من تراث الأزهر: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
بقلم فضيلة الشيخ عطية صقر (رحمه الله)
سُئل فضيلة الشيخ العالم الأزهري عطية صقر:
ما التهلكة الواردة في قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟
فأجاب رحمه الله:
هذا جزء من الآية { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] جاءت هذه الآية بعد آيات تتحدث عن الجهاد في سبيل الله.
وفيها أمور ثلاثة، أولها الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وثانيها النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وثالثها الأمر بالإحسان، أما الإنفاق في سبيل الله فمعناه واضح وإن كان سبيل الله واسع الميدان فمن أهمه الجهاد، وكذلك الإحسان واضح المعنى فهو يلتقي مع الإنفاق في سبيل الله في أكثر مظاهره وإن كان من معانيه الإجادة والإتقان والإخلاص في أي عمل. على ما جاء في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وأما الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ففي تفسيره عدة أقوال: لا تتركوا النفقة ولا تخرجوا إلى الجهاد بغير زاد ولا تتركوا الجهاد، ولا تدخلوا على العدو الذي لا طاقة لكم به ولا تيأسوا من المغفرة وقد قال الطبري: هو عام في جميعها، كما ذكره ابن العربي في أحكام القرآن.
ومن الوارد في ذلك ما رواه البخاري عن حذيفة أن الآية نزلت في النفقة، وكذلك قال ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس كما ذكره القرطبي، وقال المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وذكر القرطبي خمسة أقوال في تفسير هذه الآية. وقال: روى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران أنهم في غزو القسطنطينية حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: إنه يلقي بيديه إلى التهلكة! فصحح لهم أبو أيوب الأنصاري معنى الآية بأنها نزلت في الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه قالوا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها لأنها ضاعت. فالتهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو.
ثم تحدث القرطبي عن حكم اقتحام الرجل في العرب وحمله على العدو وحده. وقال: إن بعض العلماء المالكية أجازوا أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة، وقيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ}.
وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فهو حسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتَل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنّس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أُقتَل ويُفتح للمسلمين! وفعل البراء بن مالك حيلة في حرب بني حنيفة حتى دخل حصنهم وفتح الباب فدخل المسلمون.
وذكر القرطبي ما رواه مسلك في دفاع رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقاتل العدو حتى قُتل، وفعل مثله العدد القليل الذين أحاطوا بالرسول، وهذا دليل على أن المخاطرة التي فيها منفعة للمسلمين لا بأس بها ولا تُعد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما ذكر القرطبي عن محمد بن الحسن أن المخاطرة بالنفس إذا كان فيها طمع في النجاة أو النكاية في العدو لا بأس بها، وإلا كانت مكروهة لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، إلا إذا قصد تشجيع المسلمين حتى يصنعوا مثله فلا بأس بها لأن فيها منفعة لهم على بعض الوجوه.
ثم تطرق القرطبي من حكم المخاطرة في الجهاد إلى المخاطرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وفي حديث النسائي وابن ماجه بسند صحيح: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وجاء مثل ذلك في أحكام القرآن لابن العربي.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)