مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 1من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سورة البقرة: 210-211].
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾[سورة الزُّخرف: 51-65].
“وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: هُوَ ذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ” (سفر اشعياء: إصحاح 19، آية 1).
“سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ. الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ. وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ الإِثْمِ، فِي الْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا. وَلأَجْلِ هذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ اللهُ عَمَلَ الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ. لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا الْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِالإِثْمِ” (رسالة تسالونيكي 2: إصحاح 2، آيات 8-12).
مقدّمة
أرسل الله تعالى نبيَّه مُحمَّدًا (ﷺ) ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [سورة الصَّف: 9]، وبدأ (ﷺ) في الدَّعوة إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، مرسلًا صحابته الكرام إلى مختلف الأمصار لإخراج أهلها من عبادة العباد لعبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدُّنيا لسعة الدُّنيا والآخرة، ومن جور الأديان لعدل الإسلام. وكانت مصر من بين البلدان الَّتي اختصَّها نبيُّنا الكريم (ﷺ) بالدَّعوة إلى الإسلام، وقتئذ كانت تتسلَّط عليها الدُّولة الرُّومانيَّة وتذيق أهلها أشدَّ العذاب؛ ليس فقط للاستئثار بمواردها، ولكن لتحويل المصريين إلى الملَّة الملكانيَّة، وهي ملَّة مسيحيَّة اتَّبعها الرُّوم الكاثوليك تختلف عن المَّلة الأرثوذكسيَّة، الَّتي نشَرها مرقس الرَّسول، أو القدّيس مار مرقس، مؤسَّس المسيحيَّة الشَّرقيَّة، في مصر في ستّينات القرن الأوَّل الميلادي. وكان الصّراع الطَّائفي بين الكنيسة القبطيَّة في مصر، الأعرق والأسبق في الوجود، وكنيستي القسطنطينيَّة وروما منذ عام 451 ميلاديًّا، في أعقاب عقْد مجمع خلقيدونية المسكوني؛ بسبب الخلاف العقائدي حول طبيعة المسيح. فينما تمسَّكت الكنيسة القبطيَّة بقانون “الإيمان النّيقي”، نسبة إلى مجمع نيقية لعام 325م الَّذي أقرَّ بأنَّ للابن، أي المسيح، صفات ألوهيَّة تعادل صفات الآب، انحرفت كنائس أخرى بأن أشاعت أنَّ للمسيح طبيعتين ومشيئتين. ومنذ منتصف القرن الخامس الميلادي وحتَّى مطلع القرن السَّابع، حاول أباطرة الدَّولة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة بشتَّى الطُّرق دفْع الأرثوذكس في مصر إلى تغيير مذهبهم، لكن دون جدوى، بأن أصرَّ كهنة الكنيسة القبطيَّة على أنَّ لاهوت المسيح اتَّحد مع ناسوته واختفت عنه الصّفة البشريَّة.
أرسل النَّبيُّ إلى قيرس، أو المقوقس، وهو الوالي الرُّوماني على مصر، رسالة دعاه فيها إلى الإسلام، لكنَّ المقوقس أحجم عن الاستجابة، مرسلًا بهديَّة إلى النَّبيّ (ﷺ) ليتفادى الصّدام مع الدَّولة الإسلاميَّة النَّاشئة. غير أنَّ النَّبيَّ أدرك حرْص المقوقس على الحفاظ على مُلكه، المستمد من مُلك الدَّولة الرُّومانيَّة؛ فقال (ﷺ) “ضَنَّ الخبيث بمُلْكِه، ولا بقاء لِمُلْكِه”، لتكون مصر المحطَّة الثَّالثة لجيش الفتح الإسلامي، بعد الشَّام وفارس، ليتم فتْح مصر عام 20 هجريًّا/641 ميلاديًّا. وبرغم ما دوَّنه مؤرّخون مسيحيون معاصرون للفتح الإسلامي عن إنقاذ جيش الفتح مسيحيي مصر من بطْش الرُّومان، وعدم إجبار أيّ منهم على دخول الإسلام، ومنْحهم الأمان في ممارستهم طقوسهم الدّينيَّة، والتَّخفيف من الضَّرائب الَّتي كانت مفروضة عليهم، يدَّعي مؤرّخون ومفكّرون مسيحيون معاصرون، بعضهم من رجال الكنيسة القبطيَّة والبعض الآخر من أقباط المهجر، خلاف ذلك في محاولة لإثارة الغرب تجاه قضيَّة وضْع الأقليَّات الدّينيَّة في مصر. وكما يشير المفكّر الإسلامي الرَّاحل، د. محمَّد عمارة، لم تعرف مصر توتُّرًا طائفيًّا، أو ميلًا مسيحيًّا إلى الانفصال والاستقلال بالحُكم، إلَّا في العقود الأخيرة، محدّدًا مرحلة تولّي الأنبا شنودة الثَّالث، البابا الـ 117 للكنيسة القبطيَّة، منصب بطريرك الكرازة المرقسيَّة عام 1971م، بوصفها بداية التَّوتُّر والعنف الطَّائفي. بغضّ النَّظر عن الحالات الفرديَّة الَّتي تواطأ فيها مسيحيون مع الغرب ضدَّ نظام الحُكم الإسلامي في مصر، لم يجرؤ أحد من أقباط المهجر على الهجوم على الفتح الإسلامي واعتباره سببًا في تأخُّر مصر عن ركب الحضارة الغربيَّة إلَّا في هذه الفترة. استأثر مسيحيُّو مصر بلقب الأقباط، برغم أنَّ كلمة “قبط” من التُّراث المصري القديم ولا علاقة بالمسيحيَّة؛ وأكثر ما يدهش في هذا الصَّدد هو اعتبار هؤلاء مصر القبطيَّة امتدادًا للحضارة الفرعونيَّة القديمة، وادّعاء اشتراك المسيحيَّة مع الدّيانة الفرعونيَّة في الكثير من العقائد؛ وكأنَّما جاء الإسلام بالضَّلال ودين الباطل ليحرّف أهل مصر عن العقيدة الصَّحيحة!
ويذكّر الحديث عن مساعي أقباط المهجر إلى تأسيس دولة مسيحيَّة ذات حكم ذاتي على أرض مصر بما جاء في “وثيقة كيفونيم” الإسرائيليَّة، الَّتي تعود إلى عام 1982م، وكشف عن مخطَّط صهيوني يهدف إلى إغراق مصر في الدُّيون وإضعاف اقتصادها ونشْر الأفكار الدّينيَّة الهدَّامة للتَّشكيك في ثوابت الإسلام، تمهيدًا إلى تقسيم البلاد على أساس طائفي. ويبدو أنَّ لمخطَّط “وثيقة كيفونيم” جذور قديمة، تعود إلى مطلع القرن التَّاسع عشر الميلادي، عند زرْع عميل ماسوني ليكون حاكمًا لمصر، ينشر العلمانيَّة ويحارب دور الأزهر التَّاريخي ويفصل مصر عن محيطها الإسلامي ويسهّل سيطرة المرابين اليهود على اقتصادها. فقد رأى د. بهاء الأمير، أشهر المعنيين بتاريخ الحركات السّريَّة، أنَّ محمَّد عليّن مؤسّس مصر الحديثة كما يُلقَّب، جاء إلى مصر بتكليف من الماسونيَّة العالميَّة لتنفيذ ما فشلت فيه الحملة الفرنسيَّة على مصر والشَّام (1798-1801م)، وهو تحويل مصر إلى المسار الماسوني الممهّد لتأسيس دولة الدَّجَّال العالميَّة. ومن المثير للانتباه أنَّ العهد القديم في الكتاب المقدَّس يشير إلى أنَّ مصر ستكون المحطَّة الأولى للمسيح المخلّص عند ظهوره (سفر اشعياء: إصحاح 19، آية 1)، على أن يسبق الظُّهور محنة عظيمة يمرُّ بها أهل مصر، تتمثَّل في جفاف النّيل، ويفضي ذلك إلى حدوث حرب أهليَّة وأزمة اقتصاديَّة طاحنة؛ ولا تنقشع تلك الغمَّة إلَّا بعد عودة المصريين إلى الرَّبّ، أي المسيح، ومباركة الرَّبّ لهم. وقد كثر الحديث عن صحَّة تلك النُّبوءة في الآونة الأخيرة، بعد تفجُّر أزمة سدّ النَّهضة الإثيوبي، وتهديده مصر والسُّودان بالجفاف والتَّصحُّر، منذرًا بوقوع السّيناريو الَّذي يخبر عنه العهد القديم. وقد صوَّر فيلم ” I, Pet Goat 2″، أو “أنا، الماعز الأليف 2” انطلاق رحلة مخلِّص بني إسرائيل من مصر، في تأكيد على صحَّة تلك النُّبوءة.
وكما يخبرنا بيان الوحي الإلهي في سورة الزُّخرف [51-65]، تحدَّى فرعون الله تعالى قديمًا، ونشَر عقيدة دينيَّة تقوم على الشّرك بالله تعالى، وحارب دعوة نبيّ الله موسى وأخيه هارون (عليهما السَّلام)، متَّخذًا من نفسه إلهًا من دون الله، ومنكرًا البعث والحساب في الآخرة. ووصل الأمر بفرعون أن برَّر محاربته لدعوة موسى وهارون بأنَّها دعوة فاسدة تريد تحريف النَّاس عن العقيدة السَّليمة، مصداقًا لقوله تعالى ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [سورة غافر: 26-27]. وكان على فرعون أن ينشر الفسق والرَّذيلة بين قومه كي يُخضعهم لسلطانه ويعميهم عن طريق الصَّواب، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [سورة الزُّخرف: 54]. ولم تكن عاقبة نشْر الكفر والتَّضييق على أهل الحقّ إلَّا الإهلاك وزوال المُلك واللعن في الدُّنيا والآخرة، ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ﴾ [سورة الزُّخرف: 55-56]. وتتعقَّب هذه الدّراسة أهمَّ محطَّات التَّحوُّل الدّيني في مصر، منذ دخول المسيحيَّة، ومرورًا بفرضها دينًا رسميًّا بعد قرون من اضطهاد معتنقيها، ووصولًا إلى الفتح الإسلامي، وانتهاءً بمحاربة الإسلام بزعم نشْر العلمانيَّة والدّيموقراطيَّة، على يد صنائع الغرب من معتنقي أفكار الماسونيَّة ومروّجيها في كتاباتهم، في محاولة لاستشفاف مآل الأوضاع الحالية في البلاد، في ظلّ تهديد الأزمة الاقتصاديَّة ومساعي الغرب لتنفيذ مخطَّط التَّقسيم، الجاري تطبيقه في كافَّة أنحاء العالم الإسلامي.
وفيما يلي نموذج لخريطة تقسيم مصر، أعدَّها أقباط المهجر، ونشرها موقع اليوم السَّابع في 28 أغسطس 2012م، خلال فترة حُكم الرَّئيس المصري الأسبق، محمَّد مرسي (30 يونيو 2012-3 يوليو 2013م)، في مقال عنوانه “أقباط المهجر ينشرون خريطة تقسيم مصر ‘‘تحت الرّعاية الأمريكيَّة’’ …دولة قبطيَّة مزعومة عاصمتها الإسكندريَّة وأخرى نوبيَّة وثالثة تحت النُّفوذ اليهودي”.