مسلسلات رمضان.. من تزييف الحاضر إلى تزوير التاريخ
بقلم علي الرباج
مع كل رمضان تبدأ الآلة الإعلامية بالدوران لتبث للمشاهدين أعمالاً في قالب درامي وفكاهي. كما هي العادة فقد أصبح رمضان شهر المسلسلات عوض شهر العبادات. والملاحظ في الآونة الأخيرة أن أغلب الأعمال التي تقدم في رمضان، لم تعد تلقى الترحاب المعهود -ولا يغرنك عدد المشاهدات في يوتيوب-، بل صارت محط استهزاء واستهجان معظم الشارع العربي. قبل اليوم بحوالي خمسة عشر سنة أو أكثر، لم تكن مسلسلات رمضان وأعمال رمضان تلقى هذا الاستهجان الذي تلقاه اليوم، بل العكس تماماً، فقبلاً كان السواد الأعظم يبدي إعجابه بها ويمدحها، ويتعدى الإعجاب إلى الحد الذي يتبادل فيه الشارع كلمات ومستملحات الممثلين، وتزدان التجمعات بنقاشات حول سيناريو هذا المسلسل وذاك، وأما اليوم فإما السخرية والاستهجان أو الغضب والرفض.
ويعد رمضان هذه السنة، رمضان غضب المشاهد العربي، فلأول مرة يستشعر فيه الناس بخطورة الإنتاجات التلفزية، بعد تجاوزها حد نشر العري وقلة الاحترام، ووصولها إلى مستوى عالٍ من الانحطاط والتزييف، الذي لم تعد تريد معه تغيير الذوق العام فقط، بل تغيير تاريخ أمة بأسرها. يقول هربرت أ. شيللر في مقدمة كتابه “المتلاعبون بالعقول” ما نصه: “يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول《الصور والمعلومات》ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا بل تحدد سلوكنا في النهاية…”.
لقد أضحى مديرو القنوات الإعلامية حسب شيللر سائسي عقول، فدورهم لم يقتصر على تقديم الفرجة والترفيه، بل تعدى ذلك بأشواط طويلة وبات الإعلام وكل ما ينتجه موجهاً لغرد معين وهو التحكم في الجماهير. يزخر تاريخ الإعلام الأمريكي بأمثلة لا حصر من التحكم في الجماهير وتحديد نمط التفكير، وحسبنا مثالين، الأول أفلام “الرمبو” في الثمانينات، والتي تصور الفيتناميين كوحوش وتقدم الجندي الأمريكي كملاك يحارب الشر وينشر (الحب) بالطائرات و(السلام) بالمدافع، والثاني “مجلة ناشيونال جيوغرافيك”، التي ضللت الأمريكيين لسنوات طوال -حسب شيللر- بتقديمها للحقائق منقوصة ومخدوشة؛ فعوض أن تعرض على الناس صور المجاعات التي تضرب الدول الأفريقية والحروب التي تنهش جسدها، تكتفي بوضع تقارير عن الجو وإلتقاط صور الحيوانات والنباتات، وكأن هذه القارة جنة الله فوق أرضه.
تعمد وسائل الإعلام إلى التدليس وقلب الحقائق في وقت محدد، وذاك حين تشعر بالخطر وهذا الخطر يكمن في تزايد وعي المجتمعي وبداية تشكل الإدارة الشعبية. فالدجالون -حسب بولو فرير- يلجأون إلى التضليل الإعلامي عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، وأما قبل ذلك فلا وجود للتضليل، فالشعب الخامل لا يحتاج للتضليل فهو تائه لا يحتاج لمن يضلله. فالتضليل ليس سوى أداة يستعملها السياسي وقت الحاجة. وإن المتابع للأحداث -العربية- ليدرك أن التغير الحاصل في الإعلام مرده -دون أدنى شك- للتغيير الذي طرأ على المستوى السياسي في المنطقة.
هذا التغيير أرخى بظلاله على كل شيء سواءً الحياة اليومية للمواطن أو على الإعلام ونمط التفكير، بل شمل حتى التدين فناهيك عما شهدت مصر وسوريا -مثلا- من ارتفاع لنسب الإلحاد مباشرة بعد فشل ثورتيهما، تغييرت نظرت البعض للدين الاسلامي خاصة وتبدلت مفاهيم كثيرة واستقرت قراءات شاذة سواءً للقرآن أو للاسلام في ذهن البعض بعد أن شهدوا -كما يعتقدون- سقوط النظرة التقليدية المسيطرة. ولكن ما يهمنا فقط هو التغيير، يقول الدكتور العفيف الأخضر في إحدى شرحاته في ترجمته للبيان الشيوعي ما نصه: “المسيطر على الاقتصاد مسيطر على الفكر، والفكر السائد فكر الطبقة السائدة”.
قولة ربما تشرح لنا ما الذي ما الذي يحدث بشكل دقيق، فالذي يحدث اليوم في الإعلام والذي يفسر استهجان الناس وسخريتهم من الانتاجات التلفزية الرمضانية منها وغير الرمضانية، هو كون الإعلام بمدخلاتها ومخرجاته لم يعد يمثل المجتمع ولم يعد يرقى لتطلاعته، وبات يسير عكس التيار الاجتماعي وبدأ المرء ير بوضوح أن هذه المسلسلات أو البرامج تعانده وتدخل مع كيانه في صراع من أجل البقاء. وهو يدرك حقيقة هذا الاعلام، ويعرف أن الصراع معه يعني الصراع مع القوى المتحكمة في الإعلام من جهة، والمتحكم قوت يومه هو من جهة ثانية، وهذه الفئة تسيطر على حاضره وتصنع مستقبله وتريد أن تغير تاريخه بقلب الحقائق.
ولعل أشهر مثال على قلب الحقائق وتزييف التاريخ، ما عرضه مسلسل “مخرج 7″، الذي قدم القضية الفليسطينية على كونها قضية ثانوية وليس بقضية ذات أهمية بل واعتبر الفلسطينيين أنذالاً ناكري الجميل بينما الصهاينة أصحاب مبادئ وهمم ولهم التقدير، ومباشرة بعد عرضه انطلقت التغريدات التي أعدت مسبقاً تحت وسم “فلسطين ليست قضيتي” وملأت الصرخات وسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة فضحت نفسها بنفسها دون الحاجة إلى محللين وأساتذة؛ بعد أن تأكد بالملموس أن الذي يقف وراءها ليس سوى سياسي يسعى للتطبيع العلني ولكنه ليس بقادر على المواجهة، وهو خائف من ردة الفعل المجتمعي لأنه يدرك أن الشعوب العربية عامة -والشعب السعودية- خاصة لن يسمح بمثل هكذا علاقات علنية وصريحة -ربما يتغافل عما يقع تحت الطاولة-، ولن يسمح لممثل برتبة مخبر أن يدرسه تاريخ القضية فلسطينية، فهو يحفظه عن ظهر قلب، بدءاً من النكبة ومروراً بأطفال الحجارة وانتهاءً بصفقة القرن أو صفعة القرن.
ومسلسل “مخرج 7” مثال بسيط على ما الذي يحدث في الإعلامي العربي وشرحنا السابق لأسباب التغيير الواضح في توجه الاعلام وفي محتواه التلفزي سلسل وسهل وغير مستفيض. وأما إذا أردنا أن نستفيض فإننا قد ننتقل من مجرد مقالة بسيطة إلى كتاب من مائة صفحة أو يزيدون، فالتحول المفاجئ يراه الأعمى في الليل ويسمع الأصم في الزحام، ويكتب عنه المتخصص وغير المتخصص.
إن الخطير في هذه المسلسلات، كونها تقدم تغطية زائفة للواقع الاجتماعي العربي والمسلم، وذاك لأنها تظهره وكأنه مقسم إلى فريقين، فريق مع التطبيع وفريق ضده، ونحن لا ننكر وجود أشخاص تر في الكيان الصهيوني الصديق والحبيب وتعتقد أن التطبيع معه حل لكل مشاكل العالم، بما فيها ثقب الأوزون وشح المياه وفيروس كورونا ربما، وأن فلسطين هي من حق الصهاينة لأن أرضهم وأن الفلسطنيين باعوا أرضهم وإلى غير ذلك من الأمور التي لا يصدقها إلا الساذج قليل الإطلاع. نعرف هذا وأكثر ولكننا ندرك جيداً أن هؤلاء قلة ويدخلون تحت حكم النادر والنادر لا حكم له، وأن العرب عامة والمسلمون خاصة متفقون جميعاً على أننا مهما انسلخنا من ثقافتنا إلا أننا نعود إليه دائما وأبداً، ومهما حاول الإعلام فلن ننسى أن فلسطين قضيتنا وقضية كل إنسان حر قبل كونها قضية الشعب الفلسطيني الصامد، ولن ينسى المغربي تضحيات الجنود المغاربة في الجولان ولا المصري سيتناسى بطولاته في سيناء وعلى خط برليف. لن ننسى ذلك، لن يحدث.
(المصدر: مدونات الجزيرة)