مقالاتمقالات المنتدى

“مودي” وأربع سنوات عجاف

بقلم صبغة الله الهدوي (كاتب هندي)

 

“مودي” وأربع سنوات عجاف

 

هنا لا تنبت الأزهار

ولا ياسمين ولا نوّار

هنا لا تولد الأطيار

ولا تسري على الأشجار

فقط تنمو هنا الأبقار

في ظل من الفاشية والعنف، في زي من الوطنية والعدالة والتقدم، مع موكب من أبواق التشدد والهندكة والثورات المزيفة تمضي هنا أربع سنوات من اعتلاء نريندرا مودي وفريقه عرش جمهورية الهند، تمضي هنا سنوات باتت فيها الأقليات تحت الخطر واليأس على حين غفلة من الفئات الدولية ، سنوات لا زالت الديمقراطية نقطة فوق الماء، سادت فيها الفوضى سياسة ودبلوماسية، سنوات حطمت فيها الهند قياسها السابق في الجرائم والتضخم المالي، حين أصبحت الحكومة دمية في يد آر أس أس وبعض من المنظمات الإرهابية الهندوسية مثل بجرنغدل وأبهنو بهارت، سيطرت فيها نواياها  كل المجالات من التربية والتعليم، ووجهت فيها دعايات سرية تستهدف وأد الحقوق الإنسانية وتهميش الأقليات من جادة السياسة والاتجاه القيادي، وجعلها آليات الانتخابات والتصويت، تلاشت فيها نداءات الملهوفين والمشردين، لا سيما بالنسبة إلى المسلمين حيث كانوا وما زالوا في زناد الفاشية منذ الاستتقلال، بل كانت هذه السنوات لهم صراعات للحياة والوجود، شاهدوا فيها سلسلة من المداهمات والاعتقالات، وملاحقات تقضي على مستقبل الشباب باسم الإرهابية وقداسة البقرة، فلو اختصرنا حصالة هذه الفترة القاسية لا بد من وصفها أنها كانت سنوات عجاف، عمت فيها ملامح اليأس والقنوط في قسمات الشعب الهندي، لحد أن طالت الشقة بينه وبين تاريخ دولته المفتفخر، انبترت فيها الخيوط التي نسجت من الوطنية والانتماء، فأبشع المحاولة التي قامت بها الحكومة المركزية تجاه شعبها كانت في تزييف تاريخ الدولة ورسمها من جديد، في حلة من القداسة وتألهة زعماء الهندوس وتنحية قادة العلمانية والديمقراطية أمثال غاندي ونهرو وأبي الكلام آزاد، الأعلام الذين ضحوا حياتهم لتشكيل دولة فوق أنقاض الاحتلال، والذين أوقدوا المصباح من رفات الشموع، ومنذ اعتلاء كتلة الديمقراطية المتحدة برعاية حزب الهندوسي الوطني تمركزت خطاباتهم في تشريد الأمة المسلمة وتصنيفها كمنظمة إرهابية وسعت في تعويق التيارات الإسلامية الزاحفة في السياسة حتى أبت لترشيح مسلم في الانتخابات البرلمانية بل امتدت لمنع المناهج الدراسية الإسلامية، فأصبحت الكليات الإسلامية والمعاهد الدينية وحتى المساجد على مرأى ومسمع من مراقبة الشرطة الدائمة وعملاء الاستخبارات، مع أن الاستخبارات والمناصب الإدارية العليا تختنق بهيمنة آر أس أس فوق ما يتخيل الشعب ويبث الإعلام، وتعلو من عتبتها نعرات ثورية تستثير وجدان الشعب وتورط شبابه حتى لا يرتفع أي صوت دفاعا عن حقه ووطنه، وهناك هند لم ترها في أفلام بوليوود، وطن خلف الشاشات والكواليس.

حين تقطع الدولة صلتها بالماضي

أساسا احترقت الهند وضلت مجاديفها في تيارات الفاشية الهائجة، وتاهت في دروبها برغم سيادتها وكرامتها في ماضي الأيام، وشرفها التليد الذي لم يستحق له أي وطن في خريطة العالم، الوطن الوحيد الذي لم يحتل أي بلاد في تاريخها المعلوم، وهي الآن كسفينة متهرئة انكسرت دفتها جراء هذه الرياح اللعينة، إضافة ولم تزل الرياح الهابة من وديان شمال الهند، من كشمير، من أتربرديش، وحتى من عاصمة الجمهورية دهلي تلقح فينا بذور اليأس والقلق، وتزعجنا عن مصير دولة قوية،  وتقلقنا عن مستقبلها، وتنسف الطموحات التي بقيت في باقات القلب منذ سنين، وتتعرش فوقها ليال سود قاتمة زالت نجومها، وتختفى من مسرح الحياة الهندية الهادئ معالم الإخاء، وتعترى الوجنات الباسمة حالة من الذعر والاضطراب، وتنغلق قسمات الوفاء، وتبقى بسمات المحبة أسطورة، محفورة بين الكتب الدراسية والأسفار التاريخية التي ستحرف أو تحرق عن قريب، تحتل مكانها صناع التزوير وأنظمة الدمار، هذه بعض من صور الواقع التي تعيشها الهند، فإنه يتشكل فيها جيل جاف انخلع من الأخلاق الاجتماعية، وسلوكيات الحضارة، وجمال الطبيعة وروعة الفطرة، ترخص فيهم  القيم والآداب ووعي الإنسانية، وتحجرت قلوبهم، يلتقطون السيلفي مع الجرحى والمستغيثين، وينشرونها أمام العالم، ويضحك على أوجههم الحزينة البائسة، وينحصرون إلى أنفسهم وعقيدتهم ولا يكترثون بحقية الغير وشرعيته، ويطبعون على أنفسهم أنهم بناة الحضارة ورجال التراث والتاريخ، ووراء تلك الدعايات المتجردة تتسع خرقة الانفصال والانشقاق يوما بعد يوم، ويتضايق صدر الشعب مسلما وهندوكيا ونصرانيا، لقد نجحت الفاشية في تشتيت الوداد وتشكيك الأنفس، توحي إلى الأنفاس بصمات سامة تخنق أنفسهم حتى لا يتخلصوا منها بسهولة، وأحدث الأخبار التي وردت من منصة الهند تعكس هذه الحقيقة المرة، تغتصب طفلة صغيرة مسلمة في حضرة معبد مقدس، عند صنم منصوب يعتبر آلهة لهم، يخدشها كاهن وشرطي، يشارك لحمها من تولى حماية الشعب والدين، ثم يبرر هذه الفعلة الشنيعة ولاة الأمور ويصدعون بها في الساحات العامة، فكيف يعود الأمن ويستقر في بلدة تتناسى عن ماضيها المزدهر، التي تفتخر بلمسة الغاندي وفناءه، وتسمو بقريحة نهرو وبصارته، والتي رفعت هامتها دائما أمام العالم، لثباتها في الرؤى والمواقف، لتضامنها مع الضحايا واصطفافها في مصف المواساة.

 فمع السنين تختنق الأنفس ويتشكل بينهم جدار فاصل يحميه حراس الفاشية، وتدب رويدا من الخيال إلى الكمال، من التراث إلى الحاضر، من الشارع إلى المحكمة، هكذا تجري الأمور على منوالها، في كل خطوة تضعها أنت في الهند تشهد سطوة الفاشية تلاحقك وتسارق النظر إليك، ورغم ذلك، تتزبد أصوات المعارضة وتتجمد أصدائها حتى تقتنع وتسالم لألاعيب المتربصين، وتصفق لهم، بل أصبحت المعارضة وحدات مفككة، تمضي بمشروعات مثقوبة، مع طوائف متناحرة، فشلت خططهم برمتها لتحطيم هالة نريندرا مودي وكسر صنمه وهرمه، لا بد من انتفاضة سريعة انفجارها وبعيدة آثارها حتى لا تشوب الفاشية بين اللحم والعظم ولا يختلط الحابل بالنابل، فأحزاب المعارضة التي تفككت وحدتها وتشتت كلمتها و لا تبعث أي روح في جسد الهند الآيلة إلى التردي والسقوط بل أصبح أكبر أحزاب المعارضة حزب كانجرس لا يسمن ولا يغني من جوع، فإن الجمود الذي تورط فيه الشباب الهندي  لعميق أبعاده جراء الاعتقالات والملاحقات التي تجري وتسعى وراء هذه الحركات، وكأن الحكومة تخاف كل حركة طفيفة وتتخيل أنها ضدها.

والأكثر عجبا والأعمق حزنا أن هذه الأجواء التي تعيشها الهند حاليا تزيد الطين بلة حيث إن الأحزاب اليسارية التي تبهر القنوات بتصريحاتها وتثير الجدل إبان بياناتها الرسمية ضد الحكومة المركزية تخضع لهذا التيار الجارف، وتنسحب من الساحات العامة مكتوفة الأيدي.

الفاشية ليست وليد لحظة

منذ استقلال الهند من احتلال البريطانيا واستعمارها لا زالت هناك محاولات شنيعة لاقتناص تراث الهند المقدسة، وجرت سلسلة من نوعها لامتلاك ناصية ماضيها ورسمها من جديد، مع أن الحقائق التاريخية تشير ببنانها الرافع إلى الخيانة التي اقترفتها منظمة آر أس أس تجاه الثورات للحرية، بل كانت هناك علاقة حميمة من وراء الباب بين قادتها ورئاسة بريطانيا الآثمة، وتبادلت بينهما رسائل غرام تساوم فيها موارد الهند وثرواتها الثمينة، ولم تتطلع عليها أي عين تراقب حتى مضت الهند عقدين متواصلين من الاستقلال، فانتفضت الفاشية من رقادها الطويل وتسللت إلى كل النوايا لتوسعة نفوذها الشامل على طول الهند.

وأخيرا تنقلت الأخبار عن عملية ذكية استهدفت ميادين الإعلام وأزاحت الستر عن الحرص الإعلامي على مليارات من الدولار، كشفت تلك العملية ستائر غامضة وراء نوايا المنظمات الهندوسية المتطرفة الطموح إلى الرئاسة بكل معانيها، عملية ضربت صفعة كبيرة على هامة المكرة تحت جنح الظلام، بل هي صورة عن أبشع وجه يمتلكه أرباب الإعلام وصناء الرأي والمثقفون خلف الكواليس في جمهورية الهند، أبشع وجه شهدته الهند فيما بعد الاستقلال، يخضعون لكل الرقصات المالية ولا يكترثون بالمصداقية وأخلاق الإعلام أصلا.

وهل تستطيع للهند أن تخلص تاريخها من قبضة العداء العادي وترسم لها معالم من جديد، وتصبغ هويتها المشوهة بصبغة من المودة والرحمة، مختزلا من روائع الحضارة ومحاسن الأخلاق، فإنه لم يك أحد يتخيل هكذا من هذه الحكومة التي صرحت دائما وأعلنت عن انتمائها وولائها للوطن، حتى تمكنت التنظيمات الهندوسية المتطرفة من الاعتلاء والنفوذ في سائر النبضات والحركات، حقا إنها حركة سرطانية تتآكل وتكبر في باطن لحوم الهند، ولم تك أبدا وليد لحظة أو  ظاهرة طيارية تزول، لأن لها جذور عميقة مترسخة لا تجتث، فإن معصمها لقوي جدا حتى لا ينقطع،  ولا يعالجها مهاتما عاندي من جديد، لقوي جدا لا يحطمها إلا الشعب المترضع من لبان الأخوة ومجد التراث الصامد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى