مقالاتمقالات مختارة

من النسق المغلق إلى النخبة المتخصصة (1)

من النسق المغلق إلى النخبة المتخصصة (1)

بقلم محمد جلال القصاص

قدمت في مقال سابق (لماذا يختلف الإسلاميون؟) أن أفضل طريقة لحل الأنساق المغلقة (الجماعات أو التكتلات الإسلامية) أن تتحول إلى ظواهر اجتماعية متخصصة، وأن هذا الحل لا يُحدث فجوة تضر بالحالة الإسلامية؛ وذلك أن الأنساق المغلقة الموجودة حاليًا أقرب ما تكون إلى تخصصات تبعًا لإمكانات الأفراد، ولولا أحادية النظرة والإصرار على الحسم لما حدث تضارب بينها. وأحاول في هذا المقال والذي يليه إلقاء الضوء على مفهوم الظواهر الاجتماعية التي أراها، ولست هنا أنقل ما تحدث به علماء الاجتماع وإنما أعرض تأملات جاء بعضها من مجال السياسة وبعضها من واقعي الصحوي الذي تربيت فيه.

تتكون الظاهرة الاجتماعية- الجادة أو المنحرفة- من خمسة أشياء: مرجعية علمية، ونخبة، وعوام، وأبنية، وأدوات، على النحو التالي:
1- المرجعية: شخصية (أو شخصيات) علمية ضابطة للفن الذي تقوم عليه الظاهرة، ويرجع إليها الناس حين تشتبه عليهم الأمور ويجدون عندها إجابة على أسئلتهم. وتتكون المرجعية من شخص أو مجموعة أشخاص (مركز أبحاث مثلًا).

2- النخبة المتخصصة: مختصون في الفن الذي تقوم عليه الظاهرة ولكن بمستوى أقل من المرجعية. وهؤلاء يُعنون بانتاج نخبة متخصصة مثلهم، وبتثقيف عامة الناس.

3- العوام: وهم الذين يلتفون حول الظاهرة دون أن يتعمقوا فيها. ولا يراد بهم الجهلة من الناس. هم المريدون أو المبتدئون. وكل منا عامي في شيء ومتخصص في شيء، وربما يكون مرجعية إن أمده الله بعزيمة وتوفيق في طلب العلم وتعليمه.

وعلى أرض الواقع يتواجد هؤلاء الثلاثة (المرجعية والنخبة المتخصصة والعوام) في هيئة هرم، يشكِّل قاعدته العوام، بمعنى أنهم يكوِّنون الكثرة كما قاعدة الهرم؛ وذلك لأن أغلب الناس لا يصبر على مرارة طلب العلم وإعمال الفكر طلبًا للتخصص والرقي العلمي لمستوى المرجعية في تخصص بعينه. فالتميز لا يتوقف فقط على الإمكانات الذهنية الكامنة في الشخص وإنما لابد من عزم وجد وصبر على مكابدة التفاصيل حتى تتضح الصورة تمامًا ويتم نقلها للغير بما يناسب. والله عنده خزائن كل شيء وحيي كريم- سبحانه وعز وجل-.

 

وفي وسط الهرم (أقل عددًا) تتواجد النخبة المتخصصة، وأعلاه: المرجعية، وهم قلة قليلة من الناس، ويتفاضلون حتى يكون هناك شخص أو شخصين على رأس الهرم وبه تعرف الحقبة الزمنية ويؤرخ للتخصص في هذه الفترة به. ويصعدون من تحت، فالكل يبدأ عامي، ثم يرتقي حين يمن الله عليه بعزم وفهم وصبرٍ على التدرب. (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(آل عمران: 73-74).

وعمليًا تسود حالة من الادعاء. فالعوام الذين لم يتعلموا إلا قليلًا يدعون التخصص، والمختصون يدعون المرجعية، وينتهي هذا الادعاء بحضور الثلاثة متجاورين في نفس المجتمع، فحضور شخصية- أو مؤسسة- مرجعية في مجتمعٍ ما يحدد بوضوح مكان الآخرين. ببساطة لأن المقارنة تعقد بين من يدعي ومن مكنه الله حقيقة من العلم والعمل.

4- الأدوات: ويقصد بها كل ما يساعد على تكوين المستويات الثلاثة الفائتة (المرجعية، والنخبة، والعوام)، مثل: الكتاب، السبورة وما يلزمها من أقلام وممحاة، جهاز عرض (Projector)، المحمول، المسابقات التشجيعية، الدورات التعليمة… إلخ. وتتمدد الأدوات لتطال الأشخاص والمؤسسات، وتنكمش لتدل على أبسط شيء يستخدم في إنتاج فرد متخصص أو ظاهرة اجتماعية.

5- الأبنية (المباني): وأريد رصد ملاحظتين فيما يتعلق بالأبنية:

الأولى: أن الأبنية تحتوي الثلاثة السابقين لها (النخبة، والعوام، والأدوات)، والمرجعية في الغالب تكون حرة، لا تتقيد ولا تقبل التقيد، ويؤتى إليها ولا تذهب للمبنى إلا مؤقتًا. ويصبح المبنى بالثلاثة مؤسسة وتتكون له شخصية اعتبارية خاصة به. فحين نقول مثلًا: الكتاتيب تأتي صورة ذهنية لشخصية اعتبارية تكونت من طبيعة القائمين على الكتَّاب، وهم النخبة المتخصصة التي تدير العمل في الكتاب: الشيخ الفقي والعريف؛ ومن حال الذين يأتون إليهم ويتعلمون منهم، وطبيعة الأدوات المستخدمة فيها (الفلكة، والعصا الغليظة، والغلظة في القول، والجلوس على الأرض، والراتب الزهيد الذي يدفع للمعلم…إلخ) فالكتَّاب كمبنى له صورة ذهنية تكونت من مفرداته مجتمعة.

وحين نقول حضانات منتسوري Montessori nurseries فهي مؤسسة لها شخصية اعتبارية تقفز للذهن حال ذكر الاسم: (رقي) في التعامل، وتعليم بالتجربة العملية، ومدرسون أكفاء على أعلى مستوى، ومناهج غربية، وتكاليف باهظة الثمن تدل على أن من بها أبناء الأثرياء فقط وأن الانتساب إليها مقصود لذاته كنوعٍ من التعالي الطبقي في المجتمع لا لإنتاج فرد مميز معرفيًا أو مهاريًا وإلا أين مخرجات هذه الحضانات في أرض الواقع؟!؛ وهكذا: حين نقول: مسجد، مسرح… إلخ.

المؤسسة شخصية اعتبارية مستقلة وإن تكونت من مفردات بداخلها. مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المؤسسات يتحكم فيها- أو بالأحرى يحافظ على وجودها ونشاطها- النخبة لارتباط مصالحهم بوجودها، وبعض المؤسسات تقوم بصياغة من يلتحق بها من الأفراد، بمعنى أن الشخصية الاعتبارية للمؤسسة تكون أقوى من الأفراد الذين يلتحقون بها؛ وهي تنوع في الحالات الموجودة في الواقع حسب إمكانات التأسيس وإمكانات والتشغيل والبيئة التي تنشط فيها المؤسسة.

والملاحظة الثانية: أن المؤسسات (مبنى به نخبة وأدوات معرفية وتدريبية) تتكاثر بعد ذلك دون وعي من الناس بأهدافها الكلية التي أسست من أجلها. فالذي أنشأ الكتاتيب غير الذي يعيد استنساخ تجربة الكتاب مرةً ثانية. الأول أراد الأجر من نشر الخير بهذه الوسيلة، والذي يقلد ربما أراد الخير مثله وربما يبحث عن رزقه محتسبًا أو غير محتسبٍ، وربما يضيع وقتًا بطرد الملل والسآمة في شيء ينفع. بمعنى أن ثقل الأمر في إنشاء أول مؤسسة فقط ثم تعاد التجربة بعد ذلك، ولذا كان للرائد أجر من يأتي بعده، وفي الحديث: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها…).

يبدأ استفادة العوام من التجربة بعد تكوّن المؤسسة، بمعنى أن استفادتهم حال تكون النخبة والمرجعية تكون قليلة، ثم يقبلون بعد ذلك بفعل دعوة النخبة وانتشار المؤسسات. وإن كانت المؤسسة مما يضطلع بشيء يحتاجه الجميع، كتعلم القرآن الكريم، يقبلون عليها ويأتون إليها بأنفسهم وأبنائهم.

غياب الوعي بضرورة صناعة نخبة متخصصة والمرجعية الضابطة جعل الكل يبحث عن حل دون إعدادٍ له. بل يرى بعضهم أن مراحل الإعداد عبث وتضيع للوقت

ملاحظات ختامية:

الملاحظة الأولى أن الحالة الإسلامية لا تملك مرجعيات حقيقية، بالنظر لمستوى الأشخاص وبالنظر لمستوى المؤسسات. والعجلة وغياب الوعي- وليس الفقر أو ضعف الإمكانات- هما السببان الرئيسيان في تأخر صناعة المرجعيات العلمية، فكثير من فصائل الصحوة وأفراد الصحوة يستطيع أن ينفق على نفسه ويتخصص ويصبح مرجعية، وكثير من فصائل الصحوة مُكن من إمكانات مالية فلم ينصرف لصناعة النخبة والمرجعيات، وذلك لغياب الوعي بأهمية رأس المال النخبوي.

حين تتكون نخبة بعددٍ كافٍ فإنها تتغلب على أكثر الصعاب، تعمل بأقل الأدوات، وتحل مشكلة الأبنية بطرق كثيرة، مثل الالتحاق بالأبنية المرخصة في المجتمع وإن لم تكن تحقق كليةً أهدافها؛ أو تتخذ بيتها مبنى للتعليم والتعلم؛ أو ما دون ذلك من أدوات إلكترونية، أو تكمن تترقب فرصة، وهي واعية لا تفوت فرصةً حين تأتي. فالنخبة متى صنعت لا تتوقف أو لا تكون خصمًا، وتستطيع تكييف وضعها تبعًا للمتاح وخاصة إن كانت مرنة، وهو الغالب على حال النخبة. تمامًا كماء السيل ينهمر ويعم خيره، وإن صادف ما يوقفه ظل يضغط حتى يفتح له الطريق، وإن قابله سد وقف مكانه ومكث في الأرض بما ينفع الناس. ولذا فإن كثرة النخبة يوفر أمانًا للظاهرة من نفسها ومن غيرها.

ولعل ما مضى يبين أحد أهم أسباب تعثر المشاريع التربوية التي حاولتها الحالة الإسلامية، وذلك أنه تم توفير أحد المتغيرات (العوامل المؤثرة)، وهو المباني. ولكن وجد خلل في باقي المنظومة. فلم يتوفر النخبة المتخصصة التي تتقن فنًا من الفنون وتحاول تدريسه.. تلك التي تعنى بصياغة مناهج؛ ولم تتوفر المرجعية الضابطة. ولذا درَّسوا مناهج غيرهم مع قليل من النكهة الإسلامية. وغياب الوعي بضرورة صناعة نخبة متخصصة والمرجعية الضابطة جعل الكل يبحث عن حل دون إعدادٍ له. بل يرى بعضهم أن مراحل الإعداد عبث وتضيع للوقت. يريد إزاحة الشر في ساعة، وأنى؟! انتهت كلمات المقال ولم أنته من صياغة الفكرة، وأعود لاحقًا إن شاء الله.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى