مقالات المنتدى

من أسس معرفة قيمة القرآن.. تبليغ رسالة القرآن الكريم

بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد

وهو الأساس الأخير الذي تكتمل به دوائر التعامل مع القرآن الكريم، وبه تتحقق الربانية للمسلم؛ فلن يبلغ المسلم أن يكون ربانيًّا إلا إذا تعلم ما يجهل، وعمل بما تعلم، وعلم ما تعلم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].

ولا يقبَل الإسلامُ من المسلم – فضلًا عن الداعية – أن يكون صالحًا في نفسه وكفى، بل لا بد أن يعمل الخير وينفع الغير؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].

يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير هذه الآية: “إن الصيغة اللفظية: ﴿ يُمَسِّكُونَ ﴾ [الأعراف: 170]..تصور مدلولًا يكاد يحس ويرى..إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجِدٍّ وصرامة..الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه..في غير تعنُّت ولا تنطع ولا تزمت..فالجِدُّ والقوة والصرامة شيء، والتعنت والتنطع والتزمُّت شيء آخر..إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، ولكنها تنافي التميُّع! ولا تنافي سعة الأفق، ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع، ولكنها تنافي أن يكون “الواقع” هو الحكمَ في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكومًا بشريعة الله!

والتمسك بالكتاب في جِدٍّ وقوة وصرامة، وإقامة الصلاة – أي شعائر العبادة – هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة..والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولًا معينًا؛إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس،فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه..والإشارة إلى الإصلاح في الآية: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170] يُشير إلى هذه الحقيقة..حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملًا، وإقامة الشعائر عبادة: هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.

وما تفسُدُ الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني..ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس، وترك العبادة التي تُصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب، وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتُرُ القلوب عن العبادة فتفتُرُ عن تقوى الله..

إنه منهج متكامل، يقيم الحكم على أساس الكتاب، ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافق القلوب مع الكتاب، فتصلح القلوب، وتصلح الحياة.

إنه منهج الله، لا يَعدِل عنه ولا يستبدل به منهجًا آخرَ إلا الذين كُتبت عليهم الشِّقوة، وحقَّ عليهم العذاب!”[1].

وفي سياق آخر يرمي القرآنُ غيرَ المصلحين بصفة “الإجرام”، فيقول تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116، 117]،فانظر كيف علَّق القرآن الكريم عدم الإهلاك بوجود المصلحين، رغم وجود الظلم فيها.

وجوب الدعوة على كل مسلم:

وإذا كانت الصلاة فُرِضت بعد العام العاشر من البعثة، والزكاة والصيام والحج والجهاد بعد ذلك، فإن الدعوة مفروضة منذ اليوم الأول، بمقتضى قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].

والعلماء لم يختلفوا في فرضية الدعوة ووجوبها، لكنهم اختلفوا: هل هي فرض عين أم فرض كفاية؟ وإذا اخترنا بأقل ما قيل، وهو فرض كفاية، فمعنى الكفاية أن تتحقق الكفاية أو الاكتفاء في الأمة، وهو غير متحقق، لا سيما في هذا العصر؛ ولذلك فإنني أميل إلى أن الدعوة والتبليغ فرض عين على كل مسلم حسب استطاعته وقدرته، وفي حدود علمه، على طريقة: ((بلِّغوا عني ولو آيةً)).

نماذج تبليغية من القرآن:

أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم:

الله تعالى أمر نبيَّه بالبلاغ أمرًا مباشرًا مصحوبًا بأمور أخرى، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].

قال في الظلال: “إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ ما أُنزل إليه من ربه كاملًا، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابًا وهو يصدَع بكلمة الحق..هذا، وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة..والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصمًا، فماذا يملِك له العباد المهازيل! إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة، وليقُلْ مَن شاء من المعارضين لها كيف شاء، وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء، ولا تراعي مواقع الرغبات، إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ،وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى..وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان، وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة!”[2].

ثانيًا: مؤمن آل ياسين:

وقصته معروفة في سورة يس، فرغم وجود رسولين، وتم تعزيزهم بثالث، لم يَثْنِ هذا العددُ من الرسل أحد “الرجال” الذين جاؤوا من أقصى المدينة؛ دلالة على الجهد والسعي والدأب والمثابرة واستشعار تحمل المسؤولية.

ورغم إعلان حالة “الطوارئ” في المجتمع: ﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يس: 18] -جاء ليأمر الناس باتباع المرسلين، وقد قصها الله تعالى علينا في هذه السورة فقال: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [يس: 13 – 27].

ثالثًا: مؤمن آل فرعون:

وهي قصة معروفة في سورة غافر، ولا يخفى على أحد ما كان يفعله فرعونُ بالناس؛ من تقتيل للأطفال، واستحياءٍ للنساء: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4].

قال تعالى في سورة غافر يحكي قصة هذا المؤمن في ظل هذه الأجواء الفرعونية والجبروت الطاغي: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [غافر: 28 – 33].

فرغم وجود نبي من الأنبياء كلَّفه الله بالتبليغ، فإن هذا المؤمن أوجب على نفسه هذه المهمة، وانتفض مدافعًا عن سيدنا موسى، مستنكرًا إقدامهم على قتله.

كل هذه نماذج قرآنية، وغيرها كثير، تؤكد وجوب الدعوة، حتى مع وجود الأنبياء والمرسلين؛ فما بالك بعد ذهاب الرسل، وبقاء الدعاة والمصلحين؟ لا شك أن الأمر أوجب، والمسؤولية أكبر.

وإذا كان للعمل والتطبيق دوائر ذكرناها سابقًا، فإن للتبليغ أيضًا دوائرَ لا تخرج عما ذكرناه في التطبيق، غيرَ أننا هنا نقول: إن دوائرَ التبليغ تشمل الأسرة والأقارب والجيران، والمجتمع والدولة والأمة كلها، والإنسانية جمعاء.

——————————————-

[1] في ظلال القرآن: 3/ 1388 – 1389،دار الشروق،الطبعة العاشرة،1402هـ – 1982م.

[2] في ظلال القرآن: 2/ 938.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى