مقالاتمقالات مختارة

مواجهة التطرف الديني .. محاولة للفهم

بقلم د. مسفر بن علي القحطاني

منذ بروز مصطلح الإرهاب مع الثورة الفرنسية عام 1793 على يد ماكسميليان روبسبيير الذي سفك الدماء بحجة «الوطن في خطر» وقتل أثناء الثورة آلاف الأبرياء، والإرهاب يظهر ويزداد تحت مسميات وحجج متباينة مخلِّفا وراءه كوارث وحروباً عالمية. ولا تزال التنظيرات الفكرية تتوالد من دون انقطاع لمعرفة مسببات الإرهاب وكيفية القضاء عليه، بيد أن الجديد في العقود الماضية كان ظهور مكافحة الإرهاب من خلال التحالفات العالمية، وذلك بعدما أصبح الإرهاب خطراً مهدداً للدول والشعوب، وسبيلاً للإفساد في الأرض وإهلاكاً للحرث والنسل. وفي هذا المقال سأتطرق لحالة واحدة من التحالفات التي واجهت التطرف وقضت على مظاهره وجنوحه الخارجي، وهو التحالف بين الديني والسياسي داخل بلد واحد، مع رصد تجربة هذا البلد في معالجة أسبابه، من خلال أنموذج للتوصيف والتمثيل أُسقط على الحالة السعودية منذ 1925 بشكل مختصر. فالمملكة العربية السعودية في مواجهتها خطر التطرف والإرهاب مرت بتجارب عنيفة ومريرة تجاوزتها وقضت عليها، وأمام هذه التجربة الطويلة أحاول تقديم بعض الرؤى المفيدة في تعاملنا مع هذا الملف الخطير والمتنامي شرره في كل مكان بالعالم، وسأعرض بعض فصول هذه التجربة على النحو الآتي:

أولاً: واجهت السعودية التطرف الديني في ثلاث مواجهات رئيسة:

المواجهة الأولى: كانت بين الملك عبدالعزيز والإخوان، ويسمون «إخوان من طاع الله»، وهم بعض من قاتل مع الملك عبدالعزيز في حروب توحيد المملكة من بعض أبناء القبائل العربية في الجزيرة وزعمائها. وقد بدأت المواجهة منذ عام 1919-1930، بعد إنكار الإخوان على الملك عبدالعزيز إدخاله بعض المخترعات كالتلكس والهاتف والسيارة، وعلاقته بالبريطانيين، كما أنهم أشاعوا أجواء من الرهبة بسبب شدتهم وتكفيرهم لمن خالفهم، ولم يقاتلهم الملك عبدالعزيز إلا بعد مؤتمرات ولقاءات جمعته بقادتهم وبحضور علماء الشريعة من آل الشيخ وغيرهم الذين فنّدوا الكثير من شبهات الإخوان، ولكن تبين للملك عبدالعزيز أن الإخوان طلّاب حكم وسعاة نحو السلطة، وبدأوا ينقمون عليه بحجة حرمانهم من الولايات والنفوذ، لذلك تحول الخلاف الديني سياسياً، ثم تبعه الصدام الذي أنهى تمردهم في معركة السبلة عام 1929 (انظر كتاب: السعوديون والحل الإسلامي لمؤلفه محمد جلال كشك، الطبعة الثالثة 1982 الناشر غير معروف، ص 549-685).

المواجهة الثانية: وقعت في الحرم المكي عام 1979 وقادتها مجموعة من غلاة الجماعة السلفية المحتسبة الذين بدأوا الدعوة من خلال الاعتماد على بعض الأدبيات المتشددة في تكفير المخالف والإنكار العلني بالعنف والضرب والتكسير لبعض المظاهر المخالفة، وزاد من غلواء هذه الجماعة نظرتها المتشائمة للواقع وإيمانها بالمهدي المخلّص، فتحولت الجماعة بقيادة جهيمان العتيبي من مجال التعليم الديني إلى جماعة سياسية عسكرية، بدأت مشروعها العملي باحتلال الحرم المكي وإعلانها الحرب لمدة أسبوعين تقريباً، حتى تم القضاء عليها (انظر كتاب: أيام مع جهيمان لناصر الحزيمي، طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2011).

المواجهة الثالثة: وهي المواجهة الإرهابية الأخطر، والتي بدأت منذ عام 1995 في ما يعرف بتفجير العليا، وكانت تستهدف الأجانب من غير المسلمين ثم تحولت بوصلة «القاعدة» نحو رجال الأمن، ثم عمت تفجيراتها المواطنين المسلمين. وتظل الفترة من 2003-2011 هي الفترة الأكثر مواجهة مع تنظيم «القاعدة» التابع لأسامة بن لادن، اذ بلغت العمليات المنفّذة قرابة 59 عملية راح ضحيتها المئات من الأبرياء، وكانت فكرة إخراج المشركين من جزيرة العرب وتكفير الدولة ثم رجال أمنها ثم الراضين من المواطنين أساس ذلك الجنوح عن الدين، وتداخل معها في الأهداف ذاتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد 2012 عندما وجّه أمير التنظيم أبوبكر البغدادي أتباعه بمواجهة السعودية بعمليات تفجير واغتيالات تم بعضها داخل المساجد الآمنة بالمصلين، وفي خلال عام 2015 نفّذت داعش أكثر من 30 عملية إرهابية بمعدل عملية كل 12 يوماً (انظر: جريدة الشرق الأوسط عدد 13670، انظر كتاب: التحدي في مواجهة الإرهاب فكراً وسلوكاً لمؤلفه صالح خميس الزهراني، دار أسياد للنشر 2016).

هذا العرض السريع والملخص للمواجهات الدامية التي تعرضت لها المملكة ولا تزال، تبيّن ضراوة المواجهة وشدّتها، وقدرة الدولة على إفشالها ونجاحها في تجاوزها.

ثانياً: من أجل فهم أعمق لطبيعة المواجهة نحاول تفكيك بواعث هذه الجماعات المتطرفة ورصد أهم المشتركات بينها، إذ يظهر من خلال مراحل المواجهة أن هناك مشتركات رئيسة بين تلك التنظيمات الخارجة على الدولة يمكن إيجازها بأنها: تنظيمات سياسية هدفها الوصول إلى السلطة، تتدثر بلباس الدين والمزايدة على الدولة في تطبيق الشريعة، وتستغل قيادات تلك التنظيمات الأتباع من خلال العاطفة الدينية وبعض الأخطاء والمنكرات في المجتمع من أجل تعبئتهم تعبئة حدّية تقتضي المفاصلة مع الدولة والمجتمع، وتعتمد التراث الفقهي والعقدي لبعض أتباع الإمام محمد بن عبدالوهاب مادةً للتأثير والتأصيل لانحرافاتها، القائمة على النقل الحرفي بلا فقه للشرع أو الواقع، في وقت يقعون في ازدواجية وتناقض في عقيدتهم العسكرية مع العقيدة الدينية بشكل يتعارض مع أبسط أدبياتهم، فحين كان أحد زعماء الإخوان ينقم على الملك عبدالعزيز بسبب اجتماعه مع البريطانيين كان يتحالف معهم ويكاتبهم لأجل اللجوء إليهم، وكذلك تنظيم «القاعدة» المعروف بتكفيره عموم الشيعة، كان يتحالف وينسق مع إيران ويعيش أبرز قياداته فيها.

هذه المشتركات بين تلك المجموعات المتطرفة، تمنحنا النظر الى زوايا أخرى من الإشكالات في التعامل معها، كما أنها تفتح لنا أيضاً آفاقاً أوسع في المعالجة أو المواجهة لها.

ثالثا: يظهر من توقيت بروز تلك المجموعات المتطرفة إلى العلن في التاريخ السعودي الحديث، أنها ظهرت على شكل موجات بين كل خمسة إلى ثلاثة عقود (حركة الإخوان، وجهيمان، والقاعدة وداعش)، بمعنى أنها تظهر وتعلو موجتها ثم تنكسر بقضاء الدولة عليها، وبعدها بعقدين أو ثلاثة تظهر موجة أخرى وتكسرها الدولة… وهكذا. والسؤال هنا: لماذا تظهر تلك التشكلات المتطرفة في البيئة ذاتها؟ ولماذا تعود وتجد لها في الحاضنة الشعبية موقعاً للانتشار ولو كان نسبياً؟ وهل هناك علاقة زمنية بين تلك الحركات المتطرفة؟ حتى أجيب على هذا التساؤلات يجب أن نعلم أن هناك أفكاراً دافعة تلهب أي جماعة على البقاء أو العودة بعد القضاء عليها، وهذه الأفكار هي ملهمتها للتضحية والتبشير بين الأتباع، وأهم هذه الأفكار الاستعلاء العقدي والنضال لأجله، لكن هذا الاندفاع الفكري مترع بصور من الخلل العقدي، كما في مسألة التكفير والولاء والبراء ومظاهرة المشركين والموقف من البدعة وهجر المبتدع والإنكار على المخالفين ومحاربة المعاصي الظاهرة، والتوسع في وصف أي خلاف، حتى الفقهي، بأنه افتراق عن عقيدة الفرقة الناجية. وهذه المسائل ليست إشكالياتها في ميدان التنظير فحسب، بل خطورتها أنها تحتاج إلى تنزيل على الواقع، ونلاحظ أنه كانت هناك تطبيقات متنوعة لتلك المعتقدات، بعضها لم يصل حد الخروج على الدولة، ولكن التسليم بها جعلها باقيةً في الاحتجاج ومقررةً في الاعتقاد من دون مناقشة حقيقية توضح ما هو مسلّم به منها وما هو اجتهادي قابل للتغيير والتبديل، وترك تلك المسائل المشكلة والمهيّجة للخروج من دون حسم معرفي يتناسب مع مقاصد الوحي ومصالح الخلق، سيجعلانها قابلة للاشتعال كلما سنحت لحظة الخروج على السلطة، أما التراتب الزمني في ظهور التطرف كل ثلاثة إلى أربعة عقود، فربما يعني أن جيل التطرف بعدما انكسر عاد مرة أخرى من جديد مستفيداً من البيئة المحفزة ذاتها لنمو جيل آخر.

رابعاً: غالب هذه التنظيمات التي تنطلق من معتقدات راسخة لا يوجد فيها علماء راسخون اشتهرت عدالتهم وعلمهم ونصحهم بين الناس، وهذا يؤكد ما قيل في المسألة السابقة من ضرورة تصدي العلماء وهيئات الفتوى الرسمية لهذه الإشكالات قبل غيرهم من أنصاف العلماء، وبجرأة دينية، وأقصد بالجرأة هنا أنه لا اعتبار إلا للوحي المعصوم وما دونه من اجتهادات فهي محلٌ للنظر والإفادة وقابلةٌ للنقد والمراجعة، مع الحذر من تحول منبر العلماء إلى منبر سياسي يشيطن جهات لا علاقة لها بالتطرف، فهذا ما يفقدهم ثقة الجمهور، كما أن هذا النوع من المراجعة الجادة والعميقة لأدبيات تلك الجماعات المتطرفة لا ينبغي أن يكون على استحياء أو مجتزأً من أصوله المنحرفة، بل ينبغي أن يمارس بنقد علمي منهجي، يشمل ما سبق من فتاوى وآراء وضرورة فهمها وفق سياقها الزماني والمكاني وعدم نقلها من دون اعتبار إلى المتغيرات الحادثة، والقيام بهذا الدور لا يقضي على البعوض القاتل فحسب، بل سيجفف مستنقعاته التي يعيش فيها ويقضي على جذور التطرف من دون الحاجة لعسكرة المجتمع وإشغال الدولة.

خامساً: إن أهم المعضلات التي انتجت خروج تلك المجموعات المتطرفة جهلها بمفهوم الدولة وطبيعتها، وكيفية عمل مؤسساتها الحديثة وفق النماذج الواقعية، وهذا السوء في الفهم جعلها تعيش وهْمَ المثالية التي تقرأها في تاريخ الخلفاء الراشدين، وتدّعي قدرتها على إعادة دولة الخلافة الراشدة، وأصبح من الطبيعي في كل النظم السياسية المعاصرة أنها لن تقبل بمجال ثقافي أو اجتماعي ينازع أصحاب السلطة في وقت باتت كل أجهزة الدولة الحديثة تؤسس لهذه البيرقراطية قانونياً وميتافيزيقياً (انظر: الدولة المستحيلة لوائل حلاق، المركز العربي 2015، ص 66-83) ومن ثمَّ ندرك خطورة فهم الدولة خارج سياقاتها المعاصرة، وليس معنى ذلك تسليماً للاستبداد الظالم والبغي المحرم بنصوص الكتاب والسنة، ولكن أصبح من الظاهر أن منطق الدولة لا يتلاءم مع منطق التراث السياسي في الإجراءات وفق الصيرورات التاريخية التي مرت، ما يجعل تلك النماذج التي مرت (حركة الإخوان وجهيمان وداعش) خارج السياق المقبول للدولة الحديثة وشرخاً للمنطوق من نصوص عدم البغي والتعدي على سلطة الدولة القائمة بالعدل والحق.

سادساً: من المقبول عقلاً وشرعاً أن تحمي الدولة كيانها من البُغاة الخارجين عليها، لأن استعمالهم السيف موجب لقتالهم بالأداة ذاتها، والقوة المادية لا تُهزم إلا بمثلها، ولكن في مجال الأفكار الجانحة التي لم تتحول بعد إلى أفكارٍ للخروج المسلح ،لا ينبغي عقلاً وشرعاً أن تكون المواجهة فقط من خلال القمع بالقوة المادية، لأن هناك فرقاً جوهرياً بين الفعل الأمني والفعل المدني، خصوصاً في مواجهة أفكار التطرف، فالأمني يميل للحسم بقطع أصل الشجرة، بينما المدني ينزع في البداية الجذور من تحت الأرض وقد يوقف الماء والسماد عنها قبل ذلك، ثم أن الأمني قد يميل بسبب طبيعة عمله لمنع كل قنوات التأثير ولو بسبب جنحة واحدة، وهذا ما يسبب أحياناً أضراراً في المستقبل نتيجة منع مباحات أو برامج تم استغلالها من طرف مجموعة إرهابية، بينما المدني له موازناته التي لا تجعله يغامر في المنع والإغلاق إلا بعد التأكد من أن لا مجال وراءه للإصلاح، كما أن وسائل الجهات المدنية (المسجد والمدرسة والإعلام وغيرها) تمنح تنوعاً في المعالجة واستباقاً لتفكيك المواجهة، فهي في المعنى التداولي يطلق عليها القوة الناعمة، لتأثيرها الكبير في التغيير من دون خسائر أو توتر يهدد الأمن والتنمية، لذلك يعزز التكامل الأمني والمدني في مواجهة الإرهاب من قوة الأداء في جميع الجوانب، ويمنح فرصاً لمن زلت قدمه أو ضل فهمه للعودة والتوبة بدل أن يصرّ على جنوحه ويعيش للانتقام لأنه لم يعد له سوى ذلك الطريق.

وفي الختام… أرى أن واجب الوقت هو دحر هذه الكيانات الإرهابية ومواجهتها بكل صنوف المواجهة، لأن ظهور البغي والقتل مفسدٌ للحياة والأحياء، ولن يستقر المجتمع وهناك ذئب في داخله يتهيأ للقتل والتخريب، وهذا الواجب هو الدافع للكتابة وفتح الباب لمناقشة الأسباب والمؤثرات، خصوصاً أن المملكة العربية السعودية أعلنت في أيار(مايو) الماضي إنشاء مركز دولي لمكافحة التطرف (اعتدال)، الأبرز عالمياً في هذا المجال، ولعل هذه المساهمة السعودية تقوم بحرب حقيقية للتطرف، وتفنّد الدعاوى الإعلامية أو الحرب المزيفة التي يمارسها بعض الدول الغربية والشرقية التي تعلن الحرب على الإرهاب أمام الكاميرات بينما تغذّيه وتدعمه من تحت الطاولة وتغض الطرف عن تلك الذئاب الإرهابية التي تتجول في عواصم العالم بأمان وسلام!!، ولكن لا غرابة، فالإعلام المؤدلج يترك المستفزات الهادمة للقيم والدين تعربد بلا ضبط أو منع، أو يفسح لتلك البلايا المتطرفة والمتماهية انتفاعاً بوجود الإرهاب، ثم يصرّ على ربطه بالمملكة والوهابية، ناسية أو متناسية أن المملكة حاربت هذا التطرف لأكثر من قرنٍ من الزمان متحملةً كل آثاره السيئة، وفي النهاية لا يمكن الباطل الإرهابي أن يستمر ما لم يجد له محرضين ومنتفعين، ومهما بلغ هذا الزيف ذروته إلا أنه سيتلاشى ويزول عاجلاً أو آجلاً ولن يصح إلا الحق الصحيح، وصدق الله تعالى إذ قال:» وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81 الإسراء) «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (24 الشورى).

(المصدر: مجلة الحياة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى