مقالاتمقالات مختارة

مقاصد سنة التدافع (الحلقة الأولى) – بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

مقاصد سنة التدافع (الحلقة الأولى) – بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

أقام الله تعالى الكون والحياة والأحياء على سننه الإلهية وقوانينه الربانية، التي جعلها قوانين كلية عامة ثابتة لا تتغير مضطردة مستمرة تسري على جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم.
ومن أهم هذه السنن سنن التداول الحضاري التي تتعلق بقيام الأمم وانهيارها، وإقامة الدول وهدمها، وعلى رأس هذه السنن سنة التدافع بين الحق والباطل، وقد كتب في هذه السنة كثيرون في ضوء القرآن والسنة، ونحن في هذه الحلقات نقتصر فقط على بيان مقاصد القيام بهذه السنة، فإن للقيام بسنة التدافع والتفاعل معها طبقًا لمراد الله تعالى، مقاصدَ تتحقق بذلك، ومن أهمها:

المقصد الأول: امتثال أمر الله تعالى:

القيام بسنة التدافع والتفاعل معها ليس نافلة ولا خيارًا يختار الإنسان بينه وبين غيره، وإنما هو واجب حتمي لا مفر منه وإلا فالاستبدال هو الفعل الإلهي المترتب على إهمال سنة التدافع طبقًا لسنن الله في الحياة والأحياء.
وكل الآيات القرآنية التي تأمر بالجهاد والإعداد والقتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي واجبات شرعية لا يسع المسلم إلا امتثالها، فحين يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال ٦٠] فإن فيه أمرًا واضحًا بالإعداد، وهذا الإعداد هو عين المدافعة.

يقول العلامة عبد الرحمن السعدي عن إعداد كل ما يمكن إعداده: (أي‏:‏ كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي‏:‏ والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير).

وفي القيام بالجهاد في سبيل الله، وبالإعداد الشامل للقوة المنضبطة بضوابط الشرع، وبمواجهة العدو ومراغمته كما أمر الله تعالى، وببذل كل ما في الوسع.. تحقيقُ الامثال لأمر الله تعالى في القيام بمقتضى سنة التدافع، وبهذا تترتب آثار هذه السنة وتتحقق مقاصدها.

ولهذا يقول العلامة جمال الدين القاسمي: ((دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، اتقاء بأس العدوّ وهجومه، ولما عمل الأمراء بمقتضي هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزًا، عظيمًا، أبيَّ الضيم، قويَّ القنا، جليل الجاه، وفير السنا؛ إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد، وعاش بنوه أحقابًا متتالية وهم سادة الأمم، وقادة شعوب، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة.

وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض؛ ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني، وكيف لا يطمع العدوّ بالممالك الإسلامية، ولا ترى فيها معامل للأسلحة وذخائر الحرب، بل كلها مما يُشترى من بلاد العدوّ؟ أما آن لها أن تتنبه من غفلتها، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدوّ بلادها من أطرافها درسًا يجب أن تتدبره، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورَجِلِه، فيقضي -والعياذ بالله- على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار. وبالله الهداية). [محاسن التأويل: 3025- 3026. الطبعة الأولى. 1957. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي].

المقصد الثاني: امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا كان القرآن الكريم بين أن التدافع أساس كوني وخَلقي وتشريعي فإن السنة النبوية – وهي الشارحة والمبينة للقرآن الكريم – لا تخرج عن ذلك أيضاً؛ وتأتي هنا النصوص النبوية التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك الحديث المباشر في هذا المعنى الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: (أَوَّلُ مَن بَدَأَ بالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوانُ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فقالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فقالَ: قدْ تُرِكَ ما هُنالِكَ، فقالَ أبو سَعِيدٍ: أمّا هذا فقَدْ قَضى ما عليه سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: مَن رَأى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ). [أخرجه مسلم في صحيحه].

فهذا التغيير بدرجاته المختلفة (اليد واللسان والقلب) هو من التدافع، وإن كان يلتقي مع سنة التغيير كما سيأتي ذكره عند الحديث عنها، فالمنكر باطل، ولابد لهذا الباطل من مدافعة، حتى لا تفسد الأرض، ومن عظمة الإسلام أنه حين يعجز المسلم تماماً عن التدافع الذي يبدو أنه قوي ومباشر وهو باليد واللسان، لم يتركه ليجمد ويموت قلبه فيصبح “كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً”، وإنما أبقى له الحد الأدنى ليحافظ على حيويته وحياته؛ فأتاح له التدافع بالقلب، وليس وراء ذلك من التدافع حبة خردل!

ومن ذلك ما ورد عن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ القائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا على أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا). [صحيح البخاري: ٢٤٩٣].

فهؤلاء هم الذين يريدون خرق سفينة الإسلام، وإغراق مركب الدعوة، ولو تركهم الآخرون لهلكوا وهلكوا جميعاً، ومن ثم يجب شرعًا مدافعة هذا التصرف المغفَّل والكسول حتى تتحقق النجاة، وفي هذا من المدافعة ما لا يخفى، ولا تتحقق النجاة إلا بذلك،و في عدم القيام بذلك هلاك للجميع.

ولهذا ورد عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المنكرِ أوليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ). [أخرجه الترمذي: 2169].

وعن عن عبدالله بن مسعود قال: لمّا وقعتْ بنو إسرائيلَ في المعاصي نهتْهُم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسِهم وآكلوهم وشاربوهم فضربَ اللَّهُ قلوبَ بعضِهم ببعضٍ ولعنَهم على لسانِ داودَ وعيسى ابنِ مريمَ عليهما السَّلامُ {ذَلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} قالَ فجلسَ رسولُ اللَّهِ ﷺ وكانَ متَّكئًا فقالَ لا والَّذي نفسي بيدِهِ حتّى تأطروهم أطرًا. وفي روايةٍ كلّا واللَّهِ لتأمرنَّ بالمعروفِ ولتنهونَّ عنِ المنكرِ ولتأخذنَّ على يديِ الظّالمِ ولتَأطُرُنَّهُ على الحقِّ أَطْرًا أو لتَقصُرُنَّهُ على الحقِّ قصرًا أو ليضربنَّ اللَّهُ بقلوبِ بعضِكم على بعضٍ ثمَّ ليلعننَّكم كما لعنَهم”. [أخرجه الترمذي (٣٠٤٧)، وأحمد (٣٧١٣)، وحسنه ابن حجر العسقلاني في تخريج مشكاة المصابيح ٤/٤٨٩].

ففي هذين الحديثين يتضح كل الوضوح أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الظالمين يفسدون في الأرض ويبغونها عوجًا يعاقب الله تعالى عليه عقابًا عامًّا يشمل الجميع، ولا يستثني أحدًا.

المقصد الثالث: حفظ الأرض من الفساد:

القيام بسنة التدافع يحفظ الأرض من الفساد، وهذا المقصد واضح كل الوضوح؛ لأنه منصوص عليه في الآية الكريمة من سورة البقرة التي نصتْ على هذه السنة بشكل مباشر.
قال تعالى: ﴿… وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [البقرة ٢٥١].

والفساد هنا متمثل في معنين باستقراء لكلام المفسرين: المعنى الأول هو الانحراف الذي يحدث إذا تمكن أهل الفساد والكفر في الأرض، كما يصدقه التاريخ والواقع، والمعنى الآخر هو نزول الغضب الإلهي والإهلاك والعقاب إذا لم يقم أهل الحق بمقتضيات التدافع.

عن مجاهد: يَقُولُ: (ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ بِالبَرِّ عَنِ الفاجِرِ، ودَفْعُهُ بِبَقِيَّةِ أخْلافِ النّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، لَفَسَدَتِ الأرْضُ بِهَلاكِ أهْلِها).

وقال الزمخشري: “ولولا أن اللَّه يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن اللَّه ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض”. [الكشاف (1/477)].

وقرر الله تعالى أن حفظ الأرض من هذا الفساد فضل من الله ونعمة، قفال جل شأنه: ﴿ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ قال القرطبي: “بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَفْعَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ شَرَّ الْكَافِرِينَ فَضْلٌ مِنْهُ ونعمة”. [الجامع لأحكام القرآن (4/253)].
وقال السعدي: “حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها”. [تفسير السعدي، ص106، ط العبيكان].

وفي تفصيل للوقوف على سر هذا الفساد وطبيعته ومصدره يقول العلامة ابن عاشور: “وإنما كان الحاصل هو الفساد، لولا الدفاع، دون الصلاح؛ لأن الفساد كثيراً ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن؛ لأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة، ولأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها، بخلاف النفوس الصالحة، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين لأسرع ذلك في فساد حالهم، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت”. [التحرير والتنوير (2/502) ].

وهكذا بعدم قيام المؤمنين بواجب التدافع يعم الفساد في الأرض بعد تمكن الكافرين منها، وظهورهم على المسلمين؛ حيث لا يحكمهم خلق ولا إنسانية، وهذا ما أكد عليه التاريخ حين تمكنوا، وهو نفسه ما يشهد له الواقع المعيش اليوم.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى