مقالاتمقالات مختارة

مفهوم الاستبداد.. بين الكواكبي ودو لا بويسي

مفهوم الاستبداد.. بين الكواكبي ودو لا بويسي

بقلم الجيلالي طاهري

عبد الرحمن الكواكبي” و”إيتيان دو لا بويسي” من أبرز المتكلمين عن الاستبداد والطغيان وأسبابهما وما يجرانه على حياة الشعوب من كدر وقتر وأهوال، ومن الأول الذي يمثل نظرة العالم الشرقي لمضامين هذا الموضوع إلى الثاني الذي ينظر بفكر غربي له حيثياته وأطره، تتجلى لنا التشابهات والاختلافات بين الفكرين الهادفين للبحث عن أصل الداء الذي يصفه الكواكبي “بالانحطاط الاجتماعي” مضيفا بأن علته “الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية”، ومع أن الكواكبي متأخر عن دو لا بويسي بما يقرب من ثلاثة قرون إلا أن كتابه “طبائع الاستبداد” كان أكثر تفصيلا وبحثا في تفرعات هذا الموضوع من دو لا بويسي في “مقالته عن العبودية الطوعية”!..

بحث إيتيان في مقالته مظاهر عبودية الشعوب مرتكزا أساسا على أربعة مصطلحات محورية: العبودية، الحرية، الطاغية والشعب، وكان يحاول دائما أن يوجد الروابط الأساسية بينها، فـ”الشعب بعد أن جرى إذلاله يسقط بغتة في نسيان للحرية عميق جدا.. إذ أنه لم يفقد فقط حريته بل هو قد فاز بعبوديته” ويقول أن هذا الطاغية “ليس له سلطة عليكم إلا بكم” و”لا يملك من القدرة سوى التي تمنحونها” فكأن هذا الشعب “أناس لم يولدوا إلا ليسترقوا” فهم “إما مقهورون أو مسحورون”، ويتفق دو لابويسي في هذه النقطة مع الكواكبي، فالأول يقول “يبدو أنكم إذا ترك لكم نصف ممتلكاتكم ونصف عائلاتكم ونصف حياتكم تعتبرون ذلك سعادة كبرى”، والثاني يقول أن “العوام هم قوت المستبد وقوته، يغصب أمولهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا سرف أموالهم يعتبرونه كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما”.

جعل الكواكبي لفظة “الاستبداد” مركزية في كتابه في فلكها بحث جميع متعلقاتها، فأسهب في ذكر أسبابه ونتائجه وأحوال العامة في خضم ذلك، فهو قد عرف الاستبداد بأنه تلك “الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة، مصونة بقانون نافذ الحكم”، وهذه الحكومة تستعمل في نظره وسيلتين هما: “جهالة الأمة” و”الجنود المنظمة” الذين يسميهم في تفصيل آخر بالمتمجدين وهو يتفق في هذه الوسيلة مع إيتيان الذي يقول: “أن الأسلحة ليست هي التي تحمي الطاغية وإنما هم على الدوام أربعة رجال أو خمسة يساندونه ويخضعون له البلاد كلها”، وتطرق كلاهما إلى السلسلة التي تربط بين جميع المتمجدين والطاغية الذي يخدمونه فشبههم إيتيان “بقول هوميروس على لسان جوبيتير الذي يتبجح قائلا إنه لو سحبت تلك السلسلة لاستجر إليه كل الآلهة !”.

تختلف نظرة المؤلفين جذريا حين يتكلمان عن طريقة الانعتاق من ربقة الاستبداد، فلا ينفك دو لا بويسي من ذكر الحروب وقادتها وكيف فازوا وكيف انقلب على الطاغية أصحابه فقتل شر قتلة، فتصطبغ تصوراته دائما بتلك الصبغة “الدموية”، وعلى النقيض من ذلك تبرز فكرة ومنهج الكواكبي في كتابه حين يتحدث عن آليات الإصلاح فهو لا يؤمن البتة بذلك التغيير “المسلح” بل يرى إلزامية بناء نظام أخلاقي في أوساط المجتمعات كفيل بأن يغير الأحوال نحو المأمول، وأحيانا يرى أن “الإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي” حيث أن الحكومة في المجتمع الإسلامي -حسبه- هي “حكومة أرستقراطية المبنى، ديموقراطية الإدارة”. ويتفق المؤلفان على أن الحرية هي أغلى ما تكسبه الشعوب وتجهد في صونه، فدو لا بويسي يقول “أن العقل طبيعي فينا.. إننا أحرار بطبيعتنا ما دمنا متساوين جميعا في الخلقة والطبيعة” والكواكبي يرى أن تلك المساواة أساسية فـ “الإنسان خلق حرا قائده العقل” و”الله يرفع الناس بعضهم على بعض درجات في القلوب لا في الحقوق”.

     

كان عبد الرحمن الكواكبي في كتابه أكثر تدقيقا وتفصيلا وترتيبا، فلا غرو أن يكون حصيلة بحثه في الموضوع طيلة تلك السنين. وفي خاتمة كتابه سرد الكواكبي خمسة وعشرين مبحثا يتعلق بالحياة السياسية ليتمعن فيها المطالعون وينقب فيها النجباء المجتهدون، وكان آخرها حول “السعي في رفع الاستبداد” أضاف إليه بعد ذلك ثلاث نقاط أساسية يجدر بالجميع التوقف عندها طويلا:
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.

وبالمقابل لم يقدم دو لا بويسي خلاصات واضحة بقدر ما كان كلامه مسترسلا يحمل في أكثره المسؤولية على الشعب، “فأول علل العبودية الطوعية لديه هي العادة” (التعود على السم!) ثم يترجل على طريق الإذلال بخطى ثابتة فيصيرون “ذليلي القلوب عاجزين عن إنجاز المآثر” وبالنتيجة “ما كان لأشدهم يقظة أن يتخلى عن قصعة حسائه ليسعى وراء استرجاع جمهورية أفلاطون”، إلا أنه ينبه إلى أنه “لا ينبغي الإفراط في استخدام اسم الحرية المقدس لتنفيذ مشروع سيء!”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى