مفهوم الدين بين الإيمان والإلحاد
بقلم عبدالله الحسيني
جرت عادةُ الإلحادِ في تقاريره أن يقفز قفزات بَهْلَوانية عَجُولة وعصبية ليصلَ إلى نتائجه المُعَدَّة سَلَفا، ومِن أقوى وأكبر هذه القفزات البهلوانية إصرارُه الشديد على تخطي مَفَاهيم: الدين والربّ والإله من دون بيانٍ، لِيَشْرَعَ مُبَاشرَةً فِي مَعزوفة تصم الآذَان يقرر من خلالِها أنه لا يعترف بالدين، وأن الرب مجرد فكرة خرافية لا يشهد لها عقل ولا علمٌ ولا تجربة!
فالإلحادُ إذ يقرر ذلك لا يبين للناس مُرادَهُ بــ: “الدين والرب والإله” على عادة الأكاديميين الذين يُقَدِّمُونَ الجهازَ المفاهيمي لأطروحاتهم ويشرحونه قبل الشروع في الأطروحة نفسها، أما الإلحاد، فَإنَّهُ يستمر بنفس اللامبالاة الصبيانية في تقرير المسائل، وتأسيس القواعد والقيم دونَ أن يكلفَ نفسَهُ أن يبين للناس ماهيةَ هذا الشيء الذي ينكرُ وُجُودَه ولا يعترفُ به، وهذه في الحقيقة ورطةٌ كبيرة ومأزقٌ عويص، وهو في الوقت ذاته غش للنفس والناس واستخفاف بعقولهم، لأنه بهذا يَكِلُ جُزْءًا كبيراً من أطروحته الإلحادية إلى ما استقرَّ سلفًا عند الناس من تصورات متباينة، ليقفز بعد هذا إلى النتيجة الكاذبة الخاطئة: لا إله! ولا دين!
والواقعُ إن كلَّ شخص قد يفهم معنى الدين والإله على نحو ما وبدرجات مختلفة، فكان اللائق بالإلحاد الذي يدعي المنهج العلمي والأسلوب الأكاديمي أن يضبط هذه المفاهيم ويبين مُرَادَهُ بها كَيْ يعلم الناس معنى ذلك النفي وحقيقة ذلك الإنكار ما هو؟ وما وجْهُه؟
وفي ظني أن الإلحاد يعلمُ أن ذلك انتحار، فإنَّ ضَبْطَ مفهوم الإله ومفهوم الدين من شأنه أن يُظْهِرَ بجلاء أن الإلحادَ يُقَدِّمُ نفسَه دينًا بديلًا عن الأديان! أي أن الإلحادَ واقعٌ جدًا فيما ينفيه وينكره، وأشبهُ شيء بهذا هو رفض الدول الاستعمارية تعريف الإرهاب، لأنَّهُمْ لو فعلوا لكان ذلك شهادة على أنفسهم أنهم سادَةُ الإرهاب وسدَنَتُه.
فما هو الدين؟
الدين: هو منظومةُ العقائد والآداب والأخلاق والمعاملات والقوانين التشريعية التي تَرتضيها جماعةٌ من الناس وتلتزمُ بالإيمان بها وبطاعتَها والانقياد لها، حقًا كانت أم باطلًا، صوابًا كانت أم خطأ.
وهذا بالفعل ما تدعيه كل المنظومات الفكرية والمذاهب والفلسفات البشرية، من ديموقراطية وعلمانية واشتراكية ورأسمالية وشيوعية وليبرالية وإلحاد ووطنية وعبثية وفوضوية وغيرِها من الآراء البشرية، التي تزعم لنفسها أنها المنهاج الأفضل والسبيل الأقوم لتنظيم العلاقات الإنسانية، وتشريع القوانين، ووضع منظومة القيم والعقائد والأخلاق والآداب التي يُرادُ من الناس أن يؤمنوا بها وأنْ يعتقدونها ويطيعوها. فمدار الدين على الالتزام والطاعة لما يعتقده من يدين به.
قال ابن فارس في بيان أصل كلمة الدين: “الدال والياء والنون أصل واحد يرجع إليه فروعه كلها، وهو جنس من الانقياد والذل، فالدين الطاعة، يُقال: دان يدين دِينًا إذا أصحبَ وانقادَ وطاعَ، وقومٌ دِينٌ أي مطيعون منقادون… والمدينة: كأنها مفعِلة، سميت بذلك لأنها يقام فيها طاعة ذوي الأمر”. فهذه المنظومة -باللغة الشرعية أو في اللغة القديمة- هي الدين.
والملحدون يتعمدون اختصار مفهوم الدين في مفهومي العقائد الغيبية وفي الأعمال التعبدية المحضة أي الطقوس والشعائر التعبدية، ولهذا يكذبون على الناس في دعوى أنهم لا يؤمنون بدين أي أنهم لا يؤمنون بالغيب ولا يؤدون الطقوس والشعائر، والحقيقة أن اختزال الدين في هذين الأمرين مسخٌ لمفهوم الدين وخداع وغش للناس، فإن الدين في حقيقة الأمر أوسع من هذا المعنى إذْ يمتدُّ ليشملَ كلَّ جوانب الحياة، فهو كما تقدَّم منظومةُ العقائد والآداب والأخلاق والمعاملات والقوانين التشريعية التي تَرتضيها جماعةٌ من الناس وتلتزمُ بالإيمان بها وبطاعتَها وبالانقياد لها، حقًا كانت أم باطلًا، صوابًا كانت أم خطأ.
وعلى هذا، فإنه لا يُشْتَرطُ أن يكونَ كل إله معبود غيبًا لتسمى تلك المنظومة دينًا، ولا يشترط كذلك أن تكون عقائدها غيبية -مع أن الإله الحق غيبٌ، والدين الحق يشتمل على عقائد غيبية دلَّ عليها العقل والشرع- نعم لا يُشْتَرطُ أن يكونَ كل إله (معبود) غيبًا، فقد يدعي بعضَ خصائص الألوهية شخصٌ أو تُدَّعى فيه، أو تُدَّعى في شيء فيسمى في عُرف العرب -بل وفي عُرف الناس- إلهًا، فقد عُبِدَ فرعونُ ولم يكن غيبًا، وعُبِدَت الشمسُ ولم تكن غيبًا، بل وعُبِدت الأحجار والأشجار ولم تكن غيبًا.
ثم إن من خصائص الإله الحق التصرفُ بالأمر والنهي والتشريع في مُلْكه بمعنى سن القوانين، فكل من سنَّ القوانين والتشريعات -أو نُسِبَ له ذلك- فإنه يزعم أن له -أو للمنسوب إليه ذلك- حق الملك والتصرف في البشر، وهو بهذا إلهٌ وصنم، وإنْ كانَ ينكر ذلك أو يزعم أنه لا يؤمن بإله. والاستدلال بالآيات هَهُنا ليس استدلالًا شرعيًا، وإنما هو استدلال لغوي محض على معنى الدين من أوثق المصادر العربية، ألا وهو القرآن الكريم وكلام أئمة اللغة في بيانه. قال تعالى: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك) أي في سلطةِ المَلك وحكمه وقضائه وهو دينٌ باطلٌ لا شكَّ، فأي دينٍ للملك؟!
قال أبو جعفر الطبري: وأصل الدين الطاعة. أي طاعة القانونِ والتشريع والامتثال للحُكْم بلغة العصر. وقال الإمام البغوي: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ) فيضمه إلى نفسه (فِي دِينِ الملك)، أي: في حكمه، وقال قتادة وابن عباس: في سلطانه. والسلطان هنا هو السلطة بلغة العصر. وقال الإمام ابن كثير: وقوله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك) أي: لم يكن له أخذه في حُكْم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره. وقال الزمخشري: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك) تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يَحْكُمُ به في السارق أن يَغْرِمَ مِثْلَيْ مَا أَخَذَ، لا أن يُلْزَمَ ويُسْتَعْبَد. وقال العلامة ابن جزي الأندلسي: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك) أي في شرعه أو عادته، لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم.
فهذا هو الدين في لغة القرآن وفي لغة العرب: إنه القانون الذي تَلْزمُ طاعته، والحكم والقضاء الذي يجب الامتثال له عند من يدينُ به، حقًا كان أم باطلًا، فأي دين كان للملك؟! ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة الكافرون: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وأي دين للمشركين إلا الكفر والضلال، ومع هذا سماه دينًا.
قال ابن كثير: وقال البخاري: يقال: لكم دينكم الكفر، ولي دين الإسلام. وقال ابن جزي رحمه الله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم ولي توحيدي. فكما يُسَمَّى الصنَمُ إلها ورباًّ عند المشركين وإنْ كانت ألوهية باطلة وربوبية باطلة، فكذلك الدين، يقال للدين الحق وللدين الباطل، وعلى هذا صريحُ القرآن.
مذاهب أم أديان
فَكُلُّ مذهب أو نَظَرِيَّةٍ تُفَسِّرُ الكون -أيًا كانت هذه النظرة- سواء اعترفت بإله أم لم تعترف، أم اعترفت بآلهة متعددة، وسواء كان إلهًا غيبيًا أم متشخصًا يُرى بالعين، كلُّ ذلك لا يُخرجها عن كونها دينًا، وكونِ أولئك الذين اخترعوها وَنَظَّرُوا لها آلهةً وأربابًا عند متبوعيهم، وسواء ارتضى أئمة ذلك المذهب وعلماؤُهُ (الْمَتْبُوعونَ) هذه الألفاظ: الدين، الآلهة، الأرباب -أم لم يرتضوها-، وسواء علم الأتباع أن أولئكَ آلهة وأرباب عندهم أم لم يعلموا، كل ذلك لا يخرجُ تلك النظرية وذلك المذهب وتلك الفلسفة من كونها دينًا، وكونِ مبتدعيها والمنظرين لها آلهة وأربابًا، قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)، وإنما كانت عبادتهم للأحبار والرهبان بطاعتهم في التحليل والتحريم والتشريع، مع أنَّ أولئك الأحبار والرهبان بشر من لحم وعظم ولم يدعوا الألوهية، ولا ادعاها لهم أولئك الأتباع الجهلة، ومع هذا فقد جعل القرآن ذلك الفعل عبادةً منهم للأحبار والرهبان، وسمى أولئك المحرفين أربابًا مع أنهم لم يدعوا الربوبية ولم يدّعها فيهم أولئك الأتباع.
ونخلُصُ من هذا إلى أن الإلحاد دين، وإن زعم أئمة الإلحاد أنَّهُم لا يؤمنون بالأديان ولا يؤمنون بإله، فإن الإلحادَ دِينُهم، وهم أئمته وآلهته وأربابه، فإنَّ العبرة إنما هي بتسمية الشرع لذلك دينًا، وتسمية مُخترعيه ومشرعيه ومنظريه آلهة وأربابًا. فحقيقة الدين كما تقدم هي ذلك النسق المتشابك من العقائد والقيم والآداب والأحكام والقوانين والمعاملات التي تلتزمُ جماعة من الناس طاعتها والخضوع لها. والناظر في الإلحاد يجده كذلك، فإنه نسق متداخل ومتشابك يؤسس للعقائد، وينظمُ القيم والمبادئ ويؤسس الآداب والأخلاق، ويشرع القوانين والأحكام، فهو بهذا دين عندَ معتنقيه، والمنظرون المشرعون لهذه المنظومة من القوانين والعقائد والأحكام والآداب هم آلهة الإلحاد وأربابه وأصنامه، وإن زعم الملحدون أنَّهم لا يؤمنون بالأديان ولا يعترفون بالآلهة، فالعبرة بتسمية الشرع لهم كذلك لا غير.
وقل ذلك أيضًا في الشيوعية فإنَّها دين كذلك، وكذلك الليبيرالية وهكذا… فكل تلك المذاهب السياسية والنظريات والتصورات حول الكون والحياة والعلاقات الإنسانية والقوانين والتشريعات المنظمة إنما هي أديانٌ باطلة، اخترعها وَنَظَّرَ لها أَصْنَامُها وأرْبَابُها -من أصحاب النفوذ والسلطة ورؤوس الأموال- ليستعبدوا العبادَ ويخرجوهم بها من عبادة الإله الحق إلى عبادتهم هم، فيتوصلوا بذلك إلى أخذ ما بأيديهم من الثروات والخيرات، نعم إنها أديان، ولكنها أديان باطلة.
وكذلك الديموقراطية، فهي دينٌ له عقائده وأحكامه وآدابه وأركانُهُ وواجباتُه وأحكامه وطقوسه وأعياده ومواسمُه، بل ونواقضه، فَإِنَّ فيها مذهب التكفير، أعني أنَّ المنظرين لدين الديموقراطية على سبيل المثال قد يخرجون بعضَ بني جلدتهم من دين الديموقراطية فيرمونهم بالفاشية والنازية والدكتاتورية، وتلك هي الردة في دين الديموقراطية، لكنها ردة عن أحكام الديموقراطية، وليس هذا إلا نظير التكفير في الإسلام، فالديموقراطية دين إذًا، فليحذر الموحد أن يشارك في طقوس الكفر وشعائر الشرك وهو لا يشعر.
وكذلك مذهب العبثية والفوضاوية، وغيرها من المذاهب والنظريات التي تفسر وجود الكون وتنظم العلاقات البشرية وتنظر لها، كلها أديان مهما بدت سخيفة، ولا يلزم من تسميتها دينا أنها حق، قال تعالى في الذين جعلوا مذهبهم في الحياة اللهو واللعب: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، فسمى ذلك المذهب دينا.
فإن زعم مُشَرِّعُوها أو المعتنقون لها أنهم لا يؤمنون بالدين ، فإنما يعني ذلك أنهم يَكْفُرُونَ بما سِوَاها من الأديان، وهذه طبيعة الدين لما فيه من الثوابت التي تقتضي: أنه لا يقبل النقيض ، فالذي يؤمنُ بأن الكونَ وُجدَ من غير خالقٍ هو على النقيض ممن يقول إن الكونَ له خالق، فهما نقيضان لا يَسْلمُ أحدُهما إلا بردِّ الآخر والكفر به، فهما طرَفَا نقيض، وَعُدْوَتَانِ مُتَبَاعِدَتَان متفرقتان، كَعُدْوَتَي الوادي -أي جانباه- لا تلتقيان أبدًا، ومنهُ اشْتُقَّت المعاداة والعداوة للبعد المستمر بينهما، فمن دانَ بدين الإلحادِ والدهرية الداروينية فإنَّهُ يَكْفُرُ بالخالق المبدع! وَيُعاديه، وَيُحَادُّه، أي أنه في حَدٍّ، وأهل الإيمان بالخالق في حدٍّ غيره، فإن أقرَّ بالخالق أخرجَهُ أئمةُ الإلحادِ من “دين الإلحاد” لأنَّهُ أتى عندهم بناقضٍ من نواقض الإلحاد وانتقل من حدِّ الإلحادِ وَعُدْوَتِه إلى حّدِّ الإيمانِ بالخالق وَعُدْوَتِه، ولا يعني هذا أبدا أنه مؤمن بالله وبألوهيته، بل ويتجاوز الأمر هذا التكفير! -إن صحَّ التعبير- إلى الأذى والحرب النفسية التي ربما تنتهي إلى القتل والتخوين والتهم التي لا تُحصى، ولا أدلَّ على هذا من الإرهاب الفكري الذي تًمارسه عصابة الإلحاد الداروني المتصهين -مثلًا- بقطع أرزاق كثير من العلماء الماديين الغربيين لما انتقدوا نظرية النشوء والارتقاء، وردوا نظرية دارون.
(المصدر: موقع تبيان)