مفتي دمشق محمود الحمزاوي.. رجلُ إطفاء الحرائق الطّائفيّة والفتن الهوجاء
في الرّبع الأخير من القرن التّاسع عشر كانت ولاية دمشق التي يلقّبها العثمانيّون “شام شريف” و”باب الكعبة” و”بستان الجنّة” تعيشُ أوضاعًا اجتماعيّة بالغة التّعقيد بسبب التركيبة الدّينيّة في إطارِ حدودها، وفي الولايات المجاورة لها لا سيما في لبنان الذي يعاني داءً طائفيًّا ودينيًّا مزمنًا.
-
الحمزاوي في استقبال الأمير عبد القادر الجزائري
في زقاق النّقيب خلف الجامع الأمويّ في حيّ العمارة كان يشبّ الفتى بشكلٍ لافتٍ، ينهل العلم، ويؤثّر فيمن حوله، وله قدراتٌ عاليةٌ في عدة مواهب كالإلقاء والرّسم والخطّ والرّماية.
هو محمود نسيب حمزة الذي اشتهر بالحمزاوي، وقد ولد في أسرة عريقة في العلم الشرعيّ سنة 1821م، وعندما بلغ منتصف العشرينيات من عمره تولّى التّدريس في حيّ القيمريّة ثمّ أصبح قاضيًا في حيّ البزوريّة، وقبل أن يتمّ التّاسعة والعشرين من عمره أصبح مديرًا لأوقاف ولاية دمشق.
في عام 1855م تواردت الأنباء إلى دمشق بانتقال الأمير عبد القادر الجزائريّ رمز المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي في الجزائر والذي كان مسجونًا في باريس من عام 1847م ثمّ نفي إلى إسطنبول بعد بضع سنوات من السجن وتحديدًا عام 1852م لينتقل بعدها إلى دمشق عام 1855م.
وبصفته مديرًا لأوقاف ولاية دمشق إضافة لما يحمله من شوق للقاء هذه الشخصيّة التي بلغت شهرتها الآفاق؛ كان الشّيخ محمود الحمزاوي في استقبال الأمير عبد القادر الجزائري، واحتفى به احتفاءً بالغًا، فهو لم يكن ينظر للأمير عبد القادر على أنّه ثائرٌ وقائد مقاومةٍ فحسب بل هو أيضًا أحد شيوخ العلم الشرعيّ ورموز التصوّف فضلًا عن نبوغه في الأدب والشّعر.
حرص الأمير عبد القادر لما رآه من حفاوةٍ بالغةٍ أن تكون داره التي يقيم فيها قريبة من الشّيخ محمود الحمزاوي فاشترى منه قصرًا واسعًا في زقاق النّقيب حيث يقيم الشيخ الحمزاوي، وقد سمي هذا الزقاق بزقاق النقيب نسبةً لآل الحمزاوي أصلًا إذ كان منهم نقيب الأشراف.
وهكذا توطّدت الآصرة بين الأمير عبد القادر والشّيخ محمود الحمزاوي، وكان مجلسهما مشتركًا، وقد نتج عن هذه العلاقة المتينة مشاريع وتحركات مشتركة كان لها بالغ الأثر في الواقع المجتمعي آنذاك.
-
فتنة زحلة والحمزاوي المبادِر
حدثت فتنةٌ عظيمةٌ بين الدّروز والمسيحيّين في جبل لبنان في حزيران من عام 1860م، ممّا دفع آلاف المسيحيين إلى الفرار إلى مدينة زحلة اللّبنانيّة، فتبعهم آلاف الدّروز وفتكوا بهم وأحرقوا زحلة.
قبل أن تقع المذبحة بيومٍ وصل الشّيخ محمود الحمزاوي إلى زحلة على عجلٍ ومعه الأمير عبد القادر الجزائري، حاولا جهدهما أن يوقفا الفتنة أو على الأقل أن يخفّفا من وطأتها، وكان موقفهما فريدًا وكبيرًا ومعبّرًا عن رفضٍ مبدئيّ لأيّة فتنةٍ تنتجُ عن أسباب دينيّة وطائفيّة.
غيرَ أنّ شعورهما أنّ الجموع الكبيرة الهائجة من الدّروز الذين يتوجّهون بسرعةٍ إلى زحلة دفَعَهما إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال نقل آلاف المسيحيين إلى دمشق حيث نزلوا في زقاق النّقيب في قصر الأمير عبد القادر ودُور آل الحمزاوي وفي مقدّمتهم الشّيخ محمود الحمزاوي.
أن يقومَ اثنان من رموز العلماء المسلمين بإنقاذ آلاف المسيحيّين من فتنةٍ شرسةٍ وتكون بيوتهم موطن لجوء هؤلاء المسيحيّين، ويشرفان على رعاية هؤلاء اللّاجئين من الظّلم والفارّين من القتل أمرٌ يدلّ على المنهجيّة العامّة التي كان ينتهجها الشّيخ محمود الحمزاوي الذي كان يشغل منصب مدير أوقاف ولاية دمشق آنذاك إضافة إلى كونه أحد أهم رموز العلماء في المجتمع الدمشقيّ على الخصوص والسّوريّ بل الإسلاميّ على وجه العموم إذ بدأت سمعته تنتشر في أنحاء مختلفة من السّلطنة العثمانيّة.
كانت الكارثة بعد دخول الدّروز زحلة وإحراقها وقتل الآلاف من المسيحيّين فيها، وتراوحت أعداد القتلى على حسب المصادر المتعدّدة ما بين سبعة آلاف وأحد عشر ألف قتيل، بينما أوصلتها بعض المصادر إلى عشرين ألف قتيل، وكانت هذه الحادثة نقطة مفصليّة في تاريخ لبنان وإيذانًا بالتّدخّل الدّولي إذ أعلن الامبراطور الفرنسي نابليون الثّالث أنّ فرنسا هي حامية المسيحيين في لبنان معيدًا التّذكير باتفاقيّة موقّعة بين الامبراطوريّة الفرنسيّة والدّولة العثمانيّة عام 1535م في هذا الشّأن تحديدًا.
وفعلًا اجتمعت لجنة دوليّة وقرّرت إرسال قوّات حماية دوليّة إلى لبنان وأرسلت فرنسا قوّات مشاة قوامها ستّة آلاف جندي، فيما وُصِف بإحدى أوّائل قوّات حفظ السّلام الدّوليّة في التّاريخ.
عند عودة الشّيخ الحمزاوي تفاجأ أنّ بعض الدمشقيين قد زيّنوا بعض الحارات وأضاؤوا المصابيح بما أطلقوا عليه “فتح زحلة” فما كان من الشّيخ محمود الحمزاوي إلّا أن نزل بنفسه ليكسر المصابيح ويخرّب هذه الزّينات ويوبّخ من قام بذلك مبيّنًا لهم أنّ ما جرى جريمةٌ لا يقبل مسلمٌ أبدًا فضلًا عن أن يفرح بها.
-
فتنة باب توما
في شهر تموز من عام 1860م وصل قرابة خمسة آلاف من اللّاجئين المسيحيّين الهاربين من أحداث لبنان والتي بلغت أوجها في إحراق زحلة إلى دمشق وافترشوا الطّرقات وكان كثيرٌ منهم قد وصلوا إلى حيّ باب توما الذي يقطنه المسيحيّون الدّمشقيّون.
تفاجأ النّاس بوصول مجموعات من الشّباب الدّمشقيين الهائجين يوم التّاسع من تمّوز إذ قاموا باستفزاز أهالي حيّ باب توما المسيحيّين وأطلقوا الشّتائم البذيئة ورسموا الصّليب على الأرض بالدّهان وبالحجارة وبدؤوا يدوسونها بأقدامهم في مشهدٍ استفزازيّ؛ فما كان من أهالي باب توما إلّا رفع شكوى واستغاثة عاجلة إلى السّلطات العثمانيّة فأصدرَ الوالي أمرًا إلى قائد الشرطة باعتقال الشّباب المعتدين وأمرهم بكنس الطرقات ثمّ اقتادوهم مكبّلين بالسّلاسل إلى سجن القلعة، وتواردت الأخبار إلى عددٍ من أحياء دمشق أن الشرطة اعتقلت مجموعة من الأولاد بتحريض من المسيحيّين، فهبّ النّاس مسرعين وهاجموا الدّوريّة وكسروا السلاسل وأخرجوا المعتقلين.
وكالنّار في الهشيم انتشر الخبر في أحياء دمشق مع لغةٍ تحريضيّة فتوارد الآلاف من المسلمين الدمشقيّين الغاضبين إلى حيّ باب توما؛ فهاجموا الحيّ وأحرقوا جميع الكنائس فيها كما قتلوا ثمانيةً من الرّهبان وهاجموا المنازل وقتلوا وأحرقوا الحيّ وكانت حصيلة تلك اللّيلة المأساويّة مقتل خمسة آلاف من أهالي حيّ باب توما واللّاجئين المسيحيين إليه من لبنان.
خلال هذه المذبحة المأساويّة كان الشّيخ محمود الحمزاوي والأمير عبد القادر الجزائري ومعهم ثلّة من أعيان دمشق ووجهائها وتجّارها ومشايخها أمثال عبد الله العمادي وسعيد آغا من الوجهاء، وعثمان جبري من التجّار، ومن العلماء الشيخ سليم العطّار؛ يحاولون إنقاذ من يمكن إنقاذه من المسيحيين بعد فشلهم في صدّ وكبح جماح الهائجين، ونقلوا الآلاف منهم إلى زقاق النقيب مجدّدًا الذي اكتظّ باللّاجئين المسيحيين من لبنان والفارّين من حيّ باب توما.
في منتصف شهر آب “أغسطس” من عام 1860م وصل وزير الخارجيّة العثماني فؤاد باشا إلى دمشق وفور وصوله أمر باعتقال ألفٍ من الأشخاص من المشاركين في المذبحة أو المحرّضين عليها.
تفاجأ الجميع يوم التّاسع عشر من آب “أغسطس” باعتقال الشّيخ محمود الحمزاوي غير أنّ اعتقاله لم يدم إلّا خمسة أيّام وأطلق سراحه بعد أن اطلع الوزير العثمانيّ على ما قام به لوأد الفتنة وتخفيف آثارها.
أصدر الوزير العثماني أحكامًا قاسية على المعتقلين فأعدم غالبيّتهم وكان في مقدّمة من تمّ إعدامهم والي دمشق أحمد عزّت باشا.
حدث تململ في أوساط الدّمشقييّن من هذه الإعدامات الواسعة فما كان من الشّيخ محمود الحمزاوي إلّا أن توجّه إلى الجامع الأموي يوم 31 من آب “أغسطس” وألقى خطبةً الجمعة حول ما جرى وكان ممّا قاله فيها: “ذلك الفعل القبيح، قتلُ أهل الكتاب، هدمُ ركن من أركان الدّين ومُستَحِلّه خارجٌ بالكليّة عن جمهور الموحدين، وكلّ من أنكر العقوبة والقصاص على الفاعلين حكمه حكم أولئك الغادرين الباغين”.
وكان الشّيخ الحمزاوي عضوًا رئيسًا في لجنة إعادة المسروقات من حيّ باب توما، وكانت تحرّكاته وخطاباته سببًا رئيسًا في إزالة آثار هذه الفتنة الكبيرة التي امتدّت من لبنان ليصل لهيبها إلى قلب دمشق.
كلّ هذا كان قبلَ أن يتولّى الشّيخ محمود الحمزاوي منصب الإفتاء في دمشق؛ فما الجوانب العلميّة والاجتماعيّة الأخرى التي كانت في دائرة تأثير المفتي الحمزاوي؟ هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.
المصدر: سوريا TV