مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى ( 5)

معاناة أم موسى عليه السلام

معاناة المرأة في زمن موسى ( 5)
معاناة أم موسى عليه السلام

بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد( خاص بالمنتدى)

أمُّ موسى من جملة النِّساء اللاتي تعرضن للمعاناة الشديدة من قبل فرعون وجنوده. وقد ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى معاناة أمِّ موسى في القرآن في أكثر من سورة، فقال سبحانه:
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى) [طه: 37-40]

وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص: 7-13]

وإنَّما ذكر الله لنا معاناة أمِّ موسى في القرآن لنأخذ منها العبرة والعظة في الثَّبات على الحقِّ أمام فراعنة الزمان، فاصبري أخيتي واثبتي على الحقِّ مهما كانت المعاناة التي تمرين بها بسبب كراهية عدوِّك لهذا الدِّين.
وقد مرَّت معاناة أمِّ موسى بعدة مراحل مختلفة:

المرحلة الأولى: مدَّة الحمل، وهو القلق الذي استمرَّ معها طوال مدَّة الحمل وهي ترى وتسمع ما يفعله زبانية فرعون من التَّلصُّص على النِّساء والتَّجسُّس عليهنَّ لمعرفة الحوامل منهنَّ فيرصدنها حتى الولادة ثُمَّ يقتلن طفلها إن كان ذكرًا.
فحاولت إخفاء حملها حتَّى لا يعرف به أحد، وهذه معاناة عظيمة استمرَّت تسعة أشهر.

قال ابن كَثِير رَحِمَهُ الله: ((ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْنِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَلُونَ هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ أَنْ يَمُوتَ شُيُوخُهُمْ وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ عَلَيهِ السَّلام فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فيها الولدان، وولد موسى فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَكَانَ لفرعون ناس مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّساء، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ أَحْصَوُا اسْمَهَا، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُهَا إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فإن وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى)). (تفسير ابن كثير 6/199)

المرحلة الثَّانية من المعاناة كانت بعد الولادة بموسى عليه السلام؛ خوف وقلق واضطراب، حالة نفسيَّة متعبة مع آلام النِّفاس، والحالة النَّفسيَّة النَّاتجة من النِّفاس، والسَّبب هو التَّفتيش المستمر من زبانية الطَّاغية فرعون، واقتحامهم للبيوت وتفتيشها والبحث عن الأطفال الذُّكور وقتلهم أمام أعين أمَّهاتهم.
ولابدَّ وأن أمَّ موسى قد سمعت بقصص الأطفال الذين قُتلوا على يد زبانية فرعون، وكيف قُتلوا، وكيف كان وقع القتل على أمَّهاتهم. ومثل هذه الأخبار كانت منتشرةً في ذلك الزَّمان بسبب كثرة القتل الذي أوقعه فرعون على أطفال بني إسرائيل.

فتخيُّلُ مِثْلِ هذه الحوادث في فؤاد أمِّ موسى وفكرها وعقلها واردٌا جدًا، وتخيُّل أن يقع هذا لطفلها مؤلمٌ لها، ويزيد في معاناتها.
وإذا كانت الأمَّهات يفرحن بولادة الذَّكر وخاصةً إذا كان بكرها، لأنَّهنَّ يستشعرن السند القادم لهنَّ بعد وفاة أبيه أو ضعفه، فإنَّ أمَّ موسى على خلاف ذلك، فقد لازمها الخوف والاضطراب، والحيرة في كيفيَّة التَّصرف بهذا المولود وإخفائه عن أعين زبانية فرعون.

قال ابن كثير رحمه الله: ((فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ عَلَيهِ السَّلام لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا، وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلام لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَحَبَّهُ طَبْعًا وَشَرْعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طَهَ: 39])). (تفسير ابن كثير 6/199)

ومع هذه المعاناة التي تمر بها أمِّ موسى، يأتي الفرج من الله عز وجل، بوحي يوحيه الله لها ويقذفه في نفسها، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
[القصص: 7].
قال الطَّاهر بِن عَاشُور رَحِمَهُ الله: ((وَالْوَحْيُ، هُنَا: وَحْيُ الْإِلْهَامِ الصَّادِقِ. وَهُوَ إِيقَاعُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ يَنْثَلِجُ لَهُ نَفْسُ الْمُلْقَى إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِنَجَاحِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الَّتِي يُقْذَفُ فِي نَفْسِ الرَّائِي أَنَّهَا صِدْقٌ)). (التحرير والتنوير 16/ 216)

وقال ابن تيمية رَحِمَهُ الله: ((قال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وَقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ). بَلْ قَدْ قال تعالى: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) وَقال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ) فَهَذَا الْوَحْيُ يَكُونُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَكُونُ يَقَظَةً، وَمَنَامًا. وَقَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ هَاتِفٍ، يَكُونُ الصَّوْتُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ يَقِظَةً وَمَنَامًا، كَمَا قَدْ يَكُونُ النُّورُ الَّذِي يَرَاهُ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ. فَهَذِهِ ” الدَّرَجَةُ ” مِنْ الْوَحْيِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ مَلَكٍ فِي أَدْنَى الْمَرَاتِبِ وَآخِرِهَا)). (مجموع الفتاوى 12/ 398)

فهذه كانت بداية الفرج لهذه المعاناة التي كانت تمرُّ بها أمُّ موسى، ولكنَّها لم تكن نهاية المعاناة.
وقد دلت قصة معاناة المرأة في زمن موسى، أن المعاناة التي يمرُّ بها الإنسان قد تظهر علامات زوالها أو تخفُّ، ولكنَّها تعود مرَّةً أخرى لحكمة يعلمها الباري سبحانه وتعالى.

فما المعاناة الثَّالثة التي عانتها أمُّ موسى؟
وكيف تصرَّفت مع هذا الإلهام الذي ألهمها الله به؟
5 رمضان 1446هـ

إقرأ أيضا:جديد الكتب من الفقه والأصول (22) | الشيخ: محمد خير رمضان يوسف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى