مقالاتمقالات مختارة

منهجية تفسير النص الشرعي بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة (1-3)

منهجية تفسير النص الشرعي بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة (1-3)

 

بقلم محمد عوام

 

لا يخفى أن لعلم أصول الفقه وظائف جليلة القدر، غزيرة النفع، من بينها وظيفة تفسير وبيان النص الشرعي، فبدونها يتعذر الفهم السليم، ويقع الفاقد لها في الخلط والتخبط السقيم، الذي ينحرف بصاحبه عن هدي الصالحين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من العلماء الأماجد الهادين المهديين، الذين وضعوا أصولا متينة وقواعد نفيسة في فهم النص الشرعي، من مثل حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، ودلالات المفاهيم، وغيرها، لذلك يمكن القول بأن المنهج الأصولي منهج فريد في بيان النص الشرعي وسبر أغواره وقراءته القراءة السليمة البعيدة عن تعطيل النص، أو الخروج به عن سياقاته اللغوية، أو معانيه ومقاصده الشرعية. فكان ولا يزال علم أصول الفقه منهج تفسير النص الشرعي.

وبالرغم من ذلك فقد وجدنا من بعض المفكرين المعاصرين الذين ينتحون العلمانية منهجا لهم، يريدون تفسير النص الشرعي وفق المناهج الفلسفية الغربية، سواء المنهج التاريخاني، أو المنهج البنيوي، مما يؤدي إلى تعطيل النص الشرعي، واعتباره نصا بشريا. فطفقوا يكيلون نقضا ونقدا لعلم أصول الفقه، بعيدا عن الروح العلمية والتفكير المنهجي، كما هو الشأن عند محمد أركون ومحمد شحرور وعبد المجيد الشرفي ونصر أبي زيد، وأضرابهم.

فلما اختلف المنهج الأصولي عن القراءة المعاصرة للنص الشرعي من حيث بيانه وتفسيره، ارتأيت أن أبين أوجه الخلاف بين المنهج الأصولي والقراءة المعاصرة في تفسير النص الشرعي. لأنه خلاف عميق الجذور، مبني على منهجين مختلفين: المنهج الأصولي، والمنهج العلماني الغربي، ولكل واحد منهما رؤيته المعرفية ومحدداته المنهاجية، وخلفيته الفلسفية والفكرية، ينصب ذلك كله في كيفية التعامل مع النص الشرعي هل هو وحي من الله تعالى أم غير ذلك كما يزعم العلمانيون. نتطرق إلى بيان ذلك من خلال المباحث الآتية:

المبحث الأول: تقصيد العلوم الإسلامية بين الضرورة المنهجية ومتطلبات الواقع.

المبحث الثاني: خصائص منهجية القراءة المعاصرة.

والله الهادي إلى سواء السبيل

المبحث الأول: تقصيد العلوم الإسلامية بين الضرورة المنهجية ومتطلبات الواقع.

نتناول في هذا المبحث قضايا أساسية، وهي:

القضية الأولى: تقصيد العلوم الإسلامية ضرورة منهجية نظرية بحثية، وضرورة واقعية عملية. وذلك بتحديد مقاصدها ووظائفها، فإذا حددنا المقاصد والوظائف سهل علينا النظر في المناهج، ومعنا هذا أننا على ضوء المقاصد يتم بلورة المناهج، أو إعادة النظر فيها باعتبارها إرثا، تنقيحا وتحويرا وتهذيبا، أو إضافة وتجديدا. فمن رام الخوض في العلوم أي علم كان، وخاصة العلوم الإسلامية، فإنما ينبغي له أن ينطلق من تحديد مقاصدها فهي بمثابة هويتها المركزية، الدالة على كيفيَّة تشغيلها في الواقع والاستفادة منها. فتحديد المقاصد عون على كيفية تشغيل المناهج، باعتبارها وسائل، وضمان للانتفاع بها عمليا ومنهجيا، حتى تبقى العلوم ذات فاعلية وجدوى.

ونستدل على ذلك بما رواه أبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ “(1)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أو علم ينتفع به.” هو تقييد له مغزى ومعنى، إذ هو دليل على أن العلم المعتبر ما كان نافعا ومنتفعا به، وما سوى ذلك بهذا الاعتبار لا يعد من العلم في شيء، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مبنيا على منهج سليم، وقواعد مضبوطة نافعة. قال النووي: “قال العلمَاءُ مَعنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا… وَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَبَيَانُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالتَّرْغِيبُ فِي تَوْرِيثِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالْإِيضَاحِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْعُلُومِ الْأَنْفَعَ فَالْأَنْفَعَ.”(2)

وقال ابن الملك: قيد العلم بالمنتفع به لأن غيره لا يؤتى به أجرا.”(3) ثم طفق ابن الملك يبين أنواعا من العلوم المنتفع بها وعلى رأسها العلم بالله وصفاته وأفعاله، وغيرها من العلوم.

فالتقصيد المصلحي للعلم أن تترتب عنه مصلحة في العاجل والآجل، في الدنيا بما يحقق النفع للبشرية في حياتها كلها، وفي الآخرة بما يعود عليها وعلى صاحبه بالثواب الجزيل عند الله تعالى، فهذه النفعية مقصودة شرعا، ولا تختلف في ذلك العلوم النظرية عن العلوم العملية، لأن العلوم النظرية وإن كان الغالب عليها الجانب التقعيدي والنظري التجريدي لكنها عند التحقيق خادمة للعلوم التطبيقية، بل هي جزء منها، ووسيلة إليها، ولولاها لما استقامت العلوم العملية، ولا أدل على ذلك من علاقة الفقه بأصوله، فلولا علم الأصول ما انضبط الفقه وتقعد، غير أن شريطة ذلك عدم الانغماس في التنظير والتحليق فيه. فلا جرم إذن أن الانتفاع بالعلوم مقصدا ومنهجا، هو المطلوب، والمناهج وسائل العلوم، وللوسائل حكم المقاصد.

وليس من جيد البحث التمسك بمقولة الاشتغال بالعلم من أجل العلم، فلا ريب في عدم جدوى هذه النظرية، وإنما المعول عليه ربط العلم بالعمل، والنظرية بالتطبيق، والمدارسة بالممارسة حتى يتم النفع ويحصل القصد. من هنا نرى ضرورة تجديد النظر في العلوم، اعتمادا على مقاصدها. وهذا المنحى هو الذي عبر عنه العالم المقاصدي المجدد أبو إسحق الشاطبي في (المقدمة الرابعة) من (الموافقات) بقوله: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية.

والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك، فليس بأصل له”(4)

وقال أيضا في (المقدمة الخامسة) “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لا يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل، عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا.”(5)

القضية الثانية: التخلية والتحلية.

إذا ظهرت أهمية تقصيد العلوم الإسلامية، فهذا المهيع يحتاج إلى بذل الوسع في تخلية وتحلية مناهج العلوم الإسلامية وذلك بتحديد نسقها الوظيفي والمنهجي، وهذه التخلية والتحلية يفرضها المسار الذي سلكه أو أريد له أن يسلكه علم أصول الفقه خاصة، باعتباره كما قال ابن السمعاني عنه: “أصل الأصول وقاعدة كل العلوم.”(6) نجملها في ثلاث سمات من الوضوح بمكان، وهي:

أولا: الانغماس في التاريخ والارتفاع عن الواقع ناتج عن اصطحاب العقلية التراثية، التي ترتكن إلى الجمود والتقليد، وتنفر من الإبداع والتجديد، وتتنكب سبيل الترشيد والتسديد. ولا يحصل ما نصبو إليه، إلا بإزالة غشاوة النظرة التراثية، التي حطت بكلكلها على نفوسنا وواقعنا العلمي والفكري، وهذا لا يعني أن نشيح بوجوهنا عن هذا التراث، فنتنكر له بالمرة، وإنما أن نمارس نوعا من النقد البناء، والتجديد المطلوب، بعد فهمه وسبر أغواره.

ثانيا: ضعف التمحيص وقلة التحقيق وهو ناتج عن طغيان التقليد وتهيب التجديد. فأنت حينما تمحص المقولات المعرفية لتستبين مدى مصداقيتها ونجاعتها العلمية، وأثرها في الواقع، فإنك من غير شك تمارس نوعا من التجديد. والمنهج الأصولي على أهميته ومكانته العلمية، في حاجة إلى إعادة صياغته، لا إبقاء ما كان منه على ما كان. ويحضرني هنا مثال ما سمي بالأدلة المختلف فيها، فكأن هذا الاختلاف في شأنها اعتاص رفعه، مع العلم أن كثيرا منها إما خلاف في المصطلح كما هو الشأن في الاستحسان، أو خلاف نابع من عدم التحقيق مثل قضية المصلحة المرسلة أو الاستصلاح، الذي ألحقه الغزالي بالأدلة الموهومة، وقد جاء من بعده العلامة شهاب الدين القرافي فحقق القول في شأنها، إذ وجد كل المذاهب تعمل بها، قال رحمه: ” وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب.”(7)

ثالثا: طغيان الاختلاف على الاتفاق، حتى أصبح سمة بارزة للعلوم الإسلامية عموما، ومنها علم أصول الفقه، مع العلم أن كثيرا من الاختلافات لا أثر لها، سوى توليد الخلاف من أجل الخلاف، ونصرة المذاهب ولو كان مسلكها في بعض المسائل ضعيفا، فلا جرم أنها لا تنتج علما ولا فقها، وأنا أقول: هل من سبيل لحسم الخلاف الأصولي بتفعيل القواعد باعتبار آثارها العملية، وأين غاب تحكيم المقاصد وتفعيلها للحد من الخلاف، فيكون بذلك المنحى العملي هو المعيار والمحك، لقبول ما هو من الأصول، ورفضِ ما هو من الفضول، وما تجتنى منه ثمرة العمل، وما يُنتج سوى الخلاف والجدل. لذلك قرر الشاطبي رحمه الله أن “كل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، والمحرم المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل.”(8)

وحقيق بالعلامة الأمير الصنعاني أن يجعل وجود المسائل والمباحث التي لا ينطوي عليها عمل، ولا تجتنى منها فائدة في علم أصول الفقه من مزالق الأصوليين، إذ شحنوا فن الأصول “بعدة مقالات تعز معرفة الحق الذي لا شبهة فيه معها.”(9)

والذي يعنيني من هذا كله، أن نخلي المنهج الأصولي مما علق به، مما لا علاقة له بما أضيف إليه، وهو الفقه، ولا يحصل ذلك إلا بإبراز القواعد الاتفاقية، والأصول العملية، وتضييق مساحة الاختلاف، أو ترشيده وتسديده، إن كان لا بد من وقوعه، وبحسب عبارة شيخنا العلامة أحمد الريسوني حفظه الله: “الاتفاق: كيف نحصله وكيف نحصنه. والاختلاف: كيف ندبره وكيف نستثمره.”(11). “إن الحالة السوية لعلم أصول الفقه –كما يقول أستاذنا الريسوني- هي أن يكون منجما للاتفاق ومأوى لطلابه، لا مرتعا للخلاف ومصنعا لأسبابه.”(12)

====-

(1) رواه مسلم، بَابُ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ

(2) شرح النووي على مسلم.

(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 1/285.

(4) الموافقات بتحقيق الدكتور الحسين أيت سعيد 2/59.

(5) المصدر نفسه 2/69.

(6) قواطع الأدلة في الأصول 30، بتحقيق حسن هيتو.

(7) شرح تنقيح الفصول 394.

(8) الموافقات 1/44،45.

(9) مزالق الأصوليين 59، وانظر 63 وما بعدها.

(10) علم أصول الفقه في ضوء مقاصده 93.

(11) المصدر نفسه 97.

 

 

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى