزعم الاحتكام إليه

يغفل القوم عن أنّ مفاهيم العقل تتفرّع وتتشظّى وتتناقض أحيانا، فهل يصحّ اختزاله وابتسار مفهومه في شعار ساطع أو مقولة رائجة على نحو ما يتخلّل مجتمعات الحاضر من شعارات ومقولات؟

ثمّ تغيب المصارحة بأنّ العقل لا يُفضي إلى “العقلنة” على نحو حتمي؛ أو الرشد والحكمة بالأحرى. فمن القسط الاعتراف بأنّ كثيرا من انهيارات عالمنا وإخفاقات البشر إنما اتّصلت بصعود سطوة محسوبة على عقول البشر بسبب ما، أو أنّ العقل ضالع في إنتاج المآلات، أو أنّ عقولا وأفهاما أفضت بدرجة أو بأخرى إلى نتائج كارثية وجرّت تداعيات بائسة.

ثمة ارتباط محتمل بين استعلاء “كاريزما العقل”، وهي ليست العقل عينه، من جانب وتفاقم مآسي الإنسانية وكوارث الأرض من جانب آخر. ألا يمكن الزعم أنّ تشغيل العقل البشري والجموح به في الآفاق مكّنا لفعل الاجتياح والفتك كما لم يحدث من قبل، فاشتغل العقل في خدمة الغرائز والأطماع أيضا أو رضخ لإملاءاتها؟ معروفة هي التفاصيل المروِّعة عبر القرون الأخيرة، أما الشواهد على ما ألحقه ما قد يُعَدّ اشتغال العقل بالكوكب الأزرق؛ فباتت تفترش الأغلفة وتنعقد لأجلها المؤتمرات الدولية. ولا مبالغة في الاستنتاج بأنّ هذه المآسي والكوارث قد شارك في صنعها الذكاء والإبداع المنسوبان إلى العقل، وإن ظلّ الجموح مدفوعا بنزعات غرائزية متأصِّلة. بوسعنا أن نعثر على صورة مصغّرة لذلك في نهايات مأساوية اندفع إليها أذكياء ومبدعون، ومن هؤلاء “العقلاء” فلاسفة ومفكِّرون اختاروا الإجهاز على أنفسهم وإنهاء حياتهم، أو قد يستنتج بعضنا بقدر من المجازفة؛ أنّ عقولهم قرّرت إخراج عقولهم من الخدمة.

والحال أنّ عمل العقل قد لا يكون ابتدائيا أو متجرّدا عن ملابسات شتى، لأنه لا يعمل في فراغ ولا ينفكّ عن تراكمات وتأثيرات وموجِّهات وقوالب نمطية وصور ذهنية، وبعضها أحكام مُسبقة ضخّتها في عقل أحدهم عقولٌ تعاقبت عبر الأجيال، حتى يمكن الافتراض بأنّ ما أعلنه صاحبنا، الممثل العربي على الشاشة الرمضانية، كان استدعاءً مكثّفا لحَشْو ذهني مُسبق تجرّد هو من نقده، أو لعلّه كان استجابة منطوقة لتأثيرات متضافرة تراكمت على وعيه دون تمحيص منه.

قد نهتدي بشيء من النظر والتحليل إلى أنّ بعضاً مما يزعمون أنه من عمل العقل وأحكامه قد لا يكون سوى الهوى والانسياق، أو العاطفة المتحكِّمة بالتفكير، أو الوجدان النفسي الذي يتمظهر بلبوس العقل، أو الأحكام المُسبَقة التي تحدِّد الاختيارات، دون أنّ تنفكّ طرائق التفكير والأحكام العقلية عن قوالب نمطية ومذاهب ونزعات واتجاهات جارفة في بيئاتها، بما يجعل أحكاما وتعبيرات رائجة من قبيل “لا معقول” أو “لا يدخل عقلي” مختلطةً بالهوى وفاقدةً لليقين، وأمارات ذلك حاضرة في منصّات التكفير العقلاني لمن يرغب في فحصها.

ينبغي الاحتراس على أي حال، فالتباس مفهوم العقل بوشائج شتى وتأويلات متعددة، لا يقضي بإلغاء العقل أو نفيه، وتلك خطيئة مؤكدة، وإنما يشي الالتباس باستعصائه على تحديد مُتفق عليه، وهو ما يتطلّب التدقيق في المقولات التي تزعم الاحتكام إليه، أو التشكّك في سلامة الشعارات وأمانة العبارات التي تتذرّع به، فبعض ما يُقال أنه “العقل” قد لا يكون عقلاً في الأساس، أو أنه ليس مجرداً عمّا يخالطه.

والحذر واجب من تلقّف ما يُنسَب إلى العقل دون تمحيص، فقد يُهَيْمن السياقُ على المغزى من الاستعمال، وربما على نحو يستحضر شعارَ العقل، بما له من بريق، في مواجهة قِيَم عليا ومصالح مؤكدة. فالتعقّل، مثلاً، قد يُقصَد به في خطابات رائجة: الانضباط والانصياع، أو التردّد والانكفاء. ويكفي أن يُزَجّ بالعقل في بلاغات السياسيين وبيانات الدول والحكومات، عندما تمضي، مثلا، إلى وصم بعض المواقف المضادة لمصالحها بأنها أنها تفتقر إلى “العقلانية”. ليس العقل في استعمالات كهذه وسواها هو العقل عينه، بل هو المقولة المُوظّفة بعناية في سبيل مقاصد منشودة وحِيَل لفظية، أو قد يأتي كنايةً عن معانٍ أخرى ظاهرة أو باطنة. فالعقل، كأي معنى سامٍ أو قيمة نبيلة أو معدن نفيس، هو مفهوم يُغري بتوظيفه واقتناصه في مساعٍ شتى، مع وفرة استحضاره في سياقات تبريرية وذرائعية أيضا.

لا تعسّف في الاستنتاج بأنّ التكفير العقلاني، بمنطقه الفجّ هذا وبنزعته الانتقائية الساذجة تلك؛ لن يزيد الأجيال الجديدة إلا رَهَقا. إنه يساوم المجتمعات على إيمانها الفطري ويبتزّها في معتقدها

وفي أتون الاستعمال الذرائعي يَفترض بعض المتساوقين مع نزعة التكفير العقلاني أنّ ما تبدو حجّة مُحكَمة هي كفيلة وحدها بإقناع العقول جميعا بكيفية سواء، وكأنّ اشتغال العقل يجري بصفة آليّة تنتظم فيها المُدخَلات والمخرجات على نحو متماثل لدى الناس كافّة وكأنهم معزولون عن النوازع والمؤثرات. لا يلحظ هؤلاء أنّ الجدليات العقلية تُفضي بفريق من الناس إلى اليقين وبفريق آخر إلى الشكّ وما يتجاوزه، لكنّ المرافعات الساذجة لا يطيب لها، عادةً، أن تأتي على شيء من هذه التفاصيل المزعجة، خشية أن تبدِّد الهالة القدسية المرسومة حول شعار اشتغال العقل؛ وكأنه يعمل في فراغ مستقلا عن نوازع نفسية وضغوط ثقافية وقوالب نمطية وأحكام مسبقة؛ يبدو بعضها طافحاً بتأثيراته في منابر التكفير العقلاني ذاتها بما تحرص عليه أيضا من لحن القوْل ومؤثِّرات الصورة والمشهد والأداء.

يبقى أنّ الذين يطوِّقون العقل بجُدُر حاجزة وأسلاك شائكة سعياً إلى تقديسه وحجباً لنقده؛ إنما يَسقطون في فخِّ تعطيل العقل ذاته، أليس نقد العقل من عمل العقل أيضا؟

استتابة الأجيال في عقلها

لا تكاد نزعة التكفير العقلاني تُلقي بالاً لإيمان الفطرة الدافي والعميق الذي يحرِّك القلوب وتنفتح له العقول، دون اشتراط الاستغراق في أعمال الفلاسفة وحجاج المناطقة؛ وإن كان الإيمان يتأكّد بلا ريْب بالتأمّل التفكّري والنظر العلمي والفلسفي الراسخ. تتغاضى النزعة عن حقيقة أنّ الإيمان مُيسّر للبشر وليس متعاليا فوق قاماتهم، فلهم أن يعيشوه دون تكلّف أيّا كانت حقبتهم التاريخية أو تموضعهم البيئي أو حصيلتهم من العلوم والمعارف، ولا تثريب عليهم في هذا؛ وإلاّ لكان الإيمانُ امتيازا زمنيا وجغرافيا، وطبقيا معرفيا، قابلا لأن يُحجَب مثلا عن البشر في أزمان الخزائن الموصدة على الكتب والأسفار.

لا تعسّف في الاستنتاج بأنّ التكفير العقلاني، بمنطقه الفجّ هذا وبنزعته الانتقائية الساذجة تلك؛ لن يزيد الأجيال الجديدة إلا رَهَقا. إنه يساوم المجتمعات على إيمانها الفطري ويبتزّها في معتقدها، ويطالبها بخوض اندفاعات شكّاكة كي تفوز أخيرا بوصف العقلانية؛ وإن اجتُثَت من يقينها التسليمي إلى حيْرة ما لها قرار. يطلب خطاب الاستتابة العقلانية هذا، من عموم الجماهير، الاندفاعَ الأهوج إلى تجديدَ إيمانها عبر افتعال الشكّ فيه، ويضعها في مأزق نفسي قوامه الشك في عقلها، وكأنه كان غائبا أساسا عن إيمانها ولم يستبطنه.

يرفع بعضهم خطاباته على قواعد واهية؛ مفادها الإيحاء الضمني بأنّ المؤمن لا يكون مؤمنا بجدارة إن لم يكن قادرا على خوض مرافعات كلامية وفلسفية مستفيضة، أو هكذا يُفهَم أحيانا مما يُقال ويُسمَع، فعلى عموم الجمهرة بالتالي أن تبرِّر إيمانها في مرافعات دفاعية مستميتة تحتجّ بالعقل وتعقد له البراهين المحبوكة بعناية. ألا يشبه هذا الموقفُ تنصيبَ “شرطة عقلانية” على مدخل بستان الحيّ كي لا تسمح بدخوله لمن يعجزون عن صياغة مبرِّرات الإقبال عليه في نهاية الأسبوع؟ لا يحقّ لك أن تنعم بمشهد الزهر المتفتح وأن تشتَمّ عبقه الزكيّ إن لم تتأهّل ابتداء لوصف آصرتك الوثقى معه في تجريد منطقي أو نص نثري أو مقطوعة شعرية، أو لعلّك تشرح خصائصه المتعددة وفضائل البستان على ما سواه، أو لن تكون سياحتك في البستان عقلانية وقتها إن سُمح لك بامتياز وُلوجه أساسا، أو لعلّك سائح من درجة دون سواك.

تسدِّد نزعةُ التكفير العقلاني في تذاكيها الدؤوب سهامَ النقد اللاذع في اتجاهات محسوبة، لكنها تحترس من أن ترتدّ سهام المناقشة النقدية صوبها. إنها تتحصّن بتعبيرات هلامية ومقولات فضفاضة، وتتسلّح بشعارات المرحلة ومقولاتها

لا غنى عن البرهنة العقلية على الاختيارات العقائدية؛ لكن بأيِّ منطق ومغزى تُطالَب المجتمعاتُ بعمومها بهذا المطلب المُبهَم بتأويلاته المتضاربة في إدراك الجماهير؛ التي يقع رميُها بالسذاجة الدينية والمروق من العقل إن لم يتأهّل كل فرد فيها، ممّن يتوجّه إليهم هذا الخطاب الجماهيري السابغ؛ لمهمة التعليل العقلي بالحجّة الدامغة والبرهان الجليّ؛ وإلاّ فإنهم لن يحظوا بحبِّ الله لهم أو رضاه تعالى عنهم؟ وهل يمكن تنزيل هذه المَطالِب على المشهد الاعتقادي في المجتمعات كافة؛ أم أنها تختص بمجتمعات العرب والمسلمين حصرا دون سواها تحت وطأة صورة سائدة بأنها المتخلِّفة عن ركب الحضارة؟

ينبغي استذكار ما أعلنه الممثل العربي الظريف من أنّ “إيمان الملحد” أقوى من إيمانه هو، وأنّ “الله يحبّ الملحد أكثر منّا جميعا، لأنه يبحث عن الحقيقة”، وأنّ الملحد بالتالي “مميّز عن كل الاشخاص الباقين”. كم يبدو هذا الخطاب مُفزعا بنزعته التكفيرية العقلانية السافرة، التي يواصل نفر من متصدري الشاشات والشبكات تأصيله وتقعيده وترويجه في مناحٍ تسلّحت بشعار العقل فكبحت اشتغاله في مواجهتها.

يتحصّن هؤلاء بمصطلحات ساطعة ومفردات بازغة يحتكرونها في مباشرتهم قصف أذهان الجماهير بمقولاتهم الساذجة المتناغمة مع اتجاه الريح في هذه المرحلة. ثم إنهم يضعون خصومهم في قوالب تصنيفية ذات سطوة معنوية للترهيب من محاولة نقدها، فالمعترض على هذا الانجراف المتشنِّج قد يكون هو “الجاهل المتنطِّع”، الذي “يهرف بما لا يعرف”، أو لعلّه “المتزمِّت المتطرف”، “المفتقر إلى عقل واعٍ وضمير يَقِظ”. من بوسعه أن يرفع رأسه أو يشغِّل عقله في حضرة القصف اللفظي والإيحائي الاستباقي الذي يلجم النقد ويكبح المناقشة؟ وإن اجترأ العقلاء على الردّ؛ فإنّ عليهم ابتداء أن يعلنوا براءتهم من وصمة الظلامية المارقة من العقل ودمغة الانغلاق المناهض للتفكير النقدي الحرّ، وأنهم ليسوا قطعا من “مشايخ اللحية والسواك” أو ما إلى ذلك من التصنيفات التعميمة الجاهزة.

تسدِّد نزعةُ التكفير العقلاني في تذاكيها الدؤوب سهامَ النقد اللاذع في اتجاهات محسوبة، لكنها تحترس من أن ترتدّ سهام المناقشة النقدية صوبها. إنها تتحصّن بتعبيرات هلامية ومقولات فضفاضة، وتتسلّح بشعارات المرحلة ومقولاتها، ويكفي القول، مثلا، إنّ خصومها هم “متطرفون” أو أنّ فيهم “داعشية”، أو أنهم خاضعون لـ”تحيّزات أيديولوجية” وموضوعون على قوائم الإرهاب. وهكذا يستقوي التكفيريون العقلانيون بسطوة المرحلة وسلطاتها ومنصّاتها وشاشاتها، وقد ينزلقون إلى خنادق الطغيان الاستبدادي الذي يحرِّض على التجهيل والبلاهة؛ بينما يواصلون هواية التذرّع بشعارات العقل والضمير والحرية والانفتاح، وببعض من القيم ينتقونها بعناية دون سواها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى