بقلم أحمد التلاوي
أتى الإسلام بقواعد عامة في مختلف الاتجاهات، ولم يحبِّذ أو يزكي منظومة على منظومة أخرى، سواء في السياسة أم في الاقتصاد، أو في الجانب المجتمعي.
وشاءت حكمة الله تعالى أن يكون الإسلام في منظومته الشاملة عبارة عن هذه القواعد العامة، من أجل أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان إلى أن يشاء الله تعالى؛ فيرفع القرآن الكريم والإيمان من الأرض؛ فلا يبقى عليها إلا شرارها، فتقوم عليهم القيامة كما أخبر النبي الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”.
وفي هذا الإطار، لم يحدد الإسلام نظامًا معينًا للحكم، لكن الشريعة قالت بأن أية منظومة يتم الحكم بها في ديار الإسلام يجب أن تلتزم بتحقيق مقاصد الشريعة الخمس، وعلى رأسها حياة الإنسان، ومناطا التكليف؛ العقل والحرية، على أن تقوم على أساس قواعد العدالة والشفافية والمحاسبة، وغيرها مما يُعرَف في زمننا المعاصر بقواعد الحكم الرشيد.
الشريعة قالت بأن أية منظومة يتم الحكم بها في ديار الإسلام يجب أن تلتزم بتحقيق مقاصد الشريعة الخمس، وعلى رأسها حياة الإنسان، ومناطا التكليف؛ العقل والحرية، على أن تقوم على أساس قواعد العدالة والشفافية والمحاسبة، وغيرها
ونرى الآن الكثير من الجدل في أوساط الحركة الإسلامية بشأن الصورة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها نظام الحكم في الدولة الإسلامية التي يتطلع الجميع إلى استعادتها على أية صورة من الصور.
وفي حقيقة؛ الأمر؛ فلقد قادت الظروف والمستجدات التي تمر بها الحركة الإسلامية في الوقت الراهن، إلى انسياح الكثير من الأفكار في إطار بحث الجميع بلا استثناء عن بدائل في ظل الفشل الذي آلت إليه الأمور ، وحمَّل البعض المسؤولية فيه للأطر والآليات والأفكار التي كان معمولاً بها في المرحلة السابقة.
ونجد في هذا السياق، أن الكثيرين قد قادتهم مرحلة التيه الفكري هذه، في ظل غياب الأطر التنظيمية التي كانت تعمل على وضع البرامج التربوية ومتابعة أنشطة التنشئة والتلقين الفكري، إلى تبني بعض الأفكار التي لا تتفق مع الشريعة الإسلامية، ولا حتى مع قواعد السياسة السليمة التي تحقق الأثر المنشود.
ومالت نسبة لا بأس بها من شباب الحركة الإسلامية على وجه الخصوص، إلى الأفكار التي تعظِّم في قيم القوة والعنف سواء على المستوى الفردي، أو المجتمعي، وقيم الاستبداد السياسي، وما اتصل بذلك.
مالت نسبة لا بأس بها من شباب الحركة الإسلامية على وجه الخصوص، إلى الأفكار التي تعظِّم في قيم القوة والعنف سواء على المستوى الفردي، أو المجتمعي، وقيم الاستبداد السياسي، وما اتصل بذلك
فكان هناك الأخذ من أفكار فلاسفة ملحدين مثل نيتشه، نظرية “الإنسان السوبرمان” بالتحديد، وأفكار كارل شميت، الذي مجَّد في نظرية القوة، وكانت أفكاره مع نيتشه هي منبع أساس، ضمن مصادر أخرى نهضت عليها التجربة النازية في ألمانيا، بين العشرينيات والأربعينيات الماضية.
ولعل البعض منبهر بالفعل بعدد من الأمور في تجارب مثل النازية في ألمانيا، والستالينية في الاتحاد السوفييتي السابق، ويعمل على دراسة ما اتصل وشابه من تجارب سياسية عبر التاريخ، من خلال الأمور التالية:
الأمر الأول؛ هو كيف تصدت هذه الأنظمة لخصومها السياسيين، وفق مبدأ واحد، وهو العنف السياسي، سواء الفردي أو الجماعي، من خلال النفي والقتل والاعتقال وغير ذلك من الآليات.
الأمر الثاني؛ هو كيف استطاعت هذه الأنظمة أن تحقق التنمية الشاملة، وفي وقت قياسي وجيز، تحولت معه هذه الدول والكيانات من مجتمعات زراعية ذات اقتصاد ريعي، وتعاني من الفقر والفاقة، إلى أمم صناعية تملك جيوشًا قوية، وذات سطوة تمتد عبر العالم.
الأمر الثالث في هذا المجال، هو كيف استطاعت الأحزاب والقوى السياسية التي أسست لهذه الأنظمة السيطرة على مؤسسات الدولة والمجتمعات، في ظل كون أحد أهم العوامل التي قادت إلى فشل الحركة الإسلامية بعد ما عُرِفَ بالربيع العربي، كانت الممانعة التي أبدتها المؤسسات القديمة المتوارثة من عهود الأنظمة الاستبدادية التي قامت عليها الثورات الشعبية.
وبطبيعة الحال؛ فإن هناك الكثير من الخلط في الأمور، ويمكن القول إنه على العكس؛ لا يوجد خير في الأخذ من هذه الأفكار والنظريات.
وبعيدًا عن الشق الإيماني والقيمي في أنها ما دامت تتعارض مع الشريعة الإسلامية؛ فهي باطلة؛ لأن الإنسان مهما كان لا يمكنه أن يصل بعقله القاصر – حاشا لله تعالى – إلى حكمة بالغة عن حكمة الخالق عز وجل؛ فإنه يمكن للباحث المُدقِّق من خلال دراسة محققة لوقائع التاريخ بعيدًا عن ظاهر القول، والمقولات المُعَلَّبة المتوارثة؛ الوصول إلى نتائج تفيد بتهافت مثل هذه النظريات، وأننا لا يجب أن نبتعد كثيرًا ولا قليلاً حتى، عن صحيح شريعنا وما أمرتنا به.
فالديكتاتوريات والاستبداد وقوة القهر؛ لا تصل بالإنسان إلى تحقيق مبتغاه، ولا تحقق أي شيء سَوِيٍّ.
الديكتاتوريات والاستبداد وقوة القهر؛ لا تصل بالإنسان إلى تحقيق مبتغاه، ولا تحقق أي شيء سَوِيٍّ
وعلى أبسط تقدير؛ هل نتصور أنه لو كان استبداد الامبراطورية في اليابان، أو النازيين في ألمانيا، أو الفاشيين في إيطاليا، قد حقق غرضه في تأسيس أجيال تؤمن حقيقةً بشعارات هذه الإمبراطوريات؛ كان يمكن للتغيير في هذه المجتمعات أن يحدث بالسرعة التي رأيناها بعد الحرب العالمية الثانية؟!
إطلاقًا؛ ولحارب هؤلاء حتى آخر مواطن في سبيل هذه الديكتاتوريات التي قامت على أساس هذه النظريات التي تمجِّد القوة غير الرشيدة ولا تأبه بأي شيء من مقاصد الشريعة التي نعرفها.
إن قروناً من إكراه الحكم الامبراطوري في اليابان؛ تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية بسهولة نسبية، ولا علاقة للأمر بالقنابل النووية أو الاحتلال الأمريكي؛ فقد تكون الآلة العسكرية الأمريكية قد أجبرتهم على الاستسلام؛ لكن ما تلا ذلك من تغيير لم تحدثه قوة الذرة.
ما تبقى من هذه الأنظمة هو إحساس الياباني/ الألماني القومي، وهو أمر متوارث وفي جينات هذه الشعوب، لكن ما فعلته الديكتاتوريات؛ كان من السهل تغييره.
ثم هناك ملاحظات مهمة يؤكدها التاريخ، وتقول بتهافت هذه المدارس، منها مثلاً أن ألمانيا من قبل هتلر، لم تكن أمة خاملة؛ بل على العكس؛ كانت ألمانيا بلداً امبراطوريا، ذا طابع صناعي، بل واستعماري توسعي، ولاسيما منذ توحيده على يد بسمارك، في القرن التاسع عشر.
ثانيًا؛ أنت تقف أمام جانب واحد من تجربة أدولف هتلر، أو الميجي في اليابان، أو موسوليني في إيطاليا، وهي فترة الصعود، ولكن كمجمل عام؛ هذه التجارب قادت هذه الدول العظمى إلى الدمار، وكل ما فعله هؤلاء بنظرياتهم، هو أنهم وضع بلدانهم تحت سيطرة استعمار أجنبي، وتسببوا في تقسيمها في حالة ألمانيا مثلاً، وإلى الآن، قيود الهزيمة في الحرب العالمية الثانية؛ تطوي أي كبرياء ألماني أو ياباني.
ثم إنه قول متناقض كذلك، أن نعتبر بفلسفات تمجِّد من العنف، وصنعت حكومات وأنظمة استبدادية قتلت شعوبها – هتلر قتل قبل الحرب مئات الآلاف من الألمان من الشيوعيين واليهود والمعارضين له بشكل عام – وتسببت في مقتل وتشريد مئات الملايين عبر العالم، بينما نحن نقول إننا نريد الإصلاح والديمقراطية وغير ذلك من القيم، التي لا يجوز أخلاقيًّا تبنيها وإلا لا نكون نمُتُّ للإسلام بصلة.
في الحرب العالمية الثانية، هناك موقف لافت للغاية تبناه دوايت آيزنهاور عندما كان يتولى قيادة قوات الحلفاء.
قبيل اقتحام برلين، طلب منه رئيس الوزراء البريطاني في حينه، وينستون تشترشل، والرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، فرانكلين روزفيلت، الإسراع باقتحام برلين قبل السوفييت الذين كانوا قد اقتربوا منها من جهة الشرق، للحؤول دون حصول ستالين على مكاسب سياسية في مرحلة ما بعد الحرب.
آيزنهاور رفض ذلك لأنه كان سوف يكلفه مئات الآلاف من جنوده، ونفَّذ من دون الرجوع للقيادات السياسية للحلفاء، لأنه كان القائد الأعلى للقوات وله الحق في ذلك، وقال: فليحصل ستالين على ما يريد؛ لكن سوف أحافظ على حياة جنودي.
هذا القرار بالرغم من أنه قد قرر شكل العالم ربما بالكامل بعد الحرب، وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع التسعينيات الماضية؛ إلا أنه يخبرنا أن الديمقراطيات أقرب في نقطة الحفاظ على مقاصد الشريعة، في صدد حياة وحرية الإنسان .
فقد تكون، بل بالتأكيد؛ فإن الولايات المتحدة قوة غاشمة في المجال الدولي، وسببت مآسٍ كثيرة في العالم؛ لكن داخل الديمقراطيات؛ هناك اهتمام حقيقي بحياة الإنسان وحريته.
وربما هذا الغرس هو أهم ما يجعل الأمريكيون يعتزون بدولتهم ويدعمون سياساتها، وهذا يعود بنا إلى السياق الأصلي للحديث؛ وهو أن الديكتاتوريات والفلسفات التي أفرزت تجارب حكم قمعية؛ لا تقود إلى نتائج إيجابية، أو إلى شعوب مُحِبَّة لأوطانها.
فالاستبداد والديكتاتوريات لا تصنع قناعات، وإنما مواقف ظاهرة بناء على إكراهات، والديمقراطيات في النهاية مهمة في الحفاظ على أهم مقصدَيْن في شريعتنا؛ حياة الإنسان وحريته.
الاستبداد والديكتاتوريات لا تصنع قناعات، وإنما مواقف ظاهرة بناء على إكراهات، والديمقراطيات في النهاية مهمة في الحفاظ على أهم مقصدَيْن في شريعتنا؛ حياة الإنسان وحريته
إننا مؤمنون تمامًا بأن الإسلام دين شامل في أفكاره التأسيسية في كيفية النظر للكون، والتعامل مع الحياة، وفي نظرة الإنسان لنفسه ودوره.
ونحن لا نتكلم عن العربة التي يمكن أخذها من الغرب أو غيره؛ بل نتكلم عن الأفكار الأصولية التي نحيا بها.
وكل هذه الأفكار؛ ما لم تتم مراجعتها، فلن يمكن الحديث عن مشروع إسلامي سوي ومتسق مع مفاهيم الإسلام بالكامل؛ كدين وكتصور شامل للحياة، وهو أمر مفصلي في صدد قبوله أو عدم قبوله من مئات الملايين من المسلمين من خارج الحركات الإسلامية الطليعية.
(المصدر: موقع بصائر)