مقالاتمقالات مختارة

من يجرؤ على ترشيد “الحكم الرشيد”؟

من يجرؤ على ترشيد “الحكم الرشيد”؟

بقلم حسام شاكر

تعلّم الصاعدون إلى منصّات الأمم أن يردّدوا شعاراتٍ صيغت في غير بيئاتهم ومقولات نُحتت في غير منابتهم، ولم يحرص بعضهم على فحص المفاهيم وتمحيص المزاعم؛ أو لم يجرؤوا على نقدها ومساءلة أدعيائها، فقد تنزّلت عليهم جاهزةً بنسخها المتعاقبة من منشئها للأخذ الذي لا يحتمل منهم ردّاً ولا شكّا، وهو ما جرى بوضوح مع تقمّص مفهوم “الحكم الرشيد” والخطابات المتفرِّعة عنه والمقولات المرتبطة به؛ كما وردت من المصدر.

 

اضطراب في المفهوم

لا يصحّ، ابتداءً، غضّ الطرف عن اضطراب مفاهيمي يتلبّس بعض الخطابات التي تناول مصطلحات شائعة تختلط في بعض دلالاتها؛ مثل “الحكم الرشيد”، و”الحكم الجيد”، و”الحكم الصالح”، و”الحكم الراشد”، ونحوها. وبعض الاضطراب يعود إلى طبيعتها الفضفاضة في أصلها، وإلى أطوار ولادتها ونضوجها، وإلى خلط الترجمات مع خبرات ذاتية وإسقاطات تاريخية. وقد تُلمَس في بعض هذا الاضطراب نزعةٌ رغائبيّة تُسقِط نموذجاً محدّداً على مفاهيم متصوّرة أو مُستلّة من سياق مُغايِر. فالقول مثلاً، في الترجمة، إنّ Good governance هي “الحكم الرّاشد”، قد يمنح في السياق العربي/ الإسلامي تصوّرات تتخطّى حدود المفهوم الذي يقع تعميمه عالمياً في سياقات إنمائية أساساً؛ برعاية الأمم المتحدة ومنظومة “بريتون وودز” (صندوق النقد والبنك الدوليين) والديمقراطيات الغربية عموماً.

ثم إنّ نَحْت مصطلح “الحكم الرّاشد” أو “الرّشيد”، باللغات اللاتينية، يواجه إشكاليّات تتعلّق بالمخزون الإيحائي للمفردات المقترحة تعبيراً عن “الرُّشد”، وكذلك باستعمالات شائعة لبعض هذه المفردات كما نجده في خيار: Ration, rational مثلاً، والتي تلتصق بخلفيات تاريخية وفلسفية وفكرية وأنماط شائعة في السياق الأوروبي/ الغربي لا تُطابق مقصد الرُّشد المعنيّ في التناول العربي/ الإسلامي للمفردة، وقد تختلط بمفهوم “العقلنة” أيضاً. وتتّسع الخيارات الجديرة بالنظر لتشمل مثلاً: right guidance أو right path، وقد يجدُر مع هذا الاختلاط نحت مصطلح مستقلّ على أساس اشتقاقي أو إدماجي أو إحلالي من العربية أو غيرها مثلاً، وهو ما يتطلّب إفاضة مستقلة بذاتها.

أما في التنزيل التطبيقي للمفهوم؛ فإنّ أدبيّات “الحكم الرّشيد” تنصرف إلى التركيز على موجِّهات وأدوات ومواصفات إجرائية يُرجى منها استيفاء الانضباط والشفافية في الحكم والإدارة؛ مع استدعاءات مبدئية وقيمية محسوبة. ممّا يقتضي الانتباه في هذا الصدد أنّ خطاب “الحكم الرّشيد” يتوجّه غالباً إلى نطاق الممارسة وأشكال التطبيق الذي يتركّز، أساساً، في نطاقات معرّفة الأداء والكيفيات Know How وضبط الممارسات والسعي إلى ضمان مواصفات معيّنة من الالتزامات و”الجودة” وقطع دابر عبث التصرّف وإساءة الاستغلال، وهذا كلّه في حقول مخصوصة غير سابغة.

نفترض في هذا المقام أنّ “الحكم الرّاشد”، في المفهوم المتعارف عليه في الدائرة الحضارية الإسلامية، يبقى أوسع نطاقاً من مقصد القول بـ Good governance، إذ يُرجى منه أن يحتوي، عموماً، ما يأتي ضمن مفاهيم “الحكم الرّشيد” كما يجري تداولها، وأن يعلوها إلى تحرِّي الرُّشد في مقاصد الحكم والإدارة والتقيُّد بالتزامات مبدئية ومواصفات قيمية ذات صِلة، فلا يُهمِل الرُّشد من هذا الوجه مسألةَ الدواعي Know Why أيضاً. يُفترَض بمقولة “الحكم الرّاشد”، بهذا المعنى، أن تتوجّه إلى المقاصد العُلوية أو الشاملة عبر طرائق سليمة وأساليب ناجعة ووسائل لا غُبار عليها، بينما ينصرف خطاب “الحكم الرشيد” كما هو رائج – أساساً وليس حصراً – إلى مواصفات الطرائق والأساليب والوسائل؛ وإنْ تشبّع بنبرةٍ قيميّة؛ بغضّ النظر عن مدى الامتثال لهذه القيم في الموجّهات والمعايير والمؤشِّرات المتفرِّعة عنه، علاوة على اقتصار خطاب “الحكم الرّشيد” على مجالات محددة غالباً.

لهذا التفريق بين الأداء والوجهة انعكاساتٌ واقعية وتبعات عملية ملموسة؛ فقد تصعد – مثلاً – إلى قيادة بعض الدول والحكومات والمجالس النيابية قوى تستعمل الشحن الشعبويّ والنبرة العنصرية والتأجيج المجتمعيّ، دون أن تُخِلّ في صعودها هذا بما يأتي في أدبيّات “الحكم الرشيد” المعولمة تلك، لكنها لا تستأهل وصف “الرُّشد” كما يُفهَم في إطاره الرّحب. فرُشد الممارسة الإجرائية يبقى “رُشداً جزئيّاً” أو منقوصاً، ولا يقطع برُشد الوّجهة وسلامة المبدأ وحُسن الخطاب؛ وهما معاً يمثِّلان “رشداً كلياً”، أو هكذا يُفترَض.

ليس من فراغ، بالتالي، أن يُمتدَح نظام قهرٍ واحتلالٍ وفصلٍ عنصري باعتباره “دولة ديمقراطية” و”دولة قانون”، كما في إشادات تأتي من داخل ديمقراطيات غربية بحق كيان الاحتلال في فلسطين، رغم أنّ امتيازات “الديمقراطية” المزعومة هذه إنما تنزّلت في واقع من البغي والفصل والاضطهاد، على نحو يوحي في هذه الخطابات بأنّ الديمقراطية مجرّد نظم وإجراءات لا تُطلَب منها التزاماتٌ مبدئية وأخلاقية وقيمية. وتعبِّر مقولة “دولة القانون” عن هذه الإشكالية بوضوح، فإن عُدّت “دولةُ القانون” فضيلةً لا تُنكَر بما تنطوي عليه من مرجعية القانون وأنظمته واستقلالية القضاء وحقّ التقاضي والترافع المكفول للجميع؛ فإنّ ذلك لا يقضي بتزكية ما ينضح به الفضاء التشريعي من قوانين وأحكام. وقد يبلغ الأمر بالقانون ذاته أن يُلقي بأعباء تفرقة على فئات معيّنة يطاردها المشرِّعون، وهو ما يتجلّى في خبرة أنظمة الاحتلال والتفرقة العنصرية التي مارست القهر والسلب والفتك باستعمال قوانين استندت إليها وعمدت إلى تحديثها أولاً بأوّل في خدمة مراميها. أي أنّ الوجه الآخر لمقولة “دولة القانون” أنّ ممارسة التمييز والاضطهاد المؤسسي أو الرّمزي بحقّ مكوِّنات مجتمعية يتمّ فيها بغطاء قانونيّ مُكرّس لهذا الغرض، ولمثل هذا شواهد لا تخطئها العين من أعرق الديمقراطيات وهي تلجأ إلى توفير ذرائع قانونية لثقافة الحظر والتضييق المسلّطة على مكوِّنات معيّنة.

مؤشرات جزئية قاصرة

بوسع المؤشِّرات المُتاحة عن واقع الدول والحكومات أن تمنح، في الغالب، تصوّراً عن “الحكم الجيد” أو “الرّشيد”، وفق مواصفاته المعزّزة دولياً، وليس عن “الحكم الرّاشد” وفق المفهوم السابغ في عمقه التأويلي العربي/ الإسلامي؛ سواء أتعلّقت المقارنة بحالة “الرُّشد” بمؤشِّراته الموضوعية التي تقوم على الحقائق؛ أم بمؤشِّراته الانطباعية التي تتعلّق بالمُدرَكات. وقد لا تهتزّ هذه المؤشِّرات جوهرياً حتى إن تحوّلت وجهة القيادة في مسائل الالتزام المبدئيّ والقيميّ. ولا تُسمَع، مثلاً، تحذيراتٌ أو تنبيهات، من أنّ صعود أشخاص اشتُهروا بنبرة عنصرية أو ببرامج تقوم على التفرقة، إلى أبرز مواقع القيادة في دول غربية، من شأنه أن يُلحِق خللاً ما بالحكم الرشيد، لأنّ مفهوم الرُّشد، أو الجودة على نحو أدقّ، ينصرف في هذا المقام إلى آليّة التسيير ولا ينشغل كثيراً بوُجهته أو بوجوه مغيّبة من التزامه الأخلاقي.

من وجوه الإشكالية ما يتجلّى في تركيز مؤشِّرات “الحكم الرّشيد” على النطاقات الداخلية للدول، رغم أنّ السياسات الداخلية لا تنفكّ عن تأثيرات متعدِّية إلى الخارج؛ مثلاً على صعيد التسلّح وتصدير الأسلحة والذخائر التي تُذكي الحروب والنزاعات، وسياسات التعاون الإنمائي والعلاقات الخارجية عموماً، وتأثير سياسات الدعم المكرَس لإنعاش قطاعات زراعية وإنتاجية على توازنات التجارة الدولية، وغير ذلك من الشواهد.

ويُعَبِّر قطاع الأعمال عن محاكاة تجريدية لمسألة “الحكم الرّشيد” ذاتها، فالحوكمة أو الحكامة Governance في هذا القطاع سبقت إلى فصل المِلكيّة عن الإدارة، وسعت إلى تحقيق الشفافية وتعزيز المُساءلة. لكنّ ذلك لم يضمن في واقع الممارسة؛ التزامَ قطاع الأعمال ذاته بالقيم والمبادئ في حركته ضمن المجتمعات وعبر الأمم، بل حقّقت المعاييرُ والنظمُ الإجرائية “الرشيدة” شروطاً أفضل له في سبيل الانضباط الذاتيّ والتطوّر في الأداء وربّما تحسين فرص جني المكاسب والأرباح المتضخِّمة، وهذا بغضّ النظر عن سلامة الوجهة وحُسن المقصد ومدى استفادة قوى العمل والشعوب المستهلِكة والمجتمعات المحلية من أعماله. أي أنّ تحقُّق “الحوْكمة” لا يقضي باستيفاء “الرُّشد” بمفهومه الكلِّي أو في إطاره العام المبدئي والأخلاقي والقيمي، بينما لا يُنتظر أن يتحقّق رشدٌ كليّ بمعزل عن توجّهات “الحوْكمة”، وإن سُجِّلت على منهجياتها ومضامينها ملاحظات أو مآخذ.

ينبغي، على أي حال، تشخيص “الرُّشد” المقصود، لأنه لا ينفكّ في بعض أبعاده عن فلسفات ومبادئ وتوجّهات تُشكّل مرجعيّة أمّة ما وثقافتها وقد تنصّ عليها المواثيق والدساتير، عادةً، أو تعيد الثقافة المجتمعية السائلة إنتاجها وتضمينها في أدبيّات تخضع للتحوير المستمرّ. فالرُّشد بهذا المعنى لا يُفهَم بمعزل عن سياقه أو بصفة منفصمة عن النسَق الذي يكوِّن تصوّرات ذاتية عن القيم والمبادئ وكيفية تمثّلها في الواقع.

قد تتحقّق في المؤسسات المصرفية الخاصة، مثلاً، مبادئ الحوْكمة، بما يعين هذه المؤسسات على النموّ والازدهار من خلال الإتقان والجودة الإدارية؛ لكنّه امتيازٌ لا يقضي ببراءتها من مثالب معيّنة في الجشع المؤسسيّ أو من إنعاش اختلالات مجتمعية وتوسيع فجوات اقتصادية في المجتمع المحلي أو في النطاق الإنساني العريض الذي عبره تعمل ومن خلاله تتمدّد أو تؤثِّر فيه بدرجة أو بأخرى؛ على نحو مباشر أو غير مباشر. وكما في مفعول التطوير الإداري لصناعات ومرافق تُهلِك الحرث والنّسل؛ تتجلّى في هذا المقام مفارقةٌ جديرة بالنّظر، هي أنّ الإدارة الناجعة والامتثال للحوْكمة والأخذ بمعايير “الحكم الرشيد”، في الأطر الضيِّقة أو النطاقات الخاصّة وحدها؛ قد يُفضي من هذا الوجه إلى نتائج عكسية بمنظور “الرُّشد” العامّ. يعود هذا، في جانب منه، إلى أنّ عَقْلَنة الإدارة والأداء أو ترشيدهما لا يقضيان باستصحاب التزامات مبدئية وأخلاقية وقيمية ذات صلة، لأنّ العقلنة والترشيد قد يُسخّران في هذا المقام، أساساً، في خدمة مقاصد نفعية يرجى بلوغها بكفاءة أعلى مع التخفّف من الالتزامات المبدئية والقيمية والأخلاقية.

لا ينبغي لذلك أن يسمح باندفاعة تُهيل التراب على أدبيّات “الحكم الرّشيد” ومؤشِّراته، فالمسعى يقضي باستدعاء التمحيص عند الأخذ بها، واستصحاب نقد جريء لها مشفوع بالسعي إلى مراجعتها وتطويرها على نحو مستمرّ، والمشاركة في إنضاجها المتواصل ضمن نقاش عالميّ متكافئ. ويقتضي “الحكم الرّاشد”، بدوره، تطويراً مفهومياً يشمل المقاصد والأساليب معاً، مع ضمان الإحاطة والاشتمال في النطاقات، وتطوير توجيهات إجرائية وأدلّة تطبيقية ومؤشِّرات نموذجية متعدِّدة تعبِّر عن هذا المنحى، علاوة على تحفيز ثقافة عالمية داعمة لهذا التوجّه على مستوى الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني؛ ودوائر الاختصاص والمجتمعات الأهلية وعموم الجماهير.

قد يُدفَع بالقول إنّ هذا التطوير المفاهيمي المنشود يتطلّب الانبثاق عن أرضية تطبيق كي لا يأتي معزولاً عن الواقع. وهذا التقدير، إن صحّ، يُفترَض أنّ شروطه متاحة في واقع الممارسات القائمة في نطاقات ملتزمة، مبدئياً على الأقل، بما تقرِّره أدبيّات “الحكم الجيد” أو “الرّشيد” ذاتها، وفيها يُتلمّس قصورُ المفهوم وتتجلّى حدودُ الممكن وتُرسَم المعضلاتُ الماثلة للعيان وتتشكّل التساؤلات المعلّقة في الأفق. ثمة خبرات وتجارب وتطوّرات ومساهمات وتراكمات تعاقبت بحقّ، لكنها لم تبلغ بالتاريخ نهايته، فبعضها يَقصُرُ عن معالجة المعضلات والاختلالات الكامنة في واقع التطبيق؛ أو حتى في النموذج ذاته. لا غنى في هذا الصّدد عن نقد المفاهيم ومراجعة التطبيقات وتمحيص التجارب، حتى إنْ لم تتأهّل المراجعاتُ النقدية إلى اجتراح خياراتٍ بديلة قابلة للتنزيل في الواقع.

وثمة مسألة تتعلّق بمدى الحاجة إلى/ القدرة على اجتراحٍ نظري/ مفاهيمي، وتطبيقي/ إجرائي ذي طابع كوْني/ سابغ للحكم “الرّشيد” أو “الرّاشد”؛ أي بصفة متجاوزة للخصوصيات الثقافية والدينية والإثنية والبيئية، مع قابليات تكييفه في التنزيل بما يراعي هذه الخصوصيّات وكي لا يُخلّ بالتزاماتها إن لم تتنافَ مع “الرُّشد”. ينطوي هذا المسعى، بلا ريْب، على إشكاليّات شتّى تتعلّق بضبابية مفهوم “الرّشد” ذاته وتأويلاته المتعددة ومدى تمثُّل “الرُّشد” أو “الصلاح” أو “الجودة” في المكوِّنات الفكرية والفلسفية للأمم؛ بكل ما ينبثق عنها على صعيد المقاصد والوُجهات التي لا يُتصوّر سكبُها في قالب أحادي. قد يتأتّى الخيار في هذا المقام عبر “كلمة سواء” تقوم على تحديد مواصفات الحدّ الأدنى الممكن في المقاصد والوُجهات، مما لا يصحّ تجاوزه بحالٍ ضمن مفهوم الرُّشد عموماً؛ وعلى نحو يقطع دابر الانتهاك أو الضّرر المُحتمل على أي من الأطراف في مجتمع إنساني متنوِّع، كي لا يتعارَض “الرُّشد” في التنزيل المخصوص مع “الرِّشد” الجماعي أو المُشترك؛ أو “الرُّشد” في المفهوم الإجمالي العامّ.

قد ينصرف التطوير المفهومي للحكم “الرّاشد” إلى المستوى النقدي، على نحو بديل أو رديف، فيأتي تطويراً يراهن على الرقابة على النظام العام System واتجاهاته وأبعاده وملابساته، بدل الاكتفاء الشائع بأدوات ومواصفات إجرائية تقليدية وما يتفرّع عنها من مؤشِّرات. بهذا المعنى؛ يُرجَى أن تعزِّز توجّهات “الحكم الرّاشد” أبعاداً أخلاقية ومعنوية في النظام العام والمؤسّسات والأنساق عموماً، فيتحرّى من هذا الباب حُسنَ المقصد وسلامة الوجهة. وقد شهد الاجتماع الإنساني مساعيَ ومحاولاتٍ وتجارب شتى في هذا المقام، تحرّك بعضها تحت عناوين ناقدة لسياسات العولمة الاقتصادية مثلاً أو نزعات الحظوة المتضخِّمة والاحتكارات الكبرى، وهذه جميعاً لها أفكارها وأدبيّاتها وعبّرت عنها اتجاهاتٌ نقدية وحركاتٌ مجتمعية وموجاتٌ جماهيرية متلاحقة.

“الحكم الرشيد” ومسألة النطاقات

إنّ للديمقراطية حدوداً، حتى في الأنظمة الديمقراطية، فهي تضمحلّ، أو يتضاءل فعلها وتأثيرها خارج نطاقات معيّنة، فتبدو عاجزة عن التمدّد والاشتغال الفعّال، وإن بقيت حاضرة في مجال الشعار والمقولات المُجرّدة عن الواقع. يتجلّى ذلك، مثلاً، في واقع اشتغال السياسات الخارجية، وفي عمل الأجهزة الرسمية التي تنشط في الظلّ (الاستخبارات مثلاً)، وفي نهَم الرأسمالية العابرة للحدود ضمن قطاع المال والأعمال والتشبيك العالمي.

يجدُر الإقرار بأنّ أدبيّات “الحكم الرّشيد” المعولمة في انكبابها على “الرُّشد الجزئي” أو المنقوص؛ لم تمنح عنايةً كافية للهوامش الواسعة للغاية التي تقع خارج النطاقات المحلية/ الوطنية أو خارج “مجال رؤية” الجماهير، وهو ما يتّضح في مفهوم الموارد، ومفهوم المواطنين، ومفهوم المشاركة، ومفهوم المساءلة، مثلاً. فهذه المفاهيم تتنزّل غالباً في أدبيات “الحكم الرّشيد” وما يتفرّع عنها من أدلّة عمل مفتوحة ومؤشِّرات رصد ومتابعة وتقييم؛ ضمن نطاقات المؤسّسة، والمجتمع المحلي، والإدارات، والدولة، أو في نطاقات تسيير منظمات دولية ونحوها.

ورغم ريادة الأمم المتحدة في تعميم ثقافة “الحكم الرّشيد” ونشر مفاهيمه وتطبيقاته؛ إلاّ أنّ ذلك لم ينعكس بأمانة ومصارحة على واقعها ذاته، وتتجلّى هذه المفارقة في أهمّ الهياكل التي تتبعها؛ ممثلاً بمجلس الأمن، حيث يُختزَل “الرُّشد” في جوانب إجرائية جزئية للتسيير المؤسسي الصِّرف؛ لا في روح المؤسسة أو في نظامها الذي يقوم على احتكار الحظوة لصالح دول دائمة العضوية واختلال النفوذ وإعاقة التكافؤ في المشاركة وقابلية التعطيل الممنوحة في فرص المساءلة، وغير ذلك من الاختلالات المترتِّبة على ذلك.

وتتجلّى مسألة النطاقات هذه، أيضاً، في قدرة الشركات متعددة الجنسية على التملّص عالمياً من الالتزامات التي تُعلِن الامتثال لها في النطاقات المحلية أو الوطنية. إنها من هذا الوجه قد لا تنتهك معاييرَ الحوْكمة كما يبدو ظاهرياً؛ لكنها عبر الصيغ المتعددة التي بوسعها اللجوء إليها في الحضور العابر للحدود؛ قادرة على اقتراف تجاوزات أخلاقية ومبدئية جسيمة وقد لا تكون مرئيّة في بلدان المنشأ. وليس من عجب، والحال هذه، أن تتلازم ظاهرةُ “الواحات الضريبية” المنفلتة من المساءلة مع الاتجاه العالمي لتعزيز الحوْكمة، وأن تُلحّظ تشابكاتٌ بين ظاهرة التذاكي والتملّص الضريبي هذه من جانب؛ ورأس المال الذي يُفترَض وفق المؤشرات المتاحة أنه يتحرّك في فضاء “مُحَوْكم” ويحظى بـ”شهادات جودة”، من جانب آخر.

وإن ارتكز الحكمُ الرشيد إلى الديمقراطية؛ فإنها لا تقضي بممارستها في النطاقات الخارجية أو الامتثال لمقتضياتها في “سياسة العالم الداخلية”، المصنّفة ضمن السياسات الخارجية للدول، فالأولوية فيها تبقى لمنطق المصالح والأمن القومي والاستراتيجيات الدفاعية والحربية والاستخبارية ونحوها. يُفترَض بالحكم “الصالح” أو “الجيِّد” أو “الرّاشد” أو “الرّشيد” أن يتحرّى تحقيق العدالة والحقوق والحرِّيّات، والالتزام بأن لا يتعطّل في نطاقات مجتمعية معيّنة سريانُ القيم المقرّرة والمُلتزَم بها دستورياً و/أو مبدئياً، إذ عليها أن تكون سابغة على الجميع، وأن يقع تحرِّيها والسعي إلى التقيّد بها في “الداخل” و”الخارج”، فالرُّشد يفترض التزاماً شاملاً وليس أخذاً جزئياً بمقتضياته.

يُفترض بالرُّشد الكلِّي أنه مفهوم سابغ ولا يصحّ تعطيله عند حدود أو نطاقات أو موضوعات معيّنة. يقتضي هذا، مثلاً، تطوير آليّات التحاكم الدوليّ على نحو مستقلّ عن توازنات القوى، ومساءلة السياسات الخارجية أيضاً، مع تطوير آليّات إفصاح فعّال تُلزَم بها الأجهزة والمؤسسات التي تعمل في الظلّ؛ مثل الأجهزة الأمنية والاستخبارية والعسكرية وأروقة راسمي الاستراتيجيات الموصدة على مَن فيها. إنّ سَعي الديمقراطيات إلى تعميم ثقافة “الحكم الرّشيد” على مستوى عالمي؛ يٌفترض به أن لا يغفل عن سياساتها الخارجية مثلاً أو سلوك قوّاتها في عبر العالم، وأن لا يعمى عن التزامات مُنتظرة من قطاع الأعمال العالمي الذي يعود في منشئه، غالباً، إلى بلدان ديمقراطية متنفِّذة.

الاجتراء على النقد والمساءلة

من الإشكاليات التي تتلبّس محاولة إسباغ توجّهات معيّنة على مستوى “كوْنيّ”؛ ما يتّضح لدى استلال معايير “الحكم الرّشيد” من خبرات أمم ومجتمعات وتطبيقات دول وأنظمة واعتبارها مرجعية للعالم بأسره. فهذا الاستلال ينطوي على إشكالية إغفال السياقات التاريخية التي تطوّرت من خلالها التجارب، ويشي بتجاهُل خلفيات فلسفية وموجِّهات فكرية طبعت التجارب إيّاها بتأثيرات قابلة للتشخيص، علاوة على التغاضي عن خصوصيّات ثقافية ومؤثِّرات بيئية لا تنفكّ عن مخاضات التجارب ذاتها وواقعها ومستقبلها. وفي فعل التنميط والمعيارية الذي يقوم عليه عرض التجارب وأدلّة العمل المرجعية ما قد يتخطّى خبراتٍ ومخزونات محلية لدى ثقافات وأمم ومجتمعات وبيئات أخرى يُنتظَر منها، بالتالي، أن تكتفي بممارسة فعل الأخْذ والتقمّص إزاء مُخرَجات جاهزة تطوّرت في سياقات غير مطابقة لسياقاتها.

ما تفرضه هذه الإشكالية، على الأقلّ، عدم التنازل عن الحسّ النقدي وروح التمحيص إزاء “مُخرَجات” معيارية في “الحكم الرّشيد” تجري عَوْلَمتها بصفة تطبيقات جاهزة للأخذ، كما يتطلّب الموقفُ التداعيَ إلى تكييفها خلال عملية التنزيل ضمن سياقاتٍ لم تتطوّر فيها أساساً، ولا يعني هذا التكييفُ خوضَ مقارباتٍ توفيقية جزئيّة أو محاولات تلفيقية مشوّهة، بل ربما إعادة إنتاج مقاربات متكاملة تراعي واقع بيئة التنزيل ومخزوناتها الذاتية وخبراتها. ولا ينبغي لذلك أن يُسقِط هذا المسعى في قبضة مزاعم الاحتماء بـ”الخصوصية” التي تحاول بهذه الحيلة درء الإصلاحات التي لا غنى عنها؛ أو إيصاد الأبواب والنوافذ في وجه التغيير المستحقّ.

من الإنصاف الاعتراف بأنّ الواقع المشهود عالمياً يصفع نزعة التعالي على أسئلة النقد الملحّة في مسائل “الحكم الرّشيد” وغيرها. فكيف للأجيال الجديدة أن توفِّق بين شعارات “الحكم الرّشيد” الساطعة وأدبيّاته المنثورة في الفضاء الأممي؛ بينما تصدر من أمم يقود منظومة الحكم والإدارة فيها على جانبي الأطلسي أمثال دونالد ترمب وبوريس جونسون؟ وأي رُشد أفضت إليها هذه الموجِّهات المعولمة على صعيد “الأهداف الإنمائية للألفية” التي انهارت بضلوع مباشر من دول كبرى واصلت التبشير بها سنين عدداً تحت مظلة الأمم المتحدة؟ وهل يكون الرُّشد رشداً إن لم يَقوَ على النقد والمساءلة والمحاسبة الجريئة؛ في عالم تتداخل فيه المصالح وتتشابك فيه المصائر كما لم يحدث من قبل؟

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى