مكانة المهاجرين عند الله تعالى الصفات الحميدة والمزايا الفاضلة (7)
بقلم د. علي محمد محمد الصّلابيّ (خاص بالمنتدى)
تُعَدُّ الهجرةُ النَّبويَّة المباركة من مكَّة إلى المدينة أهمَّ حدثٍ في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة؛ إذ كانت نقطة تحوُّل في تاريخ المسلمين؛ فقد كان المسلمون قبل الهجرة أمَّة دعوةٍ، يبلغون دعوة الله للنَّاس، دون أن يكون لهم كيانٌ سياسيٌّ، يحمي الدَّعاة، أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم.
وبعد الهجرة تكوَّنت دولة الدَّعوة، هذه الدَّولة الَّتي أخذت على عاتقها نشر الإسلام، في داخل الجزيرة العربيَّة وخارجها، ترسل الدُّعاة إلى الأمصار، وتتكفَّل بالدِّفاع عنهم، وحمايتهم من أيِّ اعتداءٍ قد يقع عليهم، ولو أدَّى ذلك إلى قيام حربٍ، أو حروبٍ. وبجانب هذا، فإنَّ الهجرة النَّبويَّة لها مكانتها في فهم القرآن وعلومه؛ حيث فرَّق العلماء بين المكِّيِّ، والمدنيِّ؛ فالمكِّيِّ: ما نزل قبل الهجرة – وإن كان بغير مكَّة – والمدني: ما نزل بعد الهجرة – وإن كان بغير المدينة – وترتَّب على ذلك فوائد؛ من أهمِّها:
1 – تذوُّق أساليب القرآن الكريم، والاستفادة منها في أسلوب الدَّعوة إلى الله.
2 – الوقوف على السِّيرة النَّبويَّة من خلال الآيات القرآنيَّة.
وقد أثنى الله – سبحانه وتعالى – على المهاجرين في القرآن الكريم، ووصفهم بأوصافٍ حميدةٍ متميِّزةٍ؛ وذلك لأنَّهم أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكُّر لهم من قرابتهم، وعشيرتهم في مكَّة، وما أُخرِجوا إلا أن يقولوا ربُّنا الله، فمن أهمِّ الصِّفات المميِّزة للمهاجرين:
1 – الإخلاص:
قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]؛ قوله تعالى: يدلُّ على أنَّهم لم يخرجوا من ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾، وأموالهم إلا أن يكونوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته، ورضوانه.
2 – الصَّبر:
ومن صفات المهاجرين، وأخلاقهم المتميِّزة؛ الَّتي أثنى الله عليهم بها الصَّبر. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 41، 42]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]
3 – الصِّدق:
ومن الصفات الحميدة الَّتي أثنى الله – سبحانـه وتعالى – بها على المهاجريـن الصِّدق. قـال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]. قال البغـويُّ في تفسيـره قولـه: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ أي: في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الَّذين تركوا الدِّيار، والأموال، والعشائر، وخرجوا حبّـاً لله، ولرسوله (ص)، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيـه من شـدَّةٍ، حتَّى ذُكِر لنـا: أنَّ الرَّجل كان يعصب الحجـر على بطنـه؛ ليقيـم بـه صلبـه من الجوع، وكان الرَّجل يتَّخذ الحصيرة في الشِّتـاء، ما له من دثارٍ غيرها.
4 – الجهاد والتَّضحية:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20]. تركَّزت دعوة الرُّسل على التَّضحية، والفداء؛ إذ إنَّها تواجه عناداً، وتكذيباً وعداءً مستحكماً، وهذا لابدَّ من مواجهته بصلابة عودٍ، وقوَّة إيمانٍ، ورسوخ عقيدةٍ، وعظيم بذل، والحياة في ظلِّ العقيدة حياةُ جهادٍ وكفاحٍ، ومنذ مطلع الدَّعوة كان نزول جبريل بالوحي إيذاناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإيذاء قومه؛ حيث قال له ورقة بن نوفل: «هذا النَّاموسُ الَّذي أُنزل على موسى. يا ليتني فيها جَذَعاً! يا ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أومخرجيَّ هم؟» فقال ورقة: «نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بما جئتَ به إلا عُودي، وإن يُدركْني يومُك؛ أنصرك نصراً مؤزَّراً».
وقد اشتمل حدث الهجرة على أنواعٍ من التَّضحية، والفداء، وبذل النَّفس، والمال في سبيل الله.
ولعلَّ الملاحظة الجديرة بالتأمُّل في هذا المجال: أنَّ التَّضحية ملازمةٌ للجهاد في سبيل الله؛ إذ لا جهاد دون تضحيةٍ.
5 – نصرُهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8] .
امتدح الله – سبحانه وتعالى – في هذه الآية الكريمة المهاجرين، بأنهم ينصرون الله ورسوله؛ ذلك لأنَّهم ما خرجوا من بين الكفار مراغمين لهم، مهاجرين إلى المدينة إلا لنصرة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ونَصْرُ الله شرطٌ لتحقيق النَّصر، والتثبيت. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7] .
قال سيِّد قطب: وكيف يَنْصُرُ المؤمنون الله؛ حتَّى يقوموا بالشَّرط، وينالوا ما شرط لهم من النَّصر، والتثبيت؟ إنَّ للهِ في نفوسهم أن تتجرَّد له، وألا تشرك به شيئاً شركاً ظاهراً، أو خفيّاً، وألا تستبقي فيها معه أحداً، ولا شيئاً، وأن يكون الله أحبَّ إليها من ذاتها، ومن كلِّ ما تحبُّ وتهوى، وأن تحكِّمَه في رغباتها، ونزواتها، وحركاتها، وسكناتها، وسرِّها وعلانيتها، ونشاطها كلِّه، وخلجاتها، فهذا نصر الله في ذوات النُّفوس. وإنَّ للهِ شريعةً، ومنهاجاً للحياة، تقوم على قواعد، وموازين، وقيمٍ، وتصوُّر خاصٍّ للوجود كلِّه، وللحياة، ونصرُ الله يتحقَّق بنصرة شريعته، ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلِّها بدون استثناءٍ، فهنا نصر الله في واقع الحياة.
6 – التوكُّل على الله عزَّ وجلَّ:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 41 – 42] يمتدح الله – سبحانه وتعالى – المهاجرين، بأنَّهم يتوكَّلون على الله لا على غيره، والتوكُّل على الله خاصِّيَّةُ الإيمان، وعلامته، وهو منطق الإيمان، ومقتضاه. قال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[المائدة: 23] .
وقال تعالـى: ﴿وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84] .
وقال الله تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأَتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾[إبراهيم: 11] وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابتُه الكرام مثالاً يُقتدى به على مرِّ الدُّهور في ترجمة التَّوكُّل في واقع الحياة في حادثة الهجرة، ولحسن توكِّلهم على الله – سبحانه وتعالى – أثنى عليهم، وجزاهم أحسن الجزاء.
7 – الرَّجاء:
ومن صفات المهاجرين الحميدة؛ الَّتي مدحهم الله بها: الرَّجاء. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218] .
وإنَّما قال: وقد مدحهم؛ لأنَّه ﴿يَرْجُونَ﴾ يعلم أحدٌ في هذه الدُّنيا: أنَّه صائر إلى الجنَّة، ولو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ لأمرين: أحدهما: أنَّه لا يدري بما يُختم له، والثَّاني: لئلا يتَّكل على عمله، فهؤلاء قد غفر الله لهم، ومع ذلك يرجون رحمة الله، وذلك زيادة إيمانٍ منهم.
8 – اتِّباع الرَّسول صلى الله عليه وسلم:
وممَّا يدلُّ على أنَّ الهجرة لها مكانةٌ عظيمةٌ في القرآن الكريم: أنَّ الله – سبحانه وتعالى – وصف المهاجرين، وأنصارهم بأنَّهم يتَّبعون الرَّسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117] فالمهاجرون، والأنصار، هم الذين يتَّبعون الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ في أقواله، وأعماله؛ بل في ساعة العسرة، ممَّا يدلُّ على أنَّهم يستحقُّون بذلك الدَّرجة العظمى، والتَّوبة من الله عزَّ وجلَّ.
وقد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنَّهم خرجوا إليها في شدَّةٍ من الأمر، في سَنَةٍ مُجْدبةٍ، وحرٍّ شديدٍ، وعُسْرٍ في الزَّاد، والماء.
قال قتادة: «خرجوا إلى الشَّام عام تبوك في لهبان الحرِّ، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديدٌ، حتَّى لقد ذُكِرَ لنا: أنَّ الرجلين كانا يشقَّان التَّمرة بينهما، وكان النَّفر يتداولون التَّمرة بينهم؛ يمصُّها هذا، ثمَّ يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا، ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم، وأقفلهم من غزوتهم».
إنَّ اتِّباع الرَّسول صلى الله عليه وسلم يدلُّ على حقيقة الإيمان، وحقيقة الدِّين، ويفرِّق تفريقاً حاسماً بين الإيمان، والكفر في جلاءٍ، كما أنَّه دليلٌ على حبِّ الله، وحبُّ الله ليس دعوى باللِّسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أنْ يُصاحبه الاتِّباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسَّير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة. إنَّ الإيمان ليس كلماتٍ تُقال، ولا مشاعر تَجيش، ولا شعائر تُقام، ولكنَّه طاعةُ الله، والرَّسول، وعملٌ بمنهج الله؛ الَّذي يحمله الرَّسول (ص) . قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31 – 32] .
قال ابن كثيرٍ في تفسيره للآية: «هذه الآية الكريمة، حاكمةٌ على كلِّ مَنِ ادَّعى محبَّة الله؛ وليس هو على الطَّريقة المحمَّدية؛ فإنَّه كاذبٌ في نفس الأمر، حتَّى يتَّبع الشَّرع المحمَّديَّ، والدِّين النَّبويَّ، في جميع أقواله، وأعماله، كما ثبت في الصَّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنَّه قال: «مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» [البخاري (2697) ومسلم (1718)] .
9 – حقُّ السَّبق في الإيمان والعمل:
قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الآنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100] .
قال الرَّازي: والسَّبق موجبٌ للفضيلة؛ فإقدامهم على هذه الأفعال يُوجِبُ اقتداء غيرهم بهم. قال صلى الله عليه وسلم : «من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجر من عمل بها، إلى يوم القيامة» [أحمد (4/357 – 358) ومسلم (1017) والترمذي (2675) والنسائي (5/75 – 77) وابن ماجه (203)]. فدواعي النَّاس تَقوى بما يرون من أمثالهم، في أحوال الدِّين، والدُّنيا، وثبت بهذا: أنَّ المهاجرين هم رؤساء المسلمين وسادتهم.
وهكذا اختار الله – سبحانه وتعالى – السَّابقين من المهاجرين، من تلك العناصر الفريدة النَّادرة، الَّتي تحتمل الضغوط، والفتنة، والأذى، والجوع، والغربة، والعذاب، والموت في أبشع الصُّور في بعض الأحيان؛ ليكونوا هم القاعدة الصُّلبة لهذا الدِّين في مكَّة، ثمَّ ليكونوا هم القاعدة الصُّلبة لهذا الدِّين بعد ذلك في المدينة، مع السَّابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوا بها في أوَّل الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أنَّ بيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (بيعة العقبة)، قد دلَّت على أنَّ عنصرهم ذو طبيعةٍ أصيلةٍ مكافئةٍ لطبيعة هذا الدِّين.
وبالمهاجرين، والأنصار تكوَّنت للإسلام قاعدةٌ صلبةٌ من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربيِّ، فأما العناصر الَّتي لم تحتمل هذه الضُّغوط؛ فقد فُتنت عن دينها، وارتدَّت إلى الجاهليَّة مرَّةً أخرى، وكان هذا النَّوع قليلاً، فقد كان الأمر كلُّه معروفاً مكشوفاً من قبل، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهليَّة إلى الإسلام، وقطع الطريق الشَّائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التَّكوين. وبذلك أيضاً تتَّضح لنا منزلة المهاجرين، وعلوُّ طبقتهم في الفضل؛ حيث أنفقوا، وقاتلوا؛ والعقيدة مطاردةٌ، والأنصار قلَّةٌ، وليس في الأفق ظلُّ منفعةٍ، ولا سلطانٍ، ولا رخاءٍ، مما يدلُّ على أنَّهم لا يستوون مع غيرهم من الَّذين أنفقوا وقاتلوا بعد تلك الظُّروف الصَّعبة. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
وقد تحدَّث ابن كثيرٍ عن آية سورة التَّوبة؛ الَّتي بيَّنت فضل السَّابقين من المهاجرين، والأنصار، فقال: فقد أخبر الله العظيم: أنَّه قد رضي عن السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، والأنصار، والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ، فيا ويل من أبغضهم، أو سبَّهم أو أبغض، أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيِّد الصَّحابة بعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ وخيرهم، وأفضلهم، أعني: الصِّديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبا بكرٍ بن أبي قحافة؛ فإنَّ الطَّائفة المخذولة من الرَّافضة يعادون أفضل الصَّحابة، ويبغضونهم، ويسبُّونهم، عياذاً بالله من ذلك! وهذا يدلُّ على أنَّ عقولهم معكوسةٌ، وقلوبهم منكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن؛ إذ يسبُّون من رضي الله عنهم؟! وأمَّا أهل السُّنَّة فإنَّهم يترضَّون عمَّن رضي الله عنهم، ويسبُّون من سبَّه الله ورسولُه، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متَّبعون، لا مبتدعون، ويقتدون، ولا يبتدعون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون، وعباده المؤمنون.
10 – الفوز:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20]. قال أبو السُّعود في تفسيره: أي: المختصُّون بالفوز ﴿هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾، أو بالفوز المطلق، كأنَّ فوز من عداهم ليس بفوزٍ بالنِّسبة إلى فوزهم.
فهذا ثناءٌ من الله العليِّ العظيم، على المهاجرين، بأنَّهم يستحقُّون الفوز العظيم، والفوز يكون عظيماً لأنَّه يأتي من مصدر العظمة، وأيُّ فوزٍ أعظم من هذا الفوز! يخبرهم ربُّهم بأنَّهم من الفائزين في الآخرة، وذلك بدخولهم الجنَّة، وبُعْدهم عن النَّار. قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185] .
11 – الإيمان الحقيقيُّ:
ومن هذه الصِّفات الحميدة؛ الَّتي أثنى الله على المهاجرين بها في كتابه الكريم صفة الإيمان الحقِّ. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الآنفال: 74] .
فهذه شهادةٌ من الله العليم الخبير للمهاجرين بأنَّهم المؤمنون حقّاً، فالمهاجرون رضي الله عنهم هم النَّموذج الحقيقيُّ؛ الَّذي يتمثَّل فيه الإيمان – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما أنَّهم قدوةٌ حسنةٌ لمن جاء بعدهم وصورةٌ حقيقيَّةٌ في ترجمة الصِّفات الحميدة في واقع الحياة، فلذلك استحقُّوا هـذا الثناء الرَّبانيَّ بأنَّهم المؤمنون حقّاً. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الآنفال: 2 – 4]. وهذه الصِّفات الحميدة تتمثَّل في حياة المهاجرين، كما أنَّ المتَّصفين بهذه الصِّفات هم المؤمنون حقَّ الإيمان.
مراجع البحث:
- علي محمد محمد الصّلابيّ، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الطبعة الأولى، 2004.ص.ص (469:461).
- أبو محمَّد الحسين بن مسعود البغويِّ، شرح السنة، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميَّة، القاهرة، 1965م (4/318).
- تفسير أبي السُّعود، المسمَّى إرشاد العقل السَّليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لقاضي القضاة أبي السُّعود محمَّد العماديِّ الحنفيِّ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، مكتبة الرِّياض الحديثة الرِّياض،1981،(1/218).
- فخر الدين الرازي، تفسير الرَّازي، الطبعة الثالثة، دار إِحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، 1999، (15/208).
- مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف – الرِّياض، الطَّبعة الثامنة، 1401 هـ 1981 م. ص، 59.
- أحزمي سامعون جزولي، الهجرة في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، مكتبة الرُّشد، الرِّياض، السعودية، 1996، ص، 84.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة التاسعة، دارالشُّروق، بيروت، لبنان، 1980، (6/3288).