مقالات مختارة

مقدمة حول الأصالة والتجديد في فقه السيوطي

 بقلم د. محمد جبر الألفي

بدأَت علاقتي بالسيوطي منذ نعومَة أَظفاري، عندما شَرعتُ في حفظ القرآن الكريم، وكان شيوخي ينصحون بقراءةِ: “تفسير الجلالين”؛ لفهم ما استغلق من ألفاظِه ومعانيه، ثم توطَّدَت هذه العلاقةُ بفضل أستاذنا الشيخ عبدالوهَّاب عبداللطيف، الذي كان يردِّد على مسامعنا في دروس “مصطلح الحديث” جهودَ السيوطي في خِدمة علوم السنَّة، ويحثُّنا على أن نكتشفَ سَبْقَه وتجديده فيما كتب.

وفي فترة مقامي بفرنسا – للإفتاءِ والبحث والتدريس – التقيتُ بكثيرٍ من المستشرقين الذين كانوا يُعجبون من أنَّنا لم نوف السيوطيَّ حقَّه، وهو – كما قال “بروكلمان” – أغزرُ الكتَّاب المصريين إنتاجًا في العصر المملوكي، بل لعلَّه أغزر كتَّاب العربية قاطبة[1]، عند ذلك جمعتُ ما تيسَّر لي من كتبِه المطبوعة، وما سُمح لي بتصويره من المخطوطات، وكنت أمنِّي النفسَ بإعادة طَبْع كتابه: “الأشباه والنظائر” في قواعد وفروع فِقه الشافعيَّة، طبعة محقَّقة، وأن أضع له شرحًا على غرار ما فعله الشيخ أحمد بن محمد الحنفيُّ الحموي في “غَمز عيون البصائِر على محاسن الأشباهِ والنظائر”؛ لابن نجيم الحنفي، ولكن صرفني عن ذلك اشتغالي بعلمِ الخلاف الفقهي، وفنِّ لغة الفقه، من غير أن تنقطع صِلتي بالسيوطي أو متابعة ما يُكتب عنه أو يقال.

ولما أقام المجلسُ الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالاشتراك مع الجمعيةِ المصرية للدراسات التاريخية – ندوةً في أوائل مارس 1976، لدراسة الشيخ جلال الدين السيوطي[2]، لم أشارِك بها لظنِّي أنها قد تقتصر على الجانبِ التاريخي فيما يتعلَّق بعصر السيوطي، وبتحليلِ منهجه في كتابة التاريخ وإلقاء الضوء على مؤلَّفاته التاريخية، ولقد خاب ظنِّي حين علمتُ بعد ذلك أن هذه الندوة تناولَت – إلى جانب ما توقعتُ – مساهمةَ السيوطي في الدراسات القرآنية والحديثية.

وفي هذا العام تستعدُّ بعضُ المؤسسات الثقافية للاحتفاء بمرور خمسةِ قرون على وفاةِ الإمام جلال الدين السيوطي؛ وذلك بإلقاء الضَّوءِ على مختلف جوانب المعرفة الموسوعيَّة لهذا العالِم الجليل، من أجلِ ذلك حرصتُ على المساهمة بهذا البحث، للكشفِ عن الأصالة والتجديد في فِقه السيوطي.

الأصالة:

ونعني بالأصالة: تحديدَ دور السيوطي تجاه التراثِ الفقهي، ومنهجه في إعادةِ عرض هذا التراث بأسلوبِ عصرِه بعد تنقيته ممَّا شابَهُ من ضَعفٍ، وتجلية ما طَرَأَ عليه من غُموضٍ، وتكملة ما اعتراه من نقصٍ أو قصور.

التجديد:

ونعني بالتجديد: تفاعُل السيوطي مع مستجدَّات عصرِه ومشكلات مجتمعه، تفاعلاً دفعه لأن يتحدَّث بما أنعم الله عليه من سعَة العلم وفِقه النفس وثاقبِ الفكر، فلا يُلغَى وجودُه إزاء السلف الصالح من المجتهدين، ولا يبقى حبيسَ الدائرة التي رسمها أقرانُه من المقلِّدين؛ وإنما يسيرُ في طريق الاجتهاد بعد أن اجتمعَت له أدواتُه، ويسعى نحو الابتكارِ حيثما تهيأَت له أسبابه.

الفقه:

وحديثنا عن الأصالةِ والتجديد في فقه السيوطي لا يقتصرُ على المصطلح الفنِّي للفقه؛ أي: “العلم بالأحكامِ الشرعيَّة الثابتة لأفعال المكلَّفين خاصَّة؛ كالوجوبِ والحَظْر والإباحةِ والنَّدْب والكراهة، وكونِ العقد صحيحًا أو فاسدًا أو باطلاً، وكون العبادة قضاء أو أداءً وأمثاله”[3]، وإنما يمتد ليشمل النظرَ في الأدلَّة الشرعية التي تتعلَّق بها هذه الأحكام؛ أي: “العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلَّتها التفصيليَّة بالاستدلال”[4]، وبهذا يتَّسع الحديثُ لبيان منهجِ السيوطي في كلٍّ من: أصول الفقه وقواعده وفروعِه، فنستعرض سمات الأصالةِ في مبحثٍ أول، ومظاهر التجديد في مبحثٍ آخر.

——————————————–

[1] دائرة المعارف الإسلامية، المجلد 13، ص 27.

[2] جلال الدين السيوطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978.

[3] الغزالي: “المستصفى”، مصر 1322هـ، جـ 1 ص 4 – 5.

[4] النسفي: “التلويح شرح التوضيح”، طبعة محمد علي صبيح بمصر، جـ1 ص 12 – 13.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى