مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 5 من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
2.تأريخ نشأة الكنيسة القبطيَّة وتناوُل منصف للفتح الإسلامي
في عام 2005م، نشر المجلس القومي للتَّرجمة في مصر نسخة عربيَّة من كتاب The History of Eastern Christianity (1968م)، تحت عنوان تاريخ المسيحيَّة الشَّرقيَّة، لعزيز سوريال عطيَّة، أستاذ التَّاريخ بجامعة الإسكندريَّة المصريَّة، والمحاضر في عدد من الجامعات في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، إلى حيث هاجر إلى أن لقي ربَّه. يبدأ عطيَّة حديثه بالإشارة إلى أنَّ الكنيسة القبطيَّة لم تجد اهتمامًا أكاديميًّا وافيًا، معزيًا ذلك إلى تفضيل الأقباط الابتعاد عن دائرة الضَّوء ليحافظوا على عقيدتهم من التَّأثيرات الَّتي مثَّلتها العقائد المستحدثة في المسيحيَّة، وبخاصَّة بعد مجمع خلقيدونية عام 451م وما أثاره حول طبيعة المسيح مقارنةً بطبيعتي الآب والرُّوح القُدُس. فقدت المسيحيَّة الشَّرقيَّة بصفة عامَّة مكانتها في العالم المحيط منذ الفتح العربي لمصر عام 641م، ولكن ظلَّ الأقباط يمثّلون أهميَّة نسبيَّة، وإن كان تأثيرهم السّياسي محدودًا في ظلّ الوجود الإسلامي. يتعقَّب المؤرّخ المسيحي تاريخ المسيحيَّة الشَّرقيَّة في محاولة لتقديم تأريخ منصف لها، في ظل نُدرة الدّراسات المعنيَّة بذلك، على حدّ قوله.
نشأة المسيحيَّة الشَّرقيَّة
تأسَّست الكنيسة القبطيَّة في مصر على يد القدّيس مرقس، صاحب أقدم الأناجيل المعترَف بها، ويُقال أنَّ أناجيل متَّى ولوقا ويوحنَّا اعتمدت عليه في محتواها. وُلد مرقس في القُدس، أو أورشليم، بعد فترة قصيرة من ميلاد يسوع النَّاصري، كما يشير المؤرّخ، وإن كان والدا مؤسّس الكنيسة القبطيَّة اليهوديَّان ينحدران من ليبيا، لكنَّهما هاجراٍ منها إلى الأرض المقدَّسة هربًا من مطاردات قبائل البربر. تعلَّم مرقس اللاتينيَّة واليونانيَّة، إلى جانب العبريَّة المفترَض أنَّها كانت اللغة السَّائدة بين بني إسرائيل في مملكة يهودا حينها، وتبع المسيح بتأثير من القدّيس برنابا، أحد حواريي المسيح وأحد الرُّسُل السَّبعين، وهو خاله، وقيل ابن عمّه، ولحق به في رحلاته التَّبشيريَّة الأولى، لكنَّه انفصل عنه وتبع بولس الرَّسول. وكما يقول عطيَّة، اعتاد المسيحيون الأوائل على الاجتماع في بيت مرقس، وهناك حلَّت عليهم الرُّوح القُدُس، وعُيّنوا رُسُلًا للمسيح. كان يسوع النَّاصري قد أمَر تلاميذه أن ينتظروا عودته لتعميدهم بالرُّوح، وليس بالماء كما عمَّده يوحنَّا المعمدان: “وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا «مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي. لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَ” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 1، آيتان 4-5). أمَّا عن الرُّسُّل الَّذين تلقُّوا ذلك الأمر، فهم “بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ وَتُومَا وَبَرْثُولَمَاوُسُ وَمَتَّى وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَسِمْعَانُ الْغَيُورُ وَيَهُوذَا أَخُو يَعْقُوبَ” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 1، آية 13)، ويُقال إنَّ يوحنَّا هو الاسم اليهودي لمرقس، كما قيل إنَّه لم يقابل المسيح في حياته، والحقيقة في علم الله وحده!
انضمَّ رجل يُدعى متياس إلى الأحد عشر رسولًا ليصيروا اثني عشر، ليس من بينهم مرقس، كما توضح الآيات آنفة الذّكر في سفر أعمال الرُّسُل، ثمَّ ظهر المسيح للتَّلاميذ الاثني عشر: “وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِين. وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 2، آيات 1-4). مع ذلك، يصرُّ المؤرّخ على أنَّ مرقس كان “من أكثر التَّلاميذ قربًا لحياة المسيح، ومن ثمَّ فإنَّه كان في موقع يساعده على كتابة إنجيله الهام” (صـ34). ويشير عطيَّة، من باب الإنصاف على حدّ قوله، إلى أنَّ مرقس كان يستقي محتوى إنجيله من روايات أخذها عن بطرس، وهو أحد التَّلاميذ الاثني عشر الَّذين عُمّدوا بالرُّوح القُدُس، إلى جانب ما شاهده بنفسه، مذكّرًا بأنَّ “كلَّ تلاميذ المسيح كانوا يتناقلون أخبارًا شفاهيَّة عن أقوال وأعمال المسيح” (صـ34). والسُّؤال الملحّ في هذا السّياق، كيف يكون مرقس قد عاصر أحداثًا تناولها في إنجيله وهو لم يكن من التَّلاميذ الاثني عشر المعمَّدين بالرُّوح، ويُقال أنَّه لم يقابل المسيح من الأصل، كما لم تُذكر رؤيته للمسيح في سفر أعمال الرُّسُل؟
ويستشهد المؤرّخ برأي القدّيس يوحنَّا ذهبي الفم (347-407م) في أنَّ إنجيل مرقس كُتب في مصر باليونانيَّة، وهناك من يدَّعي أنَّه كُتب باليونانيَّة واللاتينيَّة. ويسود اعتقاد بأنَّ تدوين مرقس لإنجيله كان بعد مقتل بطرس وبولس في روما، خلال الحملة الَّتي قادها الإمبراطور الرُّوماني نيرون(54-68م) ضدَّ المهاجرين المسيحيين الَّذين كان مرقس من بينهم لكنَّهم نجا من القتل. ويوضح عطيَّة أنَّ سبب سفر مرقس إلى روما، بعد رحلته التَّبشيريَّة إلى أنطاكية مع برنابا وبولس، ثمَّ إلى قبرص مع برنابا، كان البقاء إلى جانب بطرس، الَّذي كان يلقّبه بالابن الحبيب. ويبدو أنَّ مرقس لجأ إلى عبور البحر المتوسّط، بعد حملة الملاحقة القاسية الَّتي شنَّها نيرون على المسيحيين الأوائل في ستّينات القرن الأوَّل الميلادي، متَّجها إلى قورينائية في ليبيا، مسقط رأس والديه، والَّتي كان أهلها من الإغريق واليهود، حيث بشَّر بإنجيله. ومن ليبيا، اتَّجه مؤسّس الكنيسة القبطيَّة شرقًا إلى مصر، حيث استقرَّ به المقام في الإسكندريَّة. غير أنَّ كتاب تاريخ بطاركة الكنيسة المصريَّة، للأنبا ساويرس ابن المقفع أسقف الأشمونيين، الَّذي عاش أواخر القرن العاشر للميلاد، يزعم أن مرقس جاء إلى مصر بأمر من الوحي الإلهي عام 48م، دون إشارة إلى أنَّ خطَّ سير مرقس كان روما، ومنها إلى ليبيا، ومنها إلى مصر. ومع ذلك، فهناك احتمال بأن يكون مرقس قد قصَد روما بعد زيارته إلى مصر من بوَّابتها الشَّرقيَّة، ثمَّ نصَّب على الإسكندريَّة أوَّل أسقف، وهو الإسكافي إنيانوس، أو حنانيا، لينطلق إلى روما، الَّتي تركها بعد مقتل بطرس وبولس عام 64م تقريبًا.
بداية العمل التَّبشيري في مصر وردّ فعل العامَّة تجاهه
يسوق المؤرّخ المسيحي الرَّاحل رواية عن بداية انخراط القدّيس مرقس في العمل التَّبشيري، وهي أنَّه ذهب إلى إسكافيًّا يُدعى إنيانوس ليصلح له حذاءه، ولمَّا دخل المخرز في يد الإسكافي قال “إيس ثيؤوس”، الَّتي تعني باليونانيَّة “واحد هو الإله”؛ حينها، تهلَّل مرقس فرحًا وقال “يا سيدي يسوع أنت تسهّل طريقي في كلّ مكان “، ثمَّ أخذ طينًا من الأرض وتفل عليه ووضعه مكان جرح إنيانوس، فشُفي الجرح في الحال. أصبح إنيانوس بذلك أوَّل معتنقي المسيحيَّة في مصر، هو وأسرته، حيث توجَّه مرقس إلى داره وعمَّده هو وأهله جميعًا، ثم صار إنيانوس بعد ذلك ثاني بطريرك للكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة، خلال فترة يقدّرها مؤرّخو الكنيسة بأنَّها كانت ما بين عاميّ 62 و86م. من بين إنيانوس، انطلقت دعوة القدّيس مرقس إلى المسيحيَّة، ممَّا يعني محاربة الوثنيَّة وتحطيم الأصنام، في تحدٍّ صارخ لدين الدَّولة الرُّومانيَّة الَّتي كانت تستعمر مصر حينها. لمَّا عاد القدّيس مرقس إلى الإسكندريَّة بعد رحلته التَّبشيريَّة في روما ومنها إلى ليبيا، حيث نصَّب عددًا من الأساقفة والكهنة، وجَد عدد أتباع المسيح قد تنامى، وأنَّهم أقاموا أوَّل كنيسة في مصر بالقرب من شاطئ البحر، وهي كنيسة بوكاليا، أو بوكاليس، وقد بُنيت الكاتدرائيَّة المرقسيَّة بالإسكندريَّة محلُّها وأعيد بناؤها عدَّة مرَّات.
غير أنَّ تأسيس الكنيسة الأولى كان بمثابة إعلان حرب على الوثنيَّة الَّتي كان الرُّومان يدينون بها ويشجّعون على استمرارها في البلاد؛ وواجه القدّيس مرقس بذلك ضغطًا كبيرًا عجَّل بنهايته. فقد تعرَّض المسيحيون المصريون الأوائل عام 68م للهجوم في كنيستهم الأولى أثناء احتفالهم بعيد القيامة، الَّذي تزامَن مع عيد سيرابيس الوثني. اقتيد القدّيس مرقس موثقًا بالحبال، وجُرَّ في شوارع المدينة يومين متتابعين، حتَّى مات. دُفن مؤسّس الكنيسة القبطيَّة تحت مذبح الكنيسة المصريَّة الأولى، ويُقال أنَّ رُفاته سُرقت بعد أن عُبث بقبره في عصور لاحقه. غير أنَّ الحكومة المصريَّة في عهد الرَّئيس الأسبق، جمال عبد النَّاصر، نجحت في استعادة رفات القدّيس مرقس، وقد أقيم احتفالًا بذلك في 26 يونيو 1968م، في اليوم التَّالي لافتتاح المقر الجديد لبابا الكنيسة القبطيَّة بالعبَّاسيَّة، بحضور إمبراطور إثيوبيا، وقد أقيمت مراسم لدفن القدّيس مرقس في داخل الكاتدرائيَّة المرقسيَّة بالإسكندريَّة، الَّتي بُنيت في موقع كنيسة بوكاليا، أقامها الأنبا كيرلُّس السَّادس، البابا الـ 116 للكنيسة.
يدَّعي عطيَّة أنَّ مقتل القدّيس مرقس بتلك الطَّريقة الوحشيَّة كان بتواطؤ من السُّلطات الحاكمة الرُّومانيَّة، الَّتي تغاضت عن المطاردات والملاحقات الشَّعبيَّة للمسيحيين الأوائل، خاصَّةً وأنَّ أهل الإسكندريَّة كانوا يعتبرون مرقس “مجرَّد يهودي مقيت”، ورأوا في أتباعه مجرَّد ثلَّة من الخائنين لمجتمعهم بالانقلاب على العقيدة الدّينيَّة السَّائدة فيه (صـ37). ويفصّل المؤرّخ موقف سكَّان الإسكندريَّة من دعوة القدّيس مرقس واستجابة البعض لها كما يلي (صـ37-38):
كانت النَّظرة العامَّة للمسيحي في ذلك الوقت هي النَّظرة إلى شخص متمرّد ومتآمر ضدَّ التَّقاليد المتوارَثة الَّتي تقضي باحترام الآلهة الوثنيَّة وشخص الإمبراطور المهيب والمؤلَّه. والمسيحي من هذا المنطلَق في نظَر الغالبيَّة العظمى في الإسكندريَّة أشبه ما يكون بالطُّفيلي الَّذي ينبغي قصْفه في المهد كما تُقصف النَّبتة الخبيثة في مهدها قبل أو تورق وتترعرع. وكان القوم ينظرون إلى ما حلَّ بالبلاد في تلك الآونة من مجاعات وأوبئة ونقصان في فيضان النّيل، على أنَّه نتيجة للشُّؤم الَّذي جلبته المسيحيَّة على البلاد عند دخولها: فلقد أساء المسيحيون إلى الآلهة الوثنيَّة العظمى، وفرَّقوا بين أبناء البيت الواحد، فانهارت العائلة، كما أفسدوا الفضائل الرُّومانيَّة القديمة والعقل اليوناني الأصيل.
ويدخل ما يثيره عطيَّة حول إثارة رسالة المسيح فتنةً بين النَّاس، في إطار ما حذَّر منه المسيح نفسه، بشأن تعنُّت النَّاس في تقبُّل رسالته، وإثارتها للنّزاعات داخل البيت الواحد، لمَّا قال “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا” (إنجيل متَّى: إصحاح 10، آيتان 34-35)؛ وقال كذلك “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا” (إنجيل لوقا: إصحاح 14، آيتان 26-27). ومن اللافت أنَّ يسوع يتنبَّأ بأنَّه سيُصلب، وأنَّ الصَّليب سيصبح رمزًا لعقيدته، كونه إشارة إلى فدائه البشريَّة بدمه، في قوله “وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي”؛ ولا عجب في ذلك، على اعتبار أنَّ المسيح يمتلك قدرات إلهيَّة، كونه تجسيد للرَّبّ، ومن تلك القدرات قراءة المستقبل. على كلّ حال، فقد أساء سكَّان الإسكندريَّة قديمًا فهْم دعوة المسيح الَّتي نشرها مرقس الرَّسول، وأرادوا التَّخلُّص من معتنقي تلك العقيدة، الَّتي رأوها مستعصية على الاعتناق، وانعكس ذلك على ردّ فعْل الأباطرة الرُّومان تجاه المسيحيين. يعني ذلك أنَّ الإمبراطور نيرون لم يضع في القرن الأوَّل الميلادي نهجًا اتَّبعه لاحقوه؛ إنَّما نزل أباطرة الرَّومان على الرَّغبة الشَّعبيَّة في التَّخلُّص من المسيحيين، ويشمل ذلك الإمبراطور أوريليوس (161-180م) برغم دراسته للفلسفة الَّتي أقنعته بعقيدة المسيحيَّة.
المصدر: رسالة بوست