بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد – مدونات الجزيرة
يحلو للأنظمة المستبدة أن ترفع شماعة (الإرهاب) لتعلق عليها أي فشل لها، ولتسوغ به أي إجراءات قمعية تريد أن تتخذها، ومن ناحية أخرى فهي تهمة ومصطلح لمغازلة العقل الغربي والسياسات الغربية التي ترفع نفس الشعار لتسوغ به أفعالها الإجرامية في الشرق والغرب ضد الشعوب الآمنة.
كما أن مثل هذه السلطات المستبدة تخترع تهمًا فضفاضة تضع تحت طائلتها وعقوباتها الباغية كل المعارضين لها والمناوئين لحكمها وسياستها، مثل: (تكدير الأمن العام) و(تعريض الأمن القومي للخطر) و(التخابر) و(العمل تحت جماعة خارج إطار القانون) و(تهديد السلم المجتمعي) …إلخ.
وهي تهم لا يمكن أن يُمسك أحد بمضمونها ولا أن يحدد ماهيتها أو مقوماتها ولا آفاقها.. ومثل هذه التهم تتخذها الأنظمة الظالمة أداة إدانة لقمع المعارضين لها، وتقييد حريات الثائرين عليها، وهذه الأنظمة لا يمكنها أن تحيا بالعدل، ولا أن تبقى دون تفصيل تهم فضفاضة لكل من يقول لها “لا”، ويكون المستبد – كما يقول الكواكبي بحق: “في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً”.
والواقع أن أصل الإرهاب ومنبع تفريخه هو الاستبداد والقمع والظلم والقهر وليس شيئا آخر، ليس المسئول عن الإرهاب هو الأزهر أو مادة التربية الدينية، أو سورة الفاتحة – معاذ الله – كما قال بعض الإعلاميين الجهلة، وإنما أساس الإرهاب هو التسلط والقهر والقمع والقتل خارج إطار الشريعة والقانون، وفساد الواقع بشكل عام، مما يفجر أمن المجتمع، ويوجه طائفة كبيرة منه لاعتناق رد فعل عنيف مواجه لفعل الأنظمة الجائرة.
إن إصلاح الواقع هو الخطوة الأولى لإصلاح المجتمع واستقراره وأمنه وأمانه، وبدون إصلاح الواقع سيبقى أي مجتمع في اضطراب وفزع، ويترتب على ذلك وقوف عجلة التنمية أو تكون تحت الصفر، ويحرم المجتمع من أي دخل في أي ناحية.
ولنا في سيدنا عمر بن عبد العزيز أسوة؛ حيث كان الخوارج قبل عصره مباشرة في أوج قوتهم وازدهارهم، وتسببوا بذلك في إيقاع المجتمع في اضطرابات ومشكلات كبيرة، فلما جاء عمر وتولى الإمارة أعمل معهم وسيلة الحوار والنقاش؛ لأن الأفكار لا يمكن التعامل معها بالقمع والسلاح والتصفية الجسدية، وإنما لا يليق لها إلا الحوار الهادئ والإقناع الواضح والنقاش الرصين.. وهو ما قام به عمر ومن انتدبهم لهذه المهمة مما أدى إلى أفول نجمهم وانتهاء فتنتهم، ونَعِمَ المجتمعُ في عهده بالاستقرار والأمان والاطمئنان.
أما في المجتمعات التي تحكمها حكومات مستبدة ظالمة وحكام قمعيون متسلطون فلن تنعم بالأمن أبدا، وسيكون شعار حكمها “إما أن تنافق وتستبد وتظلم مثلنا ما دمت تابعا لنا، أو يكون مصيرك القتل بالرصاص والتصفية الجسدية”، وهو ما عبر عنه – بحق – عبد الرحمن الكواكبي في كتابه العظيم “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، فقال: “الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته.
فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة. تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول ((يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنّا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل”.
إن الإرهاب هو اعتداء على الآخرين بغير حق، وترويعهم بغير ذنب، وهو ما تقوم به الأنظمة المستبدة الظالمة الباغية، والإرهابيون هم هؤلاء الحكام المنقلبون الآثمون الذين يقتلون الناس بغير حق، فيفرّخون بذلك الإرهاب في المجتمع، ويوقعون البلاد والعباد في حالة من الفزع والاضطراب، وهو ما يتنافى مع وظائف الحكام الإنسانية فضلا عن الإسلامية.