بقلم المصطفى فرحان – الألوكة
يُراد بخصائص الشيء الصفاتُ التي تُحدِّده وتميِّزه عن غيره، وإذا كانتِ المصطلحاتُ بمثابة المفاتيح بالنسبة للعلم، وأن لكل علم اصطلاحًا خاصًّا به، وبمعرفته يسهلُ الاهتداء إليه، فما هي خصائص المصطلح الفقهي؟
وما الذي يميز هذا المصطلحَ عن نظيره الحديثي والأصولي؟
ومَن أين يُستمد المصطلح الفقهي؟
وكيف يُبنى؟
وكيف يُوظَّف هذا المصطلح؟
هي أسئلة عميقةٌ تدعونا إلى القيام ببحث علمي قائم على استقراء الموروث الفقهيِّ عبر القرون، وتحليله، وإمعان النظر في بِنْيته المعرفية ونسقه المنهجي؛ قصدَ الوصول للأجوبة الدقيقة والمقنِعة، التي تَكشِف الغطاء وتُزيل اللبس عن الإشكالات المرتبطة بخصائص المصطلح الفقهي.
غير أن هذه الصعوبة لا تُعفينا من مقاربة الموضوع، والبحث في بعض جوانبه، لتحديد الملامح العامة لتلكم الخصائص، كما سيأتي مفصلًا في هذا المقال بإذن الله:
فمن حيث الاستمداد، لا شك أن المصطلح الفقهي يستمد قوتَه من النص الشرعي (قرآنًا وسُنةً)؛ إذ “بعد الاستقراء والتتبع نستطيع أن نقول: إن القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة هما اللذانِ فتحا باب الاصطلاح على مصراعَيْه، وكان القرآن الكريم والسُّنة النبوية هما أولَ مَن أرسى قواعد المصطلح الإسلامي”.
وللمصطلح الفقهي عَلاقةٌ وطيدة بمعناه اللُّغوي، فجميع المصطلحات الفقهية نلحظُ فيها الاشتراكَ الواضح بين معانيها اللُّغوية والمعاني التي اصطلح على إطلاقها عليها.
والفقهاء وضَعوا مجموعةً من الشروط – لا يتسع المجال لذكرِها – وجب مراعاتُها من أجل نقل المصطلح من المعنى الأصلي (اللُّغوي) إلى المعنى الجديد (الاصطلاحي)، فتكوَّنت بذلك للفقهاء اصطلاحاتُهم؛ كغيرهم في مختلف العلوم، وأصبحت تتردد في المناسبات الفقهية، كما أن هناك اصطلاحاتٍ في كتب المذاهب تختص بكل مذهب على حدةٍ، دون المذاهب الأخرى.
وإذًا هناك مصطلحات فقهية عامةٌ تشترك فيها جميع المذاهب؛ مثل: الفرض، والواجب، والمندوب، والحرام، والمباحِ، والاختلافُ في هذه الاصطلاحات يكون غالبًا بين الجمهور والحنفية، من حيث التعريف وشروط التحقق، إلا أنها متداولة جميعها في مؤلفاتهم.
وهناك مصطلحات خاصة بكل مذهب على حدةٍ، دعا إليها إيثارُ الاختصار واجتناب التكرار، وكذلك بسبب “الاختلاف في أصول الاستنباط، فتجد لكل مذهبٍ أصولًا خاصة”، وهذا دليل على اختلاف الاصطلاحات من مذهب لآخر، على عكس مصطلح الحديث أو مصطلح الأصول الذي يعتبر عابرًا لجميع المذاهب.
وتحقيقًا لمبدأ الوظيفية وخاصية الاختصار، سأورد بعضًا من الملامح المميزة للمصطلح الفقهي كما يلي:
• المصطلح الفقهي خاصيتُه الأساسية ضبطُ عمل المكلَّف، وهو أقرب مصطلحات العلوم الشرعية إلى المكلَّفين، فهو مصطلح عملي يمتاز بكونه إجرائيًّا.
• يتميز المصطلح الفقهي بالتراتبية، ويبين درجته من حيث الأهمية تبعًا لِما يطالب به المكلَّف من الإلزام أو عدمه، “فالأحكام الشرعية تتفاوت مراتبها في الإلزام تبعًا لما يحتف بالمكلَّف من وقائع وشروط وضوابط؛ فأحكام المسافر تختلف عن أحكام المقيم، وهكذا الشأن في أحكام الاستطاعة والعجز والاضطرار، وغير ذلك من الأوضاع التي تَعرِض للمكلَّف ولجملة أفعاله ووقائعه، فيوجب الشارع أن يندب أو يحظر – تبعًا لذلك – أحكامًا تتفاوت مراتبها الشرعية بحسب تلك الأحوال العارضة”.
واضح بأن المصطلح الفقهي ليس ثابتًا، فقد يخضع للتحويل؛ لأن هناك أحوالًا مؤثِّرة في تحويل الأحكام الثابتة إلى أحكام عارضة، فقد يتحوَّل الحكم الواجب إلى حرام، والحرام إلى واجب أو مباح، بحسب العوارض التي تعرض لهذه الأحكام، وَفقًا لفقه الضرورة أو المشقة أو الحاجة.
• ارتبط المصطلح الفقهي في حِقبة معيَّنة بالمذاهب، فكان لكل مذهب فقهي مصطلحاتُه، على عكس المصطلح الأصولي أو الحديثي العابِر لجميع المذاهب.
• قيمة المصطلح الفقهي الاجتماعية أكبرُ من قيمة المصطلح الحديثي أو الأصولي؛ لأن هذا المصطلح يحمل قضية، ومرتبطٌ مباشرة بالمكلَّف.
ثم إن المصطلح الفقهي يحمل حمولة دينية، وله ارتباط بالأخلاق؛ مما يعطيه صفةَ الهيبة في نفوس الأشخاص، على عكس المصطلح القانوني الوضعي الذي يحمل صفة الإلزام الدنيوي فقط، فيغيب عنه الوازعُ الديني، “وقد أدَّى وجود هذه النزعة الدينية – أو الوازع الديني الداخلي – إلى إضفاء صفة الهيبة والاحترام للأنظمة الشرعية، وإلى صيانة الحقوق بجانب النزعة المادية التي تلاحظها فقط القوانين الوضعية”.
• المصطلحات الفقهية متداخِلة، وتَرِدُ في سياقات مختلفة وفي أبواب متفرقة، وبالتالي قد تختلف دلالات المصطلح بحسب الباب الذي يرد فيه، وقد يكون لها المقصود نفسُه في الاستعمال الفقهي.
• “قد يكون للمصطلح الفقهي أكثرُ من اسم؛ مثل: الصداق والمهر، الحيض والطمث، القراض والمضاربة…، وهناك من المصطلحات ما لا يمكن استيعاب دلالاتها إلا بذكر أنواعها، أو بعضِ أحكامها العامة؛ وذلك مثل: الذكاة التي تتنوع إلى الذبح والعقر والنحر، والطهارة التي تتنوع إلى طهارة حدث وطهارة خبث”.
• المصطلح الفقهي قابلٌ للتطور والتغير، تبعًا لاختلاف الزمان والمكان، وهذا ناتج – بطبيعة الحال – عن طبيعة الفقه المتغيرة؛ بسبب تلبيته لحاجات الأفراد والمجتمعات، وأضربُ مثالًا على ذلك بمصطلح (التقليد)، بحسب تتبُّعِه تاريخيًّا، “كان يقصد به موافقة عمل الصحابة والتابعين، ثم تحوَّل لاتِّباع أئمة الاجتهاد، دون النظر إن كان قول الإمام يوافق أصول المذهب أو كونه مدعومًا بدليل أو لا، وفيما بعدُ تحوَّل إلى نوع آخر، وهو اتباع رأي المذهب الفقهي، وإن لم يكن قول إمام المذهب بعينه”.
• المصطلحات الفقهية تتزايد وتتكاثر وتتوالد، وتتداخل أحيانًا، وتتشابه وتتمايز أحيانًا أخرى، وفي بعض الأحيان تُوجَّه إلى غير وجهتِها الصحيحة؛ مما يستدعي ضبطها وتحريرَها.
ولعل أبرز مثال على ذلك مصطلح (التجديد)، “فقد تكلم العلماء فيه كثيرًا، وضبطوه وقيَّدوه، وبيَّنوا مواضعه وضوابطه، غير أن بعض أهل الفكر قد وجَّهه إلى غير وجهته، فصرَّح بأنه التغيير والتعديل، فأوهَموا بأن تجديد الفقه يعني تغييره وتعديله، وربما تعطيله وإلغاءه”.
• المصطلح وليد العلم الذي أنتجه، وغرضه ضبطُ مجال العلم، والمصطلح الفقهي منه ما يرتبط بالفقه أصالةً، ومنه ما يشترك مع علوم أخرى من علوم الشريعة، فضلًا عن بعض العلوم الإنسانية؛ مثل مصطلح (العلة)، الذي نجده في الفقه، والأصول والمقاصد، والفلسفة، والمنطق والقانون، ومثله في ذلك مصطلحَا (الواجب) و(الرخصة).
ولا بد في هذا المجال مِن دراسة هذه المصطلحات بحسب الفن العلمي الذي تنتمي إليه، ثم بعد ذلك بحسب الباب الذي تنتمي إليه داخل فنِّه؛ مثل دراسة مصطلحٍ فقهي في مجال الأسرة، أو في باب الطهارة، أو باب المواريث أو غيرها.