معالم في طريق النصر والتمكين (2): دروس في البناء والتمكين من قصة ذي القرنين
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ذكر الله تعالى قصة ذي القرنين -الملك العادل والرجل الصالح- في سورة الكهف في ست عشرة آية، وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس وقد أشار الله في هذه القصة إلى الركائز والأركان التي بها يجب أن يحكم كل ذي ولاية وسلطة حتى تقوم قائمة الشعوب، ويسود العدل، الذي يحققه الحكم بما جاء في شريعة الله تعالى. وهذه القصة مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد التي تكون بمثابة دروس ومعالم في طريق الحضارة.
آيات قصة ذي القرنين:
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} [الكهف: 98] } [الكهف: 83 – 98].
من هذه الدروس:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض، ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة، فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل، وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر، فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره، ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق، وأنه متى ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرًا في الخمول، والرضاء بالدون، بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال، بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب، قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة، لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمال في الأعمال، والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر، لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله، واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار، حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة، كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين، فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي.
____________________________________________________________
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: ” فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- محاسن التأويل، محمد جمال القاسمي، دار الفكر، بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى، 2006م.