مقالاتمقالات مختارة

منهج لم الشتات (المنهج المقارن)

منهجُ لمِّ الشتات

(المنهج المقارن)

بقلم د. عصام فاروق

 

أولاً: مفهومه:

من خلال اسم المنهج أو وصفه بالمقارن يمكن أن نتبين وظيفته التي يؤديها في البحث، حيث إنها مقارنةٌ تعقد بين طرفين، وغالبًا ما تنصرف الدلالة عند استعمال هذا المنهج إلى طرفين محددين هما لغتان تنتميان إلى فصيلة لغوية واحدة، للوصول إلى الخصائص المشتركة بينهما.

 

ومن الممكن أن يكون طرفا هذا المنهج عصرين أو مرحلتين في لغة واحدة، أو ظاهرة واحدة في كتابين أو أكثر أو غيرها من الممارسات المقارَنة، كالمقارنة بين المدارس المعجمية من حيث الترتيب الخارجي، أو طرق شروح الألفاظ، أو وسائل ضبط الكلمات.. وغيرها من أوجه المقارنة.

 

ثانيًا: نشأته:

ويمكن إرجاع هذا المنهج إلى اكتشاف اللغة السنسكريتية في نهاية القرن الثامن عشر، حيث إن هذا الاكتشاف فتح الباب واسعاً أمام مقارنات علماء أوروبا بين لغتهم اللاتينية وكذلك اليونانية وهذا اللغة المكتشفة، لما وجدوا من نقاط تشابه بينها جميعا، وقد أنتجت هذه المقارنات التي استخدمها علماء اللغة التاريخيون عدة استنتاجات اعتُبرت فتحاً جديداً في الدراسات اللغوية التاريخية، فمن خلال استخدام هذا المنهج ” تمكن العلماء من تقسيم اللغات المختلفة إلى أسرات أو فصائل بمقارنة هذه اللغات واكتشاف أوجه التشابه بينها من الجوانب الصوتية والنحوية والمعجمية. ووجود جوانب شبه أساسية بين عدد من اللغات معناه أنها انحدرت من أصل واحد مشترك أي من اللغة الأولى التي خرجت عنها هذه اللغات على مر التاريخ.. ووجد العلماءُ اللغاتِ العربية والعبرية والفينيقية والأكادية والحبشية تحمل بعض الخصائص الأساسية المشتركة فاستنتج العلماء أنها لغات تشكل أسرة لغوية واحدة، وأنها انحدرت من أصل واحد أطلقوا عليه اللغات السامية الأولى.” [1]

 

وذلك بعد أن أدت هذه المقارنات التي أجراها العلماء على اللغات التي تتوزع على المساحة ما بين الهند وأوروبا إلى ” عزل اللغات المنتمية إلى العائلة الهندية الأوربية عن غيرها من اللغات التي ظهر فيما بعد أنها تشكل بذاتها عائلات لغوية أخرى..” [2]

 

وقد اعتنى المستشرقون بدراسة اللغات السامية مقدمين بذلك بعض المناهج والدراسات التي كانت منارة لعلماء العربية المحدثين الذين حذو حذوهم في إخراج دراسات مقارنة تخص السامية، ومن هذه الدراسات:

– تاريخ اللغات السامية، لإسرائيل ولفنسون (نُشر عام 1914م بمصر)

– اللغات السامية، للمستشرق الألماني نولدكه (ترجمه د. رمضان عبد التواب إلى العربية عام 1963 في القاهرة)

– فقه اللغة السامية، للمستشرق الألماني بروكلمان (ترجمه من الألمانية إلى العربية د. رمضان عبد التواب، ونشره سنة 1977 في جامعة الرياض).

 

ثالثًا: علاقته المنهجين التاريخي والوصفي:

وما قلناه من العلاقة الوثيقة بين كل من المنهجين التاريخي والوصفي، كون الثاني أساسا تتم من خلاله عملية الدراسة التاريخية، يقال هنا في العلاقة ما بين المنهجين التاريخي والمقارن من ناحية والوصفي والمقارن من ناحية أخرى.

 

فأما العلاقة بين التاريخي والمقارن فواضحة من خلال اعتماد علماء اللغة التاريخيون على الأخير في دراسة اللغات وخصائصها من منظور تاريخي تركيبي يعمل على بناء المتشابهات للوصول إلى أقدم مرحلة تاريخية تمثلها اللغة الأم، كما أنه قد يُعتمد عليه في المقارنة بين مرحلتين تاريخيتين.

 

وأما العلاقة بين الوصفي والمقارن فتتأتى مما وصفنا به المنهج الوصفي من أنه سيد المناهج، فهو أساس لها لا تتم إلا به، وإلا فكيف سنعقد مقارنة بين عناصر لغوية معينة- على سبيل المثال- إلا بوصف كل عنصر منها وصفا دقيقا قائما على التحليل والاستنتاج ثم وصف العنصر نفسه في الطرف الآخر، ثم عقد مقارنة بين هذين الوصفين للوصول إلى نقاط الاختلاف والاتفاق بينهما.

 

رابعًا: هل مارس علماء العربية القدامى المقارنة بين العربية وغيرها؟

يشير د. رمضان عبد التواب [3] إلى أن اللغات السامية لم تكن مجهولة تماما بالنسبة لعلماء العربية، حيث فطن الخليل بن أحمد في معجمه (العين) إلى العلاقة بين الكنعانية والعربية، فقال: ” وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية” [4]

 

كما فطن ابن حزم الأندلسي إلى العلاقة بين العربية والسريانية والعبرية في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، فقال: ” فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية، أيقن أن اختلافها، إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل.” [5]

 

لكننا في الحقيقة لا نقع على معالجة مقارنة بين العربية وإحدى هذه اللهجات عند علمائنا القدامى، ومن الممكن أن السبب في ذلك تعصبهم للعربية وعكوفهم على دراستها، بل ورؤية البعض أنه أفضل اللغات، كما يتضح من عنوان: (باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها) الذي أفرده ابن فارس في (الصاحبي) لبيان علو منزلتها عن اللغات جميعا، وتفضيله إياها عما سواها.

 

كما يمكن القول إن القرون الأولى كان جمع ألفاظ العربية وتصنيفها وتدوين علومها ودراسة قضاياها، والعمل على تقعيد قواعدها، وجمع شتات مسائلها مشغلةَ العلماء، التي صرفتهم عما سواها.

 

خامسًا: نماذج من الدراسات المقارنة في المكتبة العربية:

حظيت المكتبة العربية الحديثة ببعض الدارسات الجادة التي تتناول ظاهرة لغوية من خلال بُعدها المقارن بين اللغات السامية، ومن هذه الكتب:

 

– (الإبدال في ضوء اللغات السامية دراسة مقارنة)، للدكتور ربحي كمال، وقد أورد المؤلف أن الهدف من هذا الكتاب ” أن بعض من جاء في تراثنا العربي القديم من شعر ونثر قد يستعصي علينا فهمه حق الفهم؛ لأن كتبنا اللغوية لم توفَّق في شرحه. فلا يبقى أمامنا سوى الاستعانة بأخوات اللغة العربية لاجتلاء معنى ما غمض من لغتنا، والنظر في وجوه الشبه والاختلاف بين دلالات بعض الألفاظ، وإذا كان لهذه الألفاظ ما يقابلها في اللغات السامية الأخرى سهل علينا أن نقارن بينها، فنردّ الألفاظ إلى أصولها، ونستطيع اجتلاء المعاني المختلفة للفظ الواحد، ومعرفة الأصلي والفرعي منها، وتقصي التطور من معنى إلى آخر..” [6]

 

– (في النحو المقارن بين العربية والعبرية) للدكتور/ سيد سليمان عليان، يقول في مقدمته: ” ويهتم هذا الكتاب بدراسة أبواب النحو في اللغتين العربية والعبرية، في محاولة لتقديم مقارنة بين اللغتين في النحو بشكل عام، في مجالات الأصوات والصرف والدلالة والجملة في ستة فصول….” [7]


[1] أسس علم اللغة العربية (35) د. محمود فهمي حجازي.

[2] أسس علم اللغة (172) ماريو باي.

[3] ينظر: مقدمة ترجمة كتاب: فقه اللغات السامية (6).

[4] العين (1/205).

[5] الإحكام (1/32).

[6] تصدير الكتاب (6).

[7] في النحو المقارن بين العربية والعبرية (9).

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى