مقالاتمقالات مختارة

مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكـام

مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكـام

بقلم د. أحمد الريسوني

كثير من الجماعات الإسلامية، وكثير من العلماء والدعاة، يعلقون –بدرجة كبيرة- وجود الإسلام، وتطبيق الإسلام، ومصير الإسلام ومستقبله، على موقف الدولة ومدى التزامها بالإسلام وقيامها بحمل رايته. وكثيرون يرون أن التطبيق  الحقيقي للإسلام والمستقبل الحقيقي للإسلام إنما يتمثل في “قيام الدولة الإسلامية” أو ربما “الخلافة الإسلامية”.
ولا شك أن الدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي هي عروة من عرى الإسلام، وحصن حصين للحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ولذلك فإن الانشغال بأمر إقامتها وبذل الجهود والتضحيات في سبيلها أمر مشروع ومعتبر. غير انه حينما تصبح إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل والهدف العاجل، أو هي الأولوية العليا والغاية القصوى، فإن هذا يصبح داعيا للتريث وموجبا للتثبت، حتى نضع الأمور في نصابها ونعطيها قدرها ومكانها.
لقد رأينا في حركاتنا الإسلامية من يجعلون من إقامة الخلافة شعارهم، ومجمع أهدافهم ومبتدأ طلبهم وتحركهم، معتبرين أن الأمة الإسلامية لا ينقصها سوى استرجاع الخلافة السليبة والنظر في وجهها والتمتع بجاهها.
ومنهم من اعتمدوا شعار “الدولـة الإسلاميـة أولا”، فخاضوا لأجل الإقامة الفورية لها كبرى معاركهم وألقوا فيها كامل ثقلهم، وجندوا لها كل طاقاتهم  وإمكاناتهم المادية والمعنوية.
ومنهم من لا يجعلون الخلافة والدولة كل شيء أو أول شيء، ولكنهم يجعلونها أصلا من أكبر أصولهم، ومنطلقا محددا لتحليلاتهم ومواقفهم ومسارهم.  ولذلك فهي عندهم “أعز ما يطلب” حسب عبارة المهدي بن تومرت التي سمى بها أحد كتبه.
وأود أن أوضح أمورا من شأنها أن تساعد على تحديد موقع الدولة ومكانتها في الإسلام، من غير إفراط ولا تفريط، فيما أحسب.
لا نجد في شـرع الله تعالـى نصا صريحا آمرا وملزما بإقامة الدولة، كما لا نجد في شأنها نصوصا في الترغيب والترهيب على غرار ما نجد في سائر الواجبات. وإنما تقرر وجوب إقامة  الدولة، ووجوب نصب الخليفة، من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحي والتخريج القياسي، وامتداداً للأمر الواقع الذي تركه رسول الله r.
وفي جميع هذه الحالات، فإن وجوب الدولة والخلافة إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد. فهي (أي الدولة) من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو اجب. بمعنى أن هذا الواجب ليس من نوع “الواجب لذاته” وإنما هو من نوع “الواجب لغيره”. ومعلوم أن الواجب لغيره أخفض رتبة وأقل أهمية من الواجب لذاته. وهذا يعني أمرين: الأول: أن السعي في إقامة الواجب لغيره لا ينبغي أن يكون على حساب ما هو واجب لذاته، ولا يجوز أن يكون ضارا به أو مفوتا له. والثاني: أن ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة، إذا أصبح ممكن التحقيق بغير الدولة فقد سقط وجوب هذه الوسيلة سقوطاً جزئيا.
كما أن الدولة القائمة قد يتأتى في كثير من الحالات إقامة بعض الدين في ظلها أو من خلالها، حتى ولو كانت منحرفة أو مناوئة أو معادية، فضلا عما إذا كانت محايدة أو محابية.
وفي هذه الحالات أيضا فإن أهمية “الدولة الإسلامية” وضرورتها تنقص بقدر ما تتيحه “الدولة القائمة” من فرص وإمكانات لإقامة الدين وإقامة أحكامه في الحياة الخاصة والعامة.
ثم إن الدولة التي نعتبرها وسيلة، هي في الحقيقة وعلى وجه التفصيل مجموعة من الوسائل، وهذه المجموعة من الوسائل قابلة للتفكيك والتفريق، أو بتعبير الأصوليين: قابلة للتبعيض، بحيث يتحقق بعضها دون بعض، ويكون بعضها قابلا للتحقيق وبعضا ليس كذلك. ويكون بعضها صالحا مشروعا، ويكون بعضها منحرفا مرفوضا. وهذا يعني أن ما يكون متحققا وصالحا ومقبولا في الشرع، أو كان ممكن التحقيق والإصلاح، فهو جزء من “الدولة الإسلامية” يجب التمسك به والاعتداد به.
غير أن الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصا على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر. وربما لم تزدد الدولة بفضل جهودهم إلا بعدا وعسرا. وهكذا فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم.
والأدهى من هذا والأمر، هو أن يصل طلب الدولة والسعي إلى إقامتها إلى درجة التعذر والانسداد، أو بعبارة أخرى: يدخل طلب الدولة في مرحة انسداد المسالك وانفتاح المهالك، ومع ذلك يستمر الإلحاح والإصرار والصدام. والحقيقة أن إقامة الدولة تخضع لشروط وأسباب وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية، لا يمكن إلغاؤها أو القفز عليها بمجرد رغبة أو قرار، ولا بمجرد تقديم جهود وتضحيات، حتى ولو كانت صادقة ومخلصة وجسيمة. وقديما قال ابن عطاء الله الإسكندري رحمه الله: “ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله” فمن يريد ويصر على  أن يحقق شيئا ويظهره في الوجود من غير أن يرى أن الله تعالى قد هيأ أسبابه وأنضج شروطه، فإنما يعبر بذلك عن جهله الكبير بالسنن والقوانين الاجتماعية.
نعم إن عمل الإنسان وجهده وتقدمه ونجاحه هو جزء من  الأسباب والشروط، وهو محرك للسنن والقوانين بإذن الله، ولكنه يظل محكوما أو على الأقل محدودا بفعل عوامل كثيرة لا يجوز إغفالها أو إسقاطها من الحساب والتقدير. ولو فرضنا أن إقامة “الدولة الإسلامية” هي شعيرة تعبدية وفريضة تعبدية مطلوبة لذاتها، لكان على طلابها أن يتأنوا في التقدير ويتدرجوا في التدبير، وأن يجملوا في طلبهم “فإن المنبَتَّ لا سفراً قطع ولا ظهرا أبقى ” فكيف والأمر لا يصل إلى هذه الدرجة ولا يكتسي هذه الصفة.
أضف إلى هذا أن المجال فسيح أمام الحركة الإسلامية ودعاتها وعمالها في أن تحقق الكثير من أهدافها ومن أحكام دينها ومن إصلاح مجتمعها، من غير أن تقيم دولة ومن غير أن تمتلك سلطة، وذلك من خلال العمل في صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة ومن خلال “إقامة الأمة بديلا عن إقامة الدولة”. وبيان ذلك فيما يلي:
بنـاء الأمـة أولاً
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة “.
يكثر الاستشهاد بهذا الحديث على أهمية الدول الإسلامية وعلى أولويتها أو ضرورة استعادتها ضمن حركة التصحيح وإعادة البناء، حيث إن الحديث اعتبر الحكم عروة من عرى الإسـلام.
غير أن هذا الحديث يشير إلى حقيقتين ضمنيتين لا ينتبه إليهما المستشهدون به، وهما:
1 – كون الحكم هو أضعف عروة من عرى الإسلام، لأن الانتقاض والانكسار يصيب أول ما يصيب الجزء الأضعف أو الأقل صلابة من أي شيء. بينما يظل الجزء الأكثر قوة ومتانة صامدا مقاوما لعوامل الهدم والكسر، حتى يكون الأخير بقاء والأخير انكسارا وانتقاضا. فمعنى الحديث أن أضعف ما يعتمد عليه الإسلام في وجوده وبقائه هو الحكم، وأن أقوى ما يقوم عليه و أصلب ما فيه هو الصلاة.
2 – إن الإسلام يمكنه أن ستمر ويستقر وينمو ويمتد حتى مع انتقاض عروة الحكم، بانحرافه أو غيابه. فمن المعلوم أن الله تعالى انزل دينه “ليظهره على الدين كله” وأنه وجد ليبقى إلى قيام الساعة، فإذا كان سيفقد عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخه، فمعنى هذا أنه سيعيش ويستمر قائما زمنا طويلا دون الاعتماد على تلك العروة المنتقضة !!!
ومصداق هذا التنبيه  النبوي وتفصيله وبيانه يوجد في تاريخ الإسلام والمسلمين، من أول قرونه إلى الآن، فقد ترعرع الإسلام واشتد عوده وامتد نفوذه عبر الزمان والمكان بالرغم من انتقاض عروة الحكم. وصان المسلمون عزتهم ومنعتهم وحفظوا بيضتهم وأقاموا حضارتهم وطوروا علومهم، بل وسعوا رقعتهم ونشروا في العالمين دينهم، بالرغم من الانحراف والفساد والوهن في دولتهم وحكامهم وحكوماتهم.
ماذا يعنـي هذا؟
يعني أن عرى أخرى في الإسلام أكثر أهمية وفاعلية من عروة الحكم بقيت قائمة مشتغلة، ويعني أن الأمة تستطيع أن تكون قوية متينة نامية فعالة حتى مع وجود اختلالات وانحرافات وعاهات في نظام حكمها. ومعنى هذا أيضا أن الدولة ليست كل شيء وليست أهم شيء. وحين تصير الدولة هي كل شيء أو هي أهم شيء، في حياة الناس، وحتى في أذهانهم، فإنها تصبح حينئذ أخطر شيء على الناس وعلى قدراتهم ومبادراتهم وفاعليتهم.
أما حين ينظر الناس إلى الدولة على أساس أن لها حيزا محدودا ووظائف محدودة، وأنها لا يمكن أن تقوم مقام الأمة ولا أن تلغي وظائفها، فإنهم حينئذ يتحررون من عقدة الدولة ومن تأليه الدولة، وينطلقون في أداء واجباتهم وإصلاح شؤونهم وبناء مجتمعهم وحمل رسالتهم، أيا كانت مواقف الدولة ودرجة تعاونها أو تخاذلها أو انحرافها.
ومن الواضح جدا أن عامة المسلمين وعلماء المسلمين عاشوا ومضوا زمنا طويلا وقرونا عديدة على هذا الأساس، ولذلك استمر الإسلام يزداد قوة بعد قوة، وينتشر ويتسع مداه يوما بعد يوم، واستمرت الشعوب الإسلامية في تماسكها وتقدمها وعطائها بالرغم مما أصاب أنظمتها الحاكمة وحكامها من أعطاب وعيوب لا أنكر آثارها السيئة ولا أقلل منها.
وهذا ما يحتم علينا العناية بالأمة وبتفعيل طاقاتها وتطوير آليات عملها قبل العناية بالدولة ومؤسساتها. ليكن شعارنا في ذلك: (بناء الأمة وتفعيلها أولا).
لنتذكر أن الأمة هي ما يزيد على الألف مليون، وأن عشرات الملايين منهم يوجدون في قلب الدول الغربية والحضارة الغربية، وأن في الأمة ملايين من العلماء والأثرياء، ومن المفكرين والمبدعين، ومن الدعاة والعاملين. وملايين من المستعدين الراغبين في البذل والتضحية والجهاد لدينهم ولأمتهم وللبشرية قاطبة. وأن كل هذه الطاقات التي لا يحصيها إلا الله تعالى، لا تحتاج إلا إلى التحريك والتوجيه، تحتاج إلى من يسلك بها سبل الرشاد، في الدعوة والتعليم والإعلام والتدافع السياسي والثقافي السلمي، والعمل الخيري والتنموي.
إن الامتحان الكبير الذي على العلماء وطلائع العمل الإسلامي أن يخوضوه وينجحوا فيه هو تفعيل طاقات الأمة في جميع الاتجاهات، هو الوصول إلى الاشتغال الآلي للمجتمع الأهلي، أو ما يسمى اليـوم بالمجتمـع المدنـي.
وختامـا: نجاحنا لا يتوقف على فشل غيرنا
كثير من الكتاب والمفكرين والدعاة المسلمين إذا تحدثوا عن مستقبل الإسلام، دخلوا مباشرة في الحديث عن مواجهة المخططات والتحديات الخارجية والمؤامرات المعادية. وإذا تحدثوا عن رسالة الإسلام وحضارة الإسلام وحاجة البشرية إلى الإسلام، فإنهم سرعان ما يربطون ذلك بأزمة الحضارة الغربية وعيوبها، ويتحدثون عن فشلها وبوادر تفككها وحتمية انهيارها… وكأنه لا مستقبل للإسلام ولا مكان لرسالته وحضارته إلا على أنقاض الحضارة الغربية، ولا مكانة للمسلمين إلا بفشل الغرب وتلاشي قوته. وكأنه علينا أن ننتظر ذلك أو أن نعمل لأجله، لكي نأخذ بعد ذلك دورنا ونؤدي رسالتنا ونصنع مستقبلنا. وهذا ليس لازما، كما أنه – في جزء منه- ليس صوابا، فمصلحة البشرية – ومنها المسلمون- تكمن في إنقاذ الحضارة الغربية وتحسينها وترقيتها ما أمكن. وهذا لن يتأتى – من جهة- إلا بمحاورتها واختراقها واستيعاب إيجابياتها وتبنيها.
ومن جهة أخرى بمزيد من النجاح والتقدم للإسلام، بعقيدته وأخلاقه وقيمه وشريعته، وبالنماذج والإنجازات المشرفة لأهله، والمشوقة لغير أهله.
إن المسلمين – من حيث هم مسلمون- يجب أن يؤمنوا بمستقبل الإسلام ومكانته، وبدوره ورسالته، وبإمكان نجاحه ونجاعته، دونما توقف على نجاح الآخرين أو فشلهم، ولا على قوتهم أو ضعفهم، ولا على انتصارهم أو هزيمتهم. بعبارة أخرى: إن للإسلام مكانته وقوته ومستقبله حتى مع قوة الغرب وجبروته ومع بقاء حضارته وهيمنته.
لقد نهض اليابانيون ونجحوا فيما أرادوا النجاح فيه، تحت الهزيمة العسكرية والسياسية وتحت الاحتلال والتسلط الأمريكي. وكذلك فعل الألمانيون والكوريون الجنوبيون، و التيوانيون.
نعم هناك اختلافات حقيقية، ولكن هناك إمكانات حقيقية ليتقدم الإسلام وينتصر من حيث هو إسـلام. كما هناك إمكانات حقيقية لفعل الكثير من أجل نهضة المسلمين وتقدمهم وتحضرهم. وإن إظهار الحق وإنجاحه لا يتوقف – مسبقا- على ذهاب الباطل وزواله. بل إن ظهور الحق ونجاحه وثباته هو المقدمة لزوال الباطل وتنحيه ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض  ) (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)

(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى