من تراث الأزهر .. ودخلت الخيل الأزهر
مقدمة
حلت في شهر ديسمبر وبالتحديد في اليوم الخامس، ذكرى وفاة الأستاذ الجليل والمفكر الإسلامي الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، وقد خلّف وراءه العديد من المؤلفات الرائقة ومن دررها كتابه “ودخلت الخيل الأزهر”، والذي نستعرض في ركن “تراث الأزهر” اقتباسات منه تذكرنا بدور الأزهر العظيم ومكانته، ولكن قبل البدء: من هو محمد جلال كشك؟
ولد الأستاذ كشك بلدة المراغة، بمحافظة سوهاج، بصعيد مصر، عام 1929م، وسط أسرة متدينة محافظة؛ فكان والده يعمل قاضيًا شرعيًّا، وهو أول من أصدر في مصر حكمًا شرعيًّا بتكفير البهائيين، كما يذكر الأستاذ محمد جلال كشك عنه. تلقى تعليمه الأولي والثانوي بالقاهرة، لسكنه حينئذ بالمنطقة الواقعة بين شارع سوق السلاح وباب الوزير بحي الدرب الأحمر بالقاهرة القديمة التاريخية، والتحق بعدها بكلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1947 ليتخرج منها عام 1952، وقد أدى امتحان نهاية العام وهو سجين في معتقل “هايكستب”، بتهمة التحريض على قتل الملك فاروق، ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يُعتقل فيها، بل تكرر اعتقاله في الحقبة الناصرية.
وقبل أن يعتنق الفكر الإسلامي، اعتنق كشك الشيوعية عام 1946، وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري، وبعد خمس سنوات من الانتظام في الحركة الشيوعية، اعتزلها عام 1950م. وعاش لفترة حالة من عدم الانتماء، وفي عام 1962م كتب سلسلة مقالات بعنوان (خلافنا مع الشيوعيين)، فردّت عليه جريدة البرافدا السوفيتية -وكانت أول مرة تهاجم صحفيًّا مصريًّا باسمه- وقالت: “إن استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء للاتحاد السوفيتي”. فأُخرج من حقل الصحافة عام 1964م إلى عام 1967م, حيث قضى ثلاث سنوات حُرم فيها حق العمل، ثم أُعيد للعمل في مؤسسة (أخبار اليوم).
أقام جلال كشك وأسرته ببيروت طيلة مرحلة السبعينات حيث عمل صحفيًّا بجريدة الحوادث اللبنانية. وفور انتخاب الرئيس الأمريكي رونالد ريجان في نوفمبر 1980م، أدلى بتصريح لمجلة التايم قال فيه: “إن المسلمين قد عادوا إلى الداء القديم، أو الاعتقاد القديم بأن الطريق إلى الجنة هو الموت في القتال ضد المسيحيين واليهود”.
وكان الاحتجاج الإسلامي الوحيد هو برقية من جلال كشك، بينما التزم الجميع الصمت، وقد قال في برقيته: “إن الحرب الدينية التي سجّـلها التاريخ ودخلت في قاموس الفكر الإنساني كرمز للتعصب الديني اسمها «الحروب الصليبية»، وليست الحروب المحمَّدية ولا الهلالية، فلسنا الذين اخترعنا الحروب الدينية، ولا نحن الذين نحتنا صيغتها واسمها في تاريخ الإنسانية، وليس ذنبنا أن المعتدين علينا، وعلى بلادنا واستقلالنا من المسيحيين واليهود. ولا جريمة إذا اعتقد المسلم الضحية أن الله يرضى عن الذين يدافعون عن استقلال بلادهم”.
وأصيب الأستاذ كشك بأزمة قلبية حادة، فاضت روحه على إثرها في يوم الأحد 21 جمادى الآخرة عام 1414، الموافق 5/12/1993م، ودُفن في مصر، وأوصى أن يُدفن معه في مقبرته ثلاثة كتب: «السعوديون والحل الإسلامي، ودخلت الخيل الأزهر، وقيل الحمد لله».
الأزهر يقود الأمة
يقول الأستاذ كشك رحمه الله:
((في أكتوبر 1798 دخلت الخيول الفرنسية الأزهر، وأعمل الجند الفرنسيون السيف في طلبته وشيوخه، ونُهبت الكتب ومُزقت مخطوطات عمرها عدة قرون، ألقوها أرضًا ووطئتها سنابك الخيل، ونهب بعضها اليهود الذين كانوا في خدمة جيش الاحتلال. ثم اتخذ الجند من المسجد -الجامعة- إسطبلًا للخيل، وظلَّت فيه حتى تشفَّع الشيخ “الجوهري”، الذي لم يقابل في حياته حاكمًا، ظالـمًا كان هذا الحاكم أو عادلًا. ولكنه خرج على النهج الذي ألزم نفسه به، وتوجه إلى “نابليون”، طالبًا خروج الخيل من الأزهر. وأدرك نابليون خطورة احتلاله المهين للأزهر وعمق تأثيره في المصريين فأمر بالجلاء عنه؛ ليلقي القبض على عدد من مشايخه ويقطع رءوسهم في سجون القلعة.
كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر، التي يُمتهن فيها الأزهر على هذا النحو، وأول مرة يتطاول فيها حاكم على شيوخه إلى حد الإعدام؛ ذلك لأنها كانت أول مرة يحتل فيها مستعمر أجنبي مصر منذ أن كان الأزهر.
كان “الأزهر” هو رمز سيادة الأمة، ومركز قيادتها. وما إن سقطت “الدولة” المصرية في معركة إمبابة، حتى أصبح الغازي المحتل، والأزهر، وجهًا لوجه. فقاد الأزهر مقاومة الأمة على جميع المستويات: من المقاومة السلبية التي قادها الشيوخ الكبار داخل مجالس نابليون، وداخل التشكيلات الإدارية التي أقامها لحكم البلاد، إلى المقاومة الوطنية العنيفة التي قادها الشيوخ الصغار، بتنظيم حركات سرية، وأعمال المقاومة الشعبية -التي وصلت ذروتها بتنفيذ أهم ثورتين عرفهما الشرق في ذلك الوقت- إلى أعمال الاغتيال التي نظَّمها ونفَّذها بنجاح طلبة الأزهر، “المجاورون”.
كان الأزهر يمثل الكيان المتميز لهذه الأمة، يمثل ذاتها وتراثها، وإمكانية مستقبلها، وأدرك المحتلون ذلك كله؛ لذا نراهم في نفس الوقت الذي يجرون فيه المفاوضات والمساومات مع الباب العالي بهدف التفاهم معه، ويعقدون الاتفاقيات مع فلول المماليك، ويصبح كبيرهم “مراد” بك بمثابة موظف أو قائد قوة بوليسية تابعة للمحتل الفرنسي.. في نفس الوقت كان الصدام يتصاعد يوميًّا بين جيش الاحتلال أو السلطة الفرنسية وبين الأزهر، وانتهى ذلك الصراع بإغلاق الأزهر وتسمير أبوابه بعد مصرع كَليبر، وفي عهد خليفته الذي ادعى الإسلام: “عبد الله جاك مينو”!
نعم.. لقد فتح الأزهر أبوابه بعد ذلك؛ لأن الحملة الفرنسية انتهت أيامها في مصر، واضطرت إلى الجلاء، ولكن هذه الحادثة -أعني إغلاق الأزهر- عبرت عن طبيعة العلاقة الوحيدة الممكنة بين الاحتلال الغربي، وقيادة الأمة. كانت الحملة الفرنسية هي طليعة “الاستعمارية الغربية”، وكانت تجربة السنوات الثلاث التي قضتها في مصر كافية لإقناع هذه الاستعمارية بأنه ما لم تتم تصفية الدور القيادي الذي يلعبه “الأزهر”.. فلن يمكن لأي استعمار غربي أن يستقر على ضفاف النيل.
لقد سقطت مصر خلال ساعات عندما كان أمراء المماليك يتولون الدفاع عنها، ودخل “نابليون” القاهرة سعيدًا مستبشرًا حالمًا بإمبراطورية “الإسكندر”، فلما برز “الأزهر” لأنه هو وحده الذي بقي في الساحة وتحمل شيوخه المنتشرون في كل قرية مصرية -بالوجود أو بالفكر أو بالتوقير- مسئولية قيادة مقاومة الأمة، لم يبِتْ جيش الاحتلال ليلة واحدة هادئة طوال ثلاث سنوات، ولم يسجل تاريح الشعوب الشرقية، قبل مقاومة الشعب المصري، ولسنوات أخرى عديدة بعدها، مثل هذه المقاومة العامة والشاملة للوجود الغربي، التي شهدتها مصر في الفترة من 1798 -1801.
كان رفض الوجود الغربي على أرضنا رفضًا عامًّا شاملًا وعنيفًا، وكان لا بد أن تُصفَّى قيادة الأزهر؛ لا عن طريق احتلاله بالخيل، ولا بتسمير أبوابه، بل بتسمير باب قيادته الفكرية للأمة؛ بتغريب المجتمع من حوله، حتى تُقطع جذوره أو تذوي، ويبدو نشازًا متخلفًا، بل ويصبح رمزًا “للتخلف”، ومثار السخرية والتندُّر.
هذه هي المهمة التي تولاها بنجاح رجل الغرب وممثل مصالحه “محمد على باشا”، الملقب “بالكبير”، مؤسس مصر “الحديثة” وباعث “نهضتها”، ومسلّمها فريسة عاجزة إلى الاستعمار الغربي)).
تنظيم الثورة ضد الاحتلال
ويقول الأستاذ كشك عقب انطلاق ثورة القاهرة الأولى ضد الاحتلال:
“لم يكن الأزهر الذي صب نابليون نيران الثورة الفرنسية عليه، يمثل فقط القيادة المباشرة لثورة أكتوبر 1798.. بل كان قيادةَ الأمة كلها، تاريخيًّا وواقعيًّا ومستقبليًّا. لذلك كان الحقد عليه والتركيز على سحقه مسجدًا وجامعة ومجاورين ومشايخ .. ونفوذًا..
“وبدأ ضرب الأزهر بالقنابل حوالي الظهر، واستمر إلى المساء، وأصدر بونابرت أمره إلى الجنرال بون بأن “يبيد كل من في الجامع”([1]). “فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين، كسوق الغورية والفحامين”([2]).. “وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان، وهدمت في مرورها حيطان الدور، وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكائل، وأصمَّت الآذان بصوتها الهائل”.
“استمر ضرب البنادق الموجه للبطاريات الفرنسية من مآذن جامع السلطان حسن وقبته طوال العصر، ولما أقبل المساء وأحدثت القنابل فعلها أحدقت ثلاث أورط من المشاة و300 فارس بالأزهر، وتقدم رجالها لا يعترض ضربهم وسيوفهم معترض، ودخلوا الجامع عنوة”.
“وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهَّارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوَّطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرُّوه، ومن ثيابه أخرجوه”.
نعم ويل للمغلوب، وكان هذه هي أول مرة في التاريخ يُقتحم فيها الأزهر على هذا النحو، وتهدر كرامته بهذا الأسلوب البربري، الذي لا يشبهه إلا الاحتلال الصليبي لبيت المقدس في القرن الحادي عشر، ولا يفوقه إلا إحراق الاحتلال الصهيوني للمسجد الأقصى في القرن العشرين.
وفي كتاب “نقولا الترك” أن نابليون رفض الجلاء عن الأزهر، وأن هذا الاحتلال قد أحدث أثرًا فظيعًا في الجماهير المصرية وقياداتها (وما زال العامة في مصر حتى الآن يضربون المثل على أبشع ما يمكن أن يقع بقولهم : “الخيل دخلت الأزهر”).
كان الأزهر كما قلنا هو مركز قيادة وزعامة الأمة المصرية، ورمز عزتها وسيادتها، واقتحامه وإهانته على هذا النحو هو إهانة للأمة أو إعلان لهزيمتها على يد غازٍ بربري.. فهو ليس مجرد مسجد.. فالفرنسيون هدموا عدة مساجد وضربوا الأزهر من مسجد السلطان حسن، الذي احتلوه وركبوا المدافع في مآذنه.. ولا شك أن الاعتداء على حرمة المساجد أثار المصريين وأهان مشاعرهم، ولكن الأزهر أكبر من ذلك.. وباقتحامه على هذا النحو، سقط كل زيف حاول الغزاة أن يستروا أهدافهم خلفه.. وأصبحوا وجهًا لوجه ضد الأمة.. ضد الشعب المصري.. فمهما تكن خسائر ثورة القاهرة الأولى، فإن مكسبها الأعظم هو كشفها طبيعة الصراع المصيري بين الغزاة والأمة.
وقد سجل “نقولا الترك” أن “الشيخ محمد الجوهري” (وقد عرفنا مكانته وزعامته في الفصل الأول) دخل على نابليون قائلًا: “ما قابلت حاكمًا عادلًا كان أو ظالمًا، والآن قد أتيت متوسلًا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر. فقبل نابليون رجاءه وأمر بإخراج الجنود من الأزهر”.
رحم الله الشيخ “الجوهري”، عرف أن كرامة الأمة وكرامة رموزها ومقدساتها.. فوق الكرامة لفردية. وعرف أن مصر قد احتلها الأجنبي وأصبحت مستعمرة، وأنه لم يعد بالإمكان -كما كان الحال- أن يترفع قادة الشعب عن زيارة الحاكم. وغفر الله للشامتين بنا الذين يعتبرون أن مصر تحررت في هذه الفترة بالذات وبدأت تمارس الحكم الوطني![3]
وكانت نية نابليون متجهة إلى هدم الجامع الأزهر، فقد أصدر الجنرال برتييه رئيس أركان الحرب تعليمة (وهي صادرة بأمر القائد العام إلى الجنرال بون بتاريخ 23 أكتوبر): “يهدم الجامع الأكبر ليلًا إذا أمكن، وترفع الحواجز والأبواب التي كانت تسد الشوارع”([4]).
ثم بدأت “العدالة” الثورية الفرنسية في الاقتصاص من “الثوار البلديين”! سواء في القاهرة أو في الأقاليم: “بعقوبات رهيبة، شرفتنا ورفعت قدرنا”([5]). كما وصفها تتري فرنسي!
ومن أجل المزيد من التشريف ورفع القدر أصدر نابليون للجنرال برتييه: “تفضل أيها المواطن القائد بأن تأمر قومندان القاهرة، بقطع رءوس جميع المسجونين الذين أُمسكوا وبيدهم سلاح. فليُؤخذوا إلى شاطئ النيل بعد هبوط الظلام، ولتُلقَ جثثهم المقطوعة الرءوس في النهر”([6]). وفضلًا عن هؤلاء المسجونين، أُعدم في القلعة ثمانون عضوًا من “ديوان الدفاع” (الذي تزعم الثورة)، وهكذا نجد جهرًا بالعفو عن الأبرياء وإعدامًا للمعارضين في الخفاء، وتحت جنح الظلام، وهي سياسة خليقة بأن تحظى برضاء ميكافيللي”([7]).
واستمرت عملية “التشريف ورفع القدر”، فتم قطع رؤوس ستة من المشايخ الذين اتُّهموا بقيادة الثورة، والمؤرخون الذين يتشدقون بشكلية محاكمة “سليمان الحلبي” لا يكلفون أنفسهم عناء تبرير إعدام هؤلاء المشايخ بلا محاكمة معروفة ولا وقائع.. بل إعدام شيخ طائفة العميان بتهمة القيام بعمل مسلح ضد المدفعية الفرنسية. بل ولا يخجل إمام من أئمة المدرسة الاستعمارية مثل “هيرولد” من تبرير جريمة نابليون، بأن يخلع على هؤلاء المشايخ أوصافًا تحريضية مثل “لا جدال في أن هؤلاء الرجال كانوا أشد رجال الدين المسلمين تعصبًا وتهييجًا للجماهير”([8]).
ــــــــ
([1]) بونابرت عن المراسلات ج5.
([2]) الجبرتي، ج3.
[3] الأستاذ جلال كشك يقصد مدرسة التغريبيين الذين يرون أن الاحتلال الفرنسي كان بداية تحرر مصر، وفي طليعتهم لويس عوض، الذي كان هذا الكتاب كله رداً عليه. [مجلة كلمة حق]
([4]) الرافعي، ج1.
([5]) بونابرت عن Fertray P . 86 .
([6]) بونابرت عن مراسلات الخامس 79-90.
([7]) هيرولد – بونابرت في مصر.
([8]) ن.م .
(المصدر: مجلة كلمة حق)