مناجـــاة قلـــب جريح حـنّ إلى التراويـــح
بقلم أ. د. عبد الرزاق قسوم
يــــا رب !
سكن كلّ ما في الكون، من طير وبشر، ومن شجر وحجر، إلاّ قلب ظلّ ينبض بحبك على وقع الله أكبر. فكلّما تعالى، في الصوامع -الأذان – صَخَّ بصوته الآذان، واغرورقت لحنينه بالدمع الأجفان، واهتزت لمعانيه الضلوع والوجدان. وها هو، هلال رمضان، يبزغ في الآفاق، فتطير لإشعاعه الأشواق، وتشرئب طربا الأعناق، وتتحرر النّفوس في ملكوت الله بالانعتاق.
فأين نحن -يا رب – من ندائك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ..﴾؟ أين لنا هذا، وقد أغلقت المساجد، بسبب الوباء، وعمّ الظلام الفضاء، وانتشر البلاء، ولاذ الجميع بالدواء، والدعاء؟
وأين نحن يا رسول الله، من بشارتك للمصلين «بشر المشائين، في الظلم إلى المساجد، بالنّور التام يوم القيامة»؟.
فأي نور بقي لنا، والطرق خالية، والمساجد خاوية، والنّاس في بيوتها ثاوية؟.
ذلك هو حالنا، مع رمضان هذه السنة..
فلا الأذانُ أذانٌ منارته *** إذا تعالى ولا الآذان آذان
أطفأت أضواء المساجد، قوانين الوقاية، وخفتت الأصوات من البداية إلى النهاية، فلا تراويح، ولا صلوات جماعية تلتمس من الله الهداية.. فمن الله نطلب الرعاية والحماية.
فماذا عسانا نفعل، والخطب قد اشتد واستفحل؟ هل نسلم بانطفاء المشعل؟ وهل نسقط من أيدينا، المنجل والمعول؟.
كلاّ!، فطالما فينا قلب ينبض على وقع الله، ولسان يلهج بذكر الله، وعقل مؤمن، يملك كلّ قواه، فسنظل مؤمنين، قانتين، عابدين، ذاكرين لله.
فلئن أغلقت المساجد، والمعاهد، وضاقت الدنيا بالعابد والساجد، فلتكن بيوتنا هي قِبلة المقاصد، لإصلاح المفاسد، وتقريب المباعد، وإنجاز المواعد.
إنّ سُبل الخيرات خارج المساجد لا تعد ولا تحصى، ولئن حرمنا صلاة التراويح الجماعية، فلنرجئها إلى الأمد الأقصى، ولنملأ بيوتنا بالعبادات، وفعل الخيرات، ومحاربة المنكرات، وتقديم كل أنواع العون والمساعدات، للمعوزين والمعوزات.
إن العبرة بالتسبيح والتكبير، وملأ القلب بالخير الكثير، وكما يقول الإمام أمحمد بن الكبابطي -رحمه الله- «لئن تغيرت القِبلة من مساجدنا، فإن رب القِبلة لن يتغير من قلوبنا أبدا»، ويقول أحد المتصوفة في الذاكرين الله:
قد رفضوا الآثام والعيوبا *** وطهروا الأبدان والقلوب
وبلغوا حقيقة الإيمان *** وانتهجوا مناهج الإحسان
فرب ضارة نافعة.
لئن مسنا الضر بهذا البلاء، وأصابنا الجزع من هذا الابتلاء، فإننا يجب أن نستخلص من تجربة المعاناة هذه دروسا شتى، لعل أبرزها:
1- المزيد من اللجوء إلى الله، والالتحام بتعاليمه وشعائره، فندخل العبادات إلى قلوبنا وبيوتنا، ونكثر من الدعاء في صلاتنا وقنوتنا.
2- انعكاس هذا الإيمان، وهذه التقوى على سلوكنا ومعاملاتنا، فنطعم الطعام، ونفشي السلام، ونصلي والنّاس نيام، كي ندخل السعادة الأبدية والأخروية بسلام.
3- من دروس كورونا، إدراك أنّ الوباء عندما حلَّ، لم يفرق بين الأعمار، ولا بين الطيبين والأغرار، ولا بين المعوزين والتّجار، ولا بين الخيّرين والأشرار.
لذا وجب أن يتجنّد الجميع لمحاربته، ولن تكون محاربته النّاجعة إلاّ بالوعي بالأخطار التي تهدد الجميع، والتمسك بثقافة الوقاية التي تحمي الجميع، وذلك، بحماية الأنا، وحماية الآخر، فنتجنب التجمعات، والعناق، والقبلات، وإطلاق الأكاذيب والشائعات.
4- الإيمان بقدرة الله، القادر على أن يبعث على عباده، جرثومة لا ترى بالعين المجردة، فتحدث الجزع، والهلع، وتعتبر حربا عالمية بيولوجية لم تستثن أحداً، وعجز الجميع، بما يملكون من إمكانيات علمية، وطبية، ومادية، عجزوا على مواجهتها، بل إنّ الدول العظمى كان لها الحظ الأكبر من ضحايا الفيروس، وصدق الله العظيم: ﴿..ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾، فيا ليت قومي يدركون كنه هذه الجائحة، فيستخلصون منها -على ما فيها من معاناة – بعض العبر، للاستهداء بهذه العبر في ما يستقبل من المبتدأ إلى الخبر.
فمن كان عاصياً، فليتب إلى الله من معصيته، ومن كان فاسقاً، فليعقد العزم على أن يقلع عن هذا الفسق، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
كما أنّ من العبر التي يستخلصها العاقل من معاناة كورونا، هو زيادة التعلق بالوطن والمواطن، فقد أظهرت الشدة، أن الوطن حنون رحيم، وأن المواطن سخي كريم مع مواطنيه، عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
فيا قارئي العزيز! هذه مناجاة قلب جريح، يصعد زفرات وعَبَرات، على حرمان المساجد من الصلاة الجامعة ومن التراويح.
إنهّا زفرات تتصاعد إلى السماء في شكل استجداء ودعاء، عسى أن يمن الله علينا بالشفاء، فيخرجنا من الظلمات إلى الضياء، ومن ضيق اليأس إلى فسحة الرجاء.
إنّنا كلّما توجهنا بالدعاء إلى أبواب السماء أحسسنا بالأمل المفحم بالحب والإخاء، فنتغلب على كلّ أصناف الأعداء، ونهزم بالعزيمة والإرادة، كلّ أنواع الوباء.
لقد ابتليت الأمم والشعوب من قبلنا بكلّ ألوان الابتلاء، فمنهم من راح ضحية الاعتداء، لأنّه لم يتخذ الأسباب، ولم يشفع ذلك بالدعاء.
وسوف نظل –نحن – بالرغم من كلّ هذه المعاناة، متعلقين بحبل الرجاء، ولنا الإيمان الكامل، بأن الله لن يخزينا –أبدا – ما دمنا مزودين بإيماننا الصادق، وسنخرج من الأزمة أشداء، أقوياء، رحماء، وفي الصباح يحمد القوم السرى.
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[سورة آل عمران/ الآية 139].
وقد لاحت بحول الله بوادر الخروج من النفق المظلم:
ولابد لليل أن ينجلي *** ولابد للقيد أن ينكسر
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)