ملامح المشروع السياسي لطالبان
بقلم كرم الحفيان
في ظل الكلام عن ثبات طالبان الطويل العجيب في مواجهة تحالف دولي عريض تقوده أمريكا، وبعد أن مررنا سريعًا على جذور وقيامة الحركة في المقالين السابقين، آن أوان رفع الستار عن المشروع السياسي للحركة (أحد أهم أسباب هذا الثبات) واستعراض أهم ملامحه وتفاصيله، خاصةً مع محاولة الكثير من مراكز التفكير ووسائل الإعلام (لاسيما الغربية) حشره في دائرتين لا ثالث لهما: التبعية لباكستان أو الحضانة للقاعدة، وسيظهر معنا في نهاية المقال مدى صدق هذه الدعاوى.
بداية لابد من الإشارة إلى ثلاث مقدمات ضرورية في تصور المشروع السياسي للحركة:
أولًا: دخول طالبان لعالم السياسة كان عفويًا بعد سيطرتها على الحكم في كابول، ولم يسبقه أي دراسة نظرية أكاديمية أو تنظير فكري سياسي من قادة الحركة.
ثانيًا: لم يحدث أي تغير ملحوظ في لب المشروع، إنما ازداد إطّلاع الحركة على الواقع السياسي الإقليمي والعالمي، وطوّرت أداءها وأدواتها في التعامل معه.
ثالثاً: التغير الذي طرأ على سياسة الحركة كان جُله في النواحي الاجتماعية والإعلامية التي كان الأصل فيها التشديد والمنع؛ كإلزام الرجال باللحى والنساء بالنقاب وعدم خروجهن إلا بمحرم وتحريم التصوير وحظر التلفاز.. إلخ
أما بعد، فلمشروع طالبان السياسي عشرة ملامح رئيسة نصفُها يخص الداخل ونصفها الآخر يتصل بالسياسة والعلاقات الخارجية..
فلنبدأ من الداخل:
الملمح الأول: قطع الصلة بالنظام السابق والقضاء على رموزه ومطاردة فلوله
والمقصود بالنظام السابق: النظام الشيوعي الحاكم قبل وأثناء الاحتلال السوفييتي، والذي بدأ بالتقاط أنفاسه وتجميع قوته والتسلل إلى بعض مفاصل الحكم نتيجة تصارع الأجنحة داخل “حكومة المجاهدين” قُبيل قيامة طالبان، فما كان من طالبان بعد سيطرتها على غالب البلاد إلا أن أخرجت الرئيس الشيوعي السابق نجيب الله من ملاذه وملجئه السياسي داخل مقر الأمم المتحدة بكابول، وأعدمته شنقًا في 27 سبتمبر 1996م، ثم واصلت استهداف وتعقب قادة الشيوعيين وعناصرهم المؤثرة بلا هوادة.
الملمح الثاني: الهوية الإسلامية والنظام الإسلامي
صرحت الحركة منذ الاجتماع الشهير الحاشد لجموعٍ من العلماء المولوية على تخوم كابول في 3 أبريل 1994م ومبايعتهم لزعيم الحركة ومؤسسها الملا محمد عمر حاكماً على البلاد، صرحت أن هدفها إعادة بناء أفغانستان المدمرة، وإقامة نظام إسلامي يطبق الشريعة الإسلامية ويمحو آثار الشيوعية ويحارب الرذيلة والفساد الأخلاقي، ويسعى لأسلمة الهيكل الوظيفي للدولة واقتصادها ونظامها التعليمي وصحافتها وإذاعتها وكل شيءٍ فيها.
الملمح الثالث: حكم الأغلبية الدينية والعرقية
يشكل المسلمون السُّنة 90% من تعداد سكان أفغانستان مع وجود أقلية شيعية بنسبة تقل عن الـ 10% وأعداد قليلة جدًّا من الهندوس، وتمثل حالة “الملالي” التيار الديني العام السائد في البلاد مقارنةً بالجماعات الحركية (الإخوان المسلمين)، ونظرًا لولادة حركة طالبان من رحم تيار الملالي وفي عمق مناطق قبائل البشتون التي تمثل غالبية داخل الغالبية السنية، فإن مشروع وحكم طالبان يمثل غالبية الغالبية الثقافية والعرقية في أفغانستان.
الملمح الرابع: قُطرية المشروع
خلال ربع قرنٍ مضى، هو عمر طالبان في حقبتي الحكم ثم مقاومة الاحتلال الأمريكي، تصر طالبان على أن نطاق تدخلها السياسي وعملها العسكري لا يتجاوز الأرض الأفغانية، وهي لم تقم وليست مسؤولة عن أي عمل عسكري خارج حدودها ، وهي لا تفتأ تؤكد أنها لا تسمح لأحدٍ باستخدام أراضيها لشن هجمات خارجية ، وقد نبهت ضيفتها القاعدة كثيرًا إلا أن الأخيرة تجاهلت الأمر ووقع ما وقع ، وفي أثناء المفاوضات الجارية لترتيب الانسحاب الأمريكي في 2019م جددت طالبان تعهداتها لجميع الدول بمنع أي هجوم أو تهديد انطلاقًا من أفغانستان .
الملمح الخامس: وطنية المشروع
لا تكاد تمر عيناك على أي بيانٍ رسمي تشرح فيه طالبان أهدافها إلا وتجد عبارات مثل: الحفاظ على “المصالح الوطنية” و”الصبغة الأفغانية الخالصة” مقرونة بإقامة “النظام الإسلامي” وتنفيذ “الشريعة الإسلامية” ، وتلحظ دون كثير عناء تأكيدها على أنها حركة أفغانية صرفة، وفي 2016 م صرحت الحركة بعدم وجود مقاتلين -غير أفغان- بين صفوفها .
وبالرغم من وقوع قتال بين طالبان وأحزاب شيعية أفغانية موالية لإيران أثناء حكم الحركة فإنها لم تستهدف عموم الأقلية الشيعية، وفي الآونة الأخيرة فجّر انضمام مجموعات شيعية مقاتلة في مدينة باميان (معقل شيعة أفغانستان) لطالبان مفاجأة للجميع .
أما ملامح السياسة والعلاقات الخارجية للحركة فيمكن إجمالها في أربعة عناوين:
1- النزعة الاستقلالية 2- طول النفس في مواجهة التحديات والخصوم 3- الدبلوماسية المتوازنة 4- البراعة في استثمار التناقضات الدولية، وتفاصيلها كما يلي:
الملمح السادس: “تصفير” المشاكل مع دول الجوار
أ- باكستان
استفادت طالبان كثيرًا من الحلف الاستراتيجي والدعم الكبير من باكستان دون أن تتحول لتابع (والدليل تدمير أصنام بوذا رغم معارضة باكستان وكذلك عدم تسليمها شخصيات مطلوبة دولياً) وذلك لحاجة باكستان الماسّة لصداقة من يحكم أو له نفوذ كبير في أفغانستان في مواجهة الهند وإيران، بالإضافة إلى السمات الشخصية والنفسية لقادة حركة طالبان.
وفي المقابل، لم تصطدم طالبان بباكستان ولو كلاميًا رغم خيانتها لها وتعاونها مع الحملة الأمريكية العسكرية عليها، وانتظرت حتى هدأت العاصفة العالمية، وانشغلت بتجميع قواتها وفلولها، وأعادت ترتيب كيانها وجددت تحالفها مع أجنحة حكومية متعاطفة معها، وأخرى ناقمة على سياسة الأمريكية بعد الغزو.
ب- إيران
لا يخفى على متابع الخلاف الفكري الكبير بين طالبان السنية وإيران الشيعية، وقد حاولت أمريكا عبر بعض الدول التابعة لها استدراج طالبان لحرب مع جارتها إيران في سيناريو مشابه للحالة العراقية زمن صدام حسين، وبالرغم من سياسة إيران العدائية تجاه طالبان فإنها رفضت توجيهها في هذا السياق.
وبعد أحداث سبتمبر، انحنت إيران للعاصفة الأمريكية ضد طالبان وفتحت لها مجالها الجوي، غير أنه مع ازدياد نفوذ الاحتلال الأمريكي في أفغانستان، استغلت طالبان تخوف ايران من حرب أمريكية محتملة عليها، ودشَّنت تحالفًا جديدًا معها، معربةً في 2013م عن رغبتها في علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية مشتركة ، ومؤخرًا صرح المتحدث الرسمي باسم طالبان بتحسن العلاقات مع سائر الجيران (بمن فيهم إيران) ضمن تقدم غير مسبوق في العلاقات الخارجية داعيًا الجميع لدعم جهاد الشعب الأفغاني ضد المحتل الأمريكي .
ت- الصين
تحتفظ طالبان بعلاقات جيدة مع الصين منذ التسعينيات، وقد سقنا في مقالٍ سابق قصة استفسار سفير صيني من الملا عمر عن دعم طالبان لتركستان يقاتلون حكومته، فأجابه الملا بالنفي وبيّن له سياسة طالبان بعدم السماح لأحد باستهداف الدول الأخرى انطلاقًا من أفغانستان. ومؤخرًا اعترفت الصين بطالبان قوة سياسية أفغانية .
الملمح السابع: التعامل المتحفظ مع الأمم المتحدة وقوانينها
انطلاقًا من إدراكها للضرورة السياسية والاقتصادية لتحصيل اعتراف قانوني دولى، سعت طالبان مرارًا وتكرارًا أثناء فترة حكمها للحصول على مقعد أفغانستان في الأمم المتحدة، وتقدمت بطلبات متكررة إلا أنها ختمت طلبها باشتراط عدم الالتزام بأي بند أو قرار يخالف الشريعة الإسلامية.
في هذه النقطة، تختلف سياسة طالبان عن الاتجاهين المنتشرين عند أغلب الجماعات الإسلامية المعاصرة (التي حازت سلطة ولو جزئية)، الاتجاه الأول يرى ضرورة الانضمام والعمل ضمن الهيئات الإقليمية والدولية والالتزام الكامل بقوانينها من باب الإكراه السياسي والحاجة الواقعية، والاتجاه الثاني يرى أن مجرد الانضمام لهذه الهيئات كفرٌ مخرج من الملة، لأن مواثيقها مخالفة للشريعة الإسلامية، وقراراتها غالبًا ما تكون ضد قضايا المسلمين.
أما الخط الثالث الذي تنهجه طالبان فهو التعامل والتواصل مع الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية واحترام القوانين والمواثيق العالمية التي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام ومصالح الوطن .
الملمح الثامن: العلاقة المتقلبة مع روسيا
قصة دراماتيكية من ثلاثة فصول (لم تنتهِ بعد) جمعت طالبان وروسيا، في الفصل الأول جسّدت طالبان دور المقاومة العسكرية في مواجهة المحتل السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، ثم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ووصول طالبان للسلطة في التسعينيات، استمرت الخصومة بين وروسيا وطالبان، وأخذت شكلًا جديدًا تمثل بدعم الروس لتحالف الشمال المعارض لطالبان، ودعم طالبان السياسي واللوجستي لحكومة الشيشان المستقلة حديثًا من روسيا والمتحاربة معها.
أما في الفصل الثالث الذي بدأت أحداثه من بضع سنين، ومع التعافي الجزئي لروسيا والتقاء مصالحها مع طالبان في مقاومة النفوذ الأمريكي في أفغانستان، وتمددها السياسي والعسكري الجديد في العديد من القضايا والملفات الإقليمية والعالمية (أوكرانيا- فلسطين- سورية- أفغانستان)، انقلب العداء إلى تحالف وأصبحت روسيا من الداعمين لطالبان، سواءً على صعيد الاعتراف السياسي من خلال دعوة طالبان للمؤتمرات التي تنظمها من حين لآخر حول القضية الأفغانية، أو عبر تزايد الأنباء عن دعمها عسكريًا .
الملمح التاسع: العلاقة مع الدول العربية والغربية
عمدت طالبان منذ بداية حكمها إلى إقامة علاقات حسنة مع الدول العربية من باب الأخوة الإسلامية، وضرورة تعاضد أجزاء العالم الإسلامي ووحدة شعوبه، إضافةً إلى حاجة أفغانستان الملحة لمساعدات عاجلة للنهوض من حالة الفقر والدمار الذي خلفه الاتحاد السوفييتي.
واللافت للنظر، أنه على الرغم من جهل طالبان السياسي (في بداية حكمها) بتركيبة ودور الأنظمة العربية الخطير في الولاء لأعداء الأمة والمحاربة لدينها وأخلاقها من جهة، ومحاولة بعض الأنظمة (خاصةً السعودية والإمارات) تطويع طالبان وسلخها من قيمها عبر استمالتها ثم مساومتها بملفات الإغاثة والإعمار والدعم الاقتصادي والاعتراف السياسي، فإن عزة حركة طلبة العلوم الشرعية ونزعتهم الاستقلالية فوتت على قوى الشر هذه الفرصة، دون أن يتطور الأمر لقطيعة سياسية، وبقت بعض العلاقات قائمة إلى الآن.
أما فيما يخص العلاقات مع الدول الغربية، فكما صرحت وتصرح طالبان دائمًا أن هدفها إقامة علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع دول العالم.
الملمح العاشر: التفاعل المتواصل مع مختلف القضايا والحركات الإسلامية
في خضم المعارك المستمرة وانخراط طالبان في حربين متتالين مع أقوى قوتين في العالم في مدة لا تتجاوز العقدين، مع ما صاحبهما وتخللها من مسؤوليات إدارية وخدمية وإغاثية جسيمة تجاه الشعب، لم تغِب عن صدارة خطابات طالبان “القضية الفلسطينية” وتحرير بيت المقدس والأقصى، وغالب قضايا التحرر أو الاضطهاد للمسلمين، من تركستان للشيشان فإفريقيا الوسطى وصولًا إلى العراق وسورية ومصر وغيرهم.
وفيما يتعلق بالجماعات الإسلامية، انفتحت طالبان على طيف واسع من الحركات على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية والدعوية، بدءًا من الجماعة الإسلامية بباكستان مرورًا بالتنظيمات الجهادية بأفغانستان ووصولًا إلى حماس والإخوان المسلمين في مصر.
في أفغانستان، ورثت طالبان من مرحلة جهاد السوفييت وما تلاها 14 جماعة جهادية من بلدان مختلفة (إحداها القاعدة) مجموع أعدادها 1400 شخصًا تقريبًا، وعلى الرغم من اختلافها الفكري والسياسي الكبير معها، وأنها ليست هي من استقدمتها لأفغانستان (ولم تطلب يومًا من أي جماعة القدوم لأفغانستان) فإنها رفضت إرجاع أعضائها لحكوماتهم، وبخصوص قضية تسليم بن لادن ومفاوضاتها وملابساتها الكثيرة فأنصح الجميع بقراءة فصل “قضية أسامة” من كتاب “حياتي مع طالبان” للملا عبد السلام ضعيف، ففيها الكثير من تفاصيل الدبلوماسية المتوازنة لطالبان، بعكس ما يتصور الكثيرون.
أما عن نظرتها للإخوان، فلا تخفى الفوارق التاريخية والفقهية والأهداف التنظيمية بين الحركتين، وعلى الرغم من تنسيق بعض الأحزاب الإخوانية الأفغانية مع الأمريكان ضد طالبان، فإن هذه التجربة المريرة لم تدفعها لتعميم الصورة وتبني موقف موحد من الجميع لاشتراكهم في الفكر والتنظيم الأم.
تلزم طالبان نفسها وتجهر بمشروعها وترى أنه بمقدورها إقامة نظام إسلامي خالص عقب خروج المحتل، غير أنها مع فوز مرسي بانتخابات الرئاسة في ظل دستور علماني، استبشرت وهنأت الشعب المصري بـ”القيادة الإسلامية الجديدة”، وعدّت ذلك تحولاً كبيراً وأقوى ضربة للمشروع الأمريكي والصهيوني في المنطقة والعالم (ربما كان سيكون ذلك لو أخد مرسي وإدارته الكتاب بقوة)، وطالبت “الشعب المسلم والرئيس الإسلامي” بالاستفادة من هذا “النصر التاريخي” في الدفاع عن الأمة الإسلامية ، ثم نددت بالانقلاب عليه وبجرائم الجيش والأمن، وطالبت برجوع “الرئيس الشرعي المنتخب” لسدة الحكم، ودعت الأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والعلماء والدعاة، وجميع العالم، بعدم الاكتفاء بالتنديد بالجرائم والاعتقالات، بل باتخاذ خطوات جادة لمنعها .
خاتمة
حاولت هذه المقالة رسم صورة شاملة وموجزة لملامح المشروع السياسي لحركة طالبان، ذلك المشروع الذي كان أحد أهم أسباب: ثبات الحركة في الميدان العسكري في مواجهة تحالف دولي ضم ما يزيد عن أربعين دولة، وتثبيت واستثمار الإنجازات العسكرية وتحويلها لمكاسب سياسة صلبة، وهذا لأنه نظر إلى ما في يديه من إمكانات وأوراق قوة عسكرية وسياسية وشعبية، ثم نظر إلى حال الأمة الإسلامية وتموضعها ضمن خرائط القوى الإقليمية والعالمية، ثم وضع خطته الواقعية الممكنة بعد التوكل على الله.
كانت أبرز ملامح المشروع: القضاء على رؤوس وأركان النظام السابق، إسلامية المشروع، حكم الأغلبية، قُطرية المشروع، وطنية المشروع، النزعة الاستقلالية، تصفير المشاكل مع دول الجوار، الحلف الاستراتيجي مع باكستان، الدبلوماسية المتوازنة، التعامل المتحفظ مع الأمم المتحدة وقوانينها وقراراتها، استثمار تضارب مصالح القوى الدولية وحرب النفوذ المستمرة.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)