مقالات مختارة

من هم صناع القرار الشرعي؟

بقلم د. محمد بن علي البيشي

إن “القرار الشرعي ” الموافق للحق ؛ هو نفسه الذي يطلق عليه علماء أصول الفقه مصطلح ” الحكم الشرعي ” ، و حقيقته أنه توقيع عن الله تعالى ؛ سواء أكان ذلك في المستخرَج من دليلٍ ظاهر ، أو دليلٍ يُـحتاج معه إلى استنباط خاص ، وقد حددت الشريعة أوصاف المؤهلين و حصرت اتخاذ القرار الشرعي فيهم ؛ بقوله تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، و قوله ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، ولا أشك أن هذه المقدمة هي من مسلمات باب الفتوى بل من مباني الشريعة الـجــِـسام، وكان لعلماء الصدر الأول و رجاله مواقف لا تنسى و آثارٌ لا تطمس ؛ في تهيُّبِـهم من الإقدام على هذه الإمارة و المنصب الرسالي العظيم ، فمن ذلك :

قول الشافعي : ” ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع لابن عيينة ، و لم يكن أحد أسكت منه على الفتيا ” .

وقول الخطيب : ” وقل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها ؛ إلا قل توفيقه ، واضطرب في أمره ، وإن كان كارهاً لذلك غير مؤثر له – ما وجد عنه مندوحة- وأحال الأمر فيه على غيره ؛ كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب ” ا.هـ .

و في المقابل أيضاً ثبتت لهم جدارة منقطعة النظير عند من بُـلي بتولي إصدار القرارات الشرعية على مضض ، والمقام هنا أوسع من فوهة بركان.

و الناظر إلى الواقع يلتمس أنماطاً متعددة في صناع القرار الشرعي ، أدونها في الآتي :

1- نمط تعالمي: يلهث وراء الشهرة و تحصيل عواقبها ، أو محبة التصدر في مجامع الناس ، دون تكامل مكونات طالب العلم التي رسمها العلماء في المتصدي لإفتاء الناس ، وذلك من خلال توزيع أرقام هاتفه في كل مناسبة ، و الإجابة عن جميع الأسئلة التي ترده ، بل يستنكف من قول اسألوا فلاناً ، أو من قول ” لا أدري ” ، وجناية هؤلاء الأغرار في قراراتهم على جملة الشريعة معلومة وعقوبة الله في مثلهم مفهومة ، وجاء في السِّير أن رجلاً رأى ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي ، فقال : ما يبكيك؟ فقال : اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم ! قال : ولَبَعْضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق !.

2- نمط صراعي: فهو في صراع داخلي عنيف ليثبت ذاته بأي وجه وعلى حساب من كان ، فلا يجد هذا الـمُـلتحف بدثار الشريعة إلا أن يعبر عن ذاته بالتقاط و نشر الآراء الشاذة ، أو مصادمة مباشرة لفتاوى كبار العلماء الربانيين ، أو اختيار رأي مهجور والاستماتة دونه ، و هل يكتفي بذلك ؟ لا أظن ، بل يتجاوز المرحلة ليعقدَ عمليات مقالية استشهادية – تصريحاً و تضميناً – لتصفية الخصوم ، ولن يطمئن باله إلا بالظفر في هذه المعارك الدموية بقراراته التي تثبت أنه ” هو ” !! ، وهنا أتذكر مقولة حكيم بأحد جدران أزقة مدينة جدة القديمة – بعد أن نفدت محاولاته – بنصف شطرها الثاني : ( . . . فهذا خط يدِّي فاذكروني ) !! .

3- نمط انتقائي: لا يقبل الحكم الشرعي ابتداءً فيطمئن إليه ويعملَ

به مباشرة ! ؛ لا ، بل يجعل عقله – الضعيف المتهالك – مشرحةً وميزاناً لتمرير كل الفتاوى عليه ، فإن صادفت هوى في نفسه دافع عنها وأخذ بها وصنع القرار الشرعي بنفسه لنفسه ، وبرَّر رأيه بأمور مادية مغلفة بشعار المصلحة الشرعية و الواقع !! ، وإن خالفت توجهاته فلا أقل من أن يصفها

بأنها : ( نحن رجال وهم رجال ، الآراء تموت مع أصحابها ، لو كان حيا

لتغيرت فتواه ، فيها تضييق على الناس ، أحاديث متوحشة . . . ودواليك ) ، ولا يخرج صاحب هذا النمط من إحدى دائرتين :

أ – أنه صاحب وسوسة و شك : فهو مرض ؛ قد يُرجى برؤه .

ب – أنه من أتباع المدرسة العقلانية الإسلامية ” لبرالي مسلم !! ” : و خطر هذه الطريقة ظاهر .

4- نمط انعزالي: هو ذو الكفاية الشرعية الذي يرى و يبصر أن محيطه محتاجٌ إليه ؛ لتغطية الشاغر الإفتائي والإعلامي والدعوي و التعليمي ، فيصدر قراره الشرعي الخالي من التسريح أو الإحسان !! بالبعد والعزلة عن ذاك المحيط ، ومستنده في جريمته تلك الزهد عن المناصب أو الورع في الدنيا ، ولم يدرك أنه قد هيأ فرصة سانحة ليهتبلها غيره من أصحاب التوجهات والغايات المناقضة ، يا له من ورع بارد ، فلا غرو و قد قيل : قد يجدُ الجبانُ (36) حلاًّ للمشكلة ، ولكن لا يُعجبه سوى حلٍّ واحد ؛ هو الفِرار .

5- نمط مشتت: هو من طلاب العلم بل قد يتقلد منصباً شرعياً كالقضاء أو الإمامة أو الخطابة و غيرها ، ولكنه وليد الحادثة ، خدين الراحة والدعة ، صاحب تذوق و تصنيف للناس بين ظن و يقين ، يشتغل مرة في العلم وأخرى في الدعوة ، ومرة في الإفتاء ، ومرة في كتابة المقالات ضد من يعتبرهم أعداءً ، وفي الإطراء لشخصيات يتجاسر في الدفاع عن حياضها ؛ لأنه تاب على أيديهم ، حديثه إيغال في التفاهات و المباحات ، أهدافه قد تسلل إليها العجز ، و إن صَدَقت عزيمته تناول مسائل فقهية من صغائر العلم ليظهر إشغاله المجلس بذكر الله تعالى ، وقد أضفى هذا المشتتُ على منهجه قرار القـُدسيَّة الحـَــــرَميَّة قولاً واحداً ، ولم يعلم – و لعله مارس فن التغافل ؟!

– بأن اشتغال القدوات بالجزئيات ، والأمة تُجتَثُّ من جذورها ؛ من أعظم الخيانةِ لها وللمنهج الربَّاني الذي كُلِّف بحَملِه وتبليغه .

6- نمط تطرُّفي (غلاة أو جفاة): الغالي هنا : هو ذلك المتسلح بشهادة عليا أو تزكية رصينة ؛ أخذها من مساجدنا و جامعاتنا الإسلامية ، ، ليتجلى له بعد حين – لانفصام طارئ – أن يتخذ قرارا شرعياً مصيرياً يدخل به الجنة من أبوابها الثمانية ، وتزفه حورها إلى رب كريم ؛ بأنه و أتباعَه الوحيدون في العالم الذين نزل القرآن ليخاطب عقولهم ، و يخالط شغاف قلوبهم ، و أنه لا أحقية لبقاء جنس كافر في الوجود ، بل إن البلاد السعودية – خاصة – بعلمائها و حكامها في نظره الضبابي مرتدون يجب أن تقام عليهم شعائر التذكية ؛ إما بالتفجير أو التحريض ، فتباً لهم إذ تنكبوا فكبكبوا وقد قال الله : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

والجافي هنا : عالم شرعي فقيه ، لا يحفظ من مقاصد الشريعة إلا 🙁 يسروا ولا تعسروا ) و قول الناظم ( ومن مقاصد الشريعة التيسيرُ . . .) ، يطير قلبه فزعاً عندما يشاكسه من أفتى له بخلاف ما أراد في سؤاله ، همه الأكمل كسب ود الجميع ، وكأن ضميره المحتضر لا يعي أن خالق الناس هو أرحم بهم منهم ؛ إذ هو من أحل و حرم ، و إذا قدم له النصيحة مشفقٌ بادر بجوابه كالمستنكِر الثائر ؛ ألم تسمع قول الثوري : ” العلم أن تسمع الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل يحسنه ” ، فيا لها من خيانة ، وأحطه من تقرير .

7- نمط الراسخ: هم العلماء الذين ثبتت أقدامهم في مسائل العلم ، قدوات في أقوالهم وأعمالهم ، صدورهم و ورودهم من كتاب و سنة ، وكلاء وأمناء الله على دينه و وحيه ، يقول العارف العالم ابن القيم : (فقهاء الإسلام ، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام ، الذين خصوا باستنباط الأحكام ، وعنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام ، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء ؛ بنص الكتاب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، هؤلاء هم صناع الحكم والقرار الشرعي ؛ الدائر بين الأجر والأجرين .

جعلنا الله تعالى ممن يستبين لهم الحق ويتبعونه

المصدر: صيد الفوائد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى