مقالات

ملامح سياسية وإستراتيجية في السيرة النبوية (الجزء الثاني)

بقلم عبدالمنعم منيب

ذكرنا في الحلقة السابقة أن القراءة للسيرة النبوية الشريفة توضِّح أن هناك محاوِرَ هامة في العملية السياسية الشاملة، وذكرنا بعضها، ونُواصِلُ الآنَ تكملة البعض الآخر على النحو التالي:

  • من أهمِّ قواعد العمل والممارسة السياسية: مُراقَبة تحرُّكات الخَصم بدقة، والرد على كل حركة يَعملها أو خُطوة يَخطوها بما يُكافئها من تحركات وخطوات، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل ذلك؛ حيث كان يَرصد المعلومات عن تحرُّكات أعدائه، وكثيرًا ما تحرَّك ضدهم بناءً على هذه المعلومات، وأشهر مثال في ذلك – رغم أن السيرة مملوءة بالأمثلة على ذلك – هو تحرُّكه صلى الله عليه وآله وسلم لبَدر؛ لقطعِ الطَّريقِ على عير قُريشٍ، وأيضًا إرساله صحابيَّين لاغتيال أبي سفيان بعدما أحبط صلى الله عليه وآله وسلم محاوَلة رجل جاء لاغتياله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو سفيان أرسله للقيام بذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَنظر لخُطوات العدوِّ بلامبالاة، أو يترك خطواتهم ضده تمرُّ دون ردٍّ انتظارًا لأن يحلَّ الوقتُ المشكلةَ، باستثناء حالات العجز، وإن كان في مواقف كثيرة كان عاجزًا، لكنه مع ذلك واجه وفقًا لإمكاناته المحدودة؛ مثلما في حديث: ((يا معشر قريش، قد جئتكم بالذَّبح))؛ رواه أحمد، وسنده صحيح، رغم أن فيه ابن إسحاق وهو مدلِّس، لكنه صرح بالتحديث، ومثلما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة))، ومثلما قال عندما ضرَب الحجر في حفر الخندق: ((الله أكبر، فُتحت كِسرى..)) إلخ الحديث، فكلُّ هذه خطوات محسوبة ومناسبة رغم العجز الإسلامي وقتها عن القيام بخطوة أكبر للرد على خطوة قام بها عدوٌّ ضد المعسكر الإسلامي.

وفي هذا الإطار نتذكَّر أنه لما أشاع الكفار في عمرة القضاء أن المسلمين أصابهم مرض، وأنهم صاروا ضعفاء – أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة بالهرولة أثناء الطَّواف؛ ليَرى المشركون قوَّة المسلمين، وقال صلى الله عليه وآله وسلم يومها: ((رحمَ الله امرأً أراهم منه قوة اليوم))، لقد كانت إشاعة المُشركين وقتَها هدفها رفع الروح المعنوية لقاعدتهم الشعبية التي هزَّها دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته مكة مُعتمِرين رغم أنفِ قريش، وهنا درس كبير في تبادُل الضرَبات السياسية دون قتال؛ فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرض صُلحَ الحُديبية وعمرة القضاء على قريش، فقابل المشركون ذلك بإشاعات عدة؛ منها: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هزَمه اليهود في خيبر، ومنها أن المسلمين أصابتهم حُمى المدينة، فقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإشاعات بتبيان الحقيقة في شأن خيبر، وبهرْوَلةِ المسلمين في الطواف بشأن المرض، وقد يرى البعض أنَّ الإسلاميين يقومون بأقصى ما يستطيعون من خطوات لمُواجَهة خطوات العدوِّ، لكنهم لا يستطيعون غير ذلك، وهنا يأتي الرد بأن عدم العلم بالشيء لا يعني عدم وجودِه، وهنا ستظهر لنا آفة الاستبداد والإعجاب بالرأي والغرور الذي يدفع كل فريق لعدم الاستماع لآراء مَن هم خارجه، فيَحرم نفسه من معرفة الأمور الغائبة عنها.

ونُلاحظ أن ردَّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم اختلَفَ مِن مَوقِفٍ لآخرَ، ليس حسب طبيعة الموقف فقط، ولكن حسب قدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرد في زمن الموقِف نفسِه، إلا أنَّ القاسم المشترك في الأمر هو أنه كان له رد هام ومؤثِّر في كل موقف، وهناك مواقف رد فيها بالكلام فقط، كما حدث في المدينة ردًّا على اليهود ذات مرة، بينما هناك مواقف رد عليها بتحركات عسكرية شاملة أو كبيرة؛ كالغزوات والسرايا الكبيرة، وهناك مواقف ردَّ فيها بتحرُّكات عسكرية صغيرة؛ كعمليات الاغتيال، والسرايا الصغيرة.

كما يُلاحَظ أيضًا أن هناك مواقف كان ردُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجَّهًا للصفِّ الإسلامي بهدف الحفاظ على هذا الصف من الأثر السلبي لموقف المُعسكَر المُعادي؛ مثل مروره على ياسر وسُميَّة وهما يعذَّبان، وقوله: ((صبرًا آل ياسر..)) إلخ، ومثل إعلانه ببُشرى الفتح لمَّا ثبتَت له معلومة غدر يهود خيبر أثناء حصار الكفار للمدينة في غزوة الخندق، وهذه المواقف الموجَّهة للصف الإسلامي مهمَّة، ليس لاتِّسامها بالصدق فقط، ولكن لأنَّها حقَّقت هدفها من صمود المسلمين، رغم ضَعفِهم في مُواجَهة تحرُّكات معادية؛ حيث أدَّى تحرُّك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإفشال هدف التحرُّكات المُعادية، وكان هذا الهدفُ هو التأثير السلبي على الصف الإسلامي.

ومِن سمات ردود النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خطوات الأعداء ضدَّه أنها اعتمَدت على إمكانات صغيرة نسبيًّا إذا قيسَت بإمكاناتِ عدوِّه، لكنَّه صلى الله عليه وآله وسلم اعتمد على الكِتمان والمُفاجأة، والضرب في المواضعِ الرَّخوة، وفي الأماكن غير المتوقَّعة، معوِّضًا بذلك كلِّه ضعفَ إمكاناته في مواجهة الإمكانات الضَّخمة لأعدائه، كما اعتمد صلى الله عليه وآله وسلم على المبادَرة بالضربِ قبل أن يَستجمع العدوُّ قدراته ويَحشدها، وبذا أمكنَه تنفيذ الهجوم وتحقيق النصر بإمكانات محدودة.

ولا بدَّ مِن التأكيد على أن الردود ليست جميعها مِن النوع العسكري؛ فمنها ما هو إعلامي، ومنها ما هو غير ذلك؛ حيث نصَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه شاعرًا، وحضَّه على هجاء قريش؛ ردًّا على هِجاء قُريش له وللمُسلمين، كما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نصَّب خطيبًا في مُواجهة واقع أنَّ لكل قبيلة خطيبًا رسميًّا.

  • الممارسة السياسية ليستْ ردود فعل فقط، أو خطوات جزئية، بل لا بد من رؤية إستراتيجية محدَّدة ودقيقة، تشمَل تحديد مَن هو العدوُّ، ومَن هو الصديق، ومَن هو الشَّقيق، ومَن هو الحليف، مع تحديد المواصَفات الدقيقة لهذا كله، كما تشمَل مراحل كُبرى مُتتابعة، تَصل بِنا للهدف الإستراتيجي النهائي، الذي يكون تمَّ تحديدُه مِن البداية بدقة، وفي السيرة نجد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم سعى في مكة للحصول على ملاذ يَرتكِز عليه ليتحرك لنشر الإسلام، ووجد المدينة، وذهب إليها، وهناك مرَّ بعدة مراحل، حدَّدها ونفذها صلى الله عليه وآله وسلم بدقَّة:

فأولاً: فرَض سيطرتَه السياسية والأمنية على المدينة، عبر وثيقة المَدينة، كما حلَّ مُشكِلة الفقر الرئيسية بها عبر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعبر الحضِّ على العمل، ومُساعَدة مَن يحتاج لمساعَدة، ليَعمل أو يأكل، بالإضافة للعديد من التدابير الاقتصادية الأخرى.

وثانيًا: تحرَّك حول المدينة بخطوات مُتتابعة، فرَضَ بها سيطرته السياسية والعسكرية والأمنية على محيطها الإقليمي عبر تَحالفات وغزوات، وكانت معظم الغزوات تنتهي بتحالفات محقِّقةً الهدف منها.

ثم ثالثًا: بدأ يتحرَّك ليخنق قريشًا اقتصاديًّا، عبر حصار اقتصاديٍّ اعتمَد على أعمال عسكرية وسياسية، وهذه الأخيرة تمثَّلت في تحالفات مُتعدِّدة، وكانت الواقعة الكبرى في بدايات هذا السياق هي غزوة بدر، وتلتْها أعمال عسكرية وسياسية ودعوية وإعلامية، لتصل لمحطتها الكبرى “صلح الحديبية”، لكنَّ نهايتها بالطبع كانت “فتح مكة”.

النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرَّك بوحي مِن عند الله، لكنَّه كان يأخذ بالأسباب؛ لأنَّ سنَّة الله تعالى في الكون اقتضت أن تسير الأحداث وفقًا للأسباب المقدَّرة قضاءً كونيًّا، وهنا نُلاحظ أن الرؤية الإستراتيجية سبب من هذه الأسباب.

وضمن إستراتيجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه راسَلَ الملوك يدعوهم للإسلام، كما أنه في مرحلة ما أرسل جيش مؤتة، وخرج صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، ومِن هنا نجده صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتظر حتى اكتمال قدرته الكبرى لنهايتها (التي يمكن القول: إنها اكتملت بعد الفتح)، لكنَّه خَطا خُطوات تَحالفيَّة أو دعوية عبر الخيارات الإستراتيجية العالمية والإقليمية المتاحة له حينذاك.

المصدر: الألوكة نت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى