مقالاتمقالات مختارة

مذكرات درويش (١)

بقلم يسرا جلال

رغم أن الجو ما يزال باردًا في لندن في هذا الوقت من العام، إلا أن اللورد (كرزون) كان يتفصد عرقًا وقد انتفخت أوداجه وارتفع صوته في جلسة مجلس اللوردات: إني لم أر مسألة خطيرة كعزم الحكومة على الجلاء من قسم من الأراضي يمتد إلى طول ٣٠٠ أو ٤٠٠ كيلومتر ويمتد عرضًا إلى ٢٩٩ كيلومتر ويتردد عدد سكانه إلى ٢٠٠ أو ٣٠٠ ألف نسمة انبسطت عليهم حماية إنجلترا منذ أكثر من ربع قرن! إن إنجلترا ضحت كثيرًا في سبيل الصومال من رجال وأموال.. حيث أنفقت ثلاثة إلى أربعة ملايين من الجنيهات الإنجليزية . واليوم تريد أن تترك الصومال للمُلا حتى يكون صاحب الأمر والنهي فيه! (1)

يبدو أن اللورد على حق فقد أنفقوا الكثير للسيطرة على القرن الإفريقي منذ العام ١٨٣٩، ويبدو أن ما أنفقوه سيكون عليهم حسرة ثم يغلبون.. يغلب على أراضينا في الصومال مناخ صحراوي جاف يسهل معه أن تتخيل إنجليزياً أحمر اللون مختنقًا من ارتفاع نسبة الرطوبة، أبعد أن اختنق جنودها في الصومال تتركها ببساطة؟ تطلب الأمر من بريطانيا مواجهة غريمتها التقليدية فرنسا لتتقاسما سويًا حكم الصومال مع الإيطاليين والأحباش. كما كلفها ذلك مواجهة الثائر الصومالي المُلا محمد بن عبدالله بن حسن نور.

قضى الملا شبابه في تعلم العلوم الشرعية والأدب متنقلًا في أنحاء البلاد الصومالية لا يسمع عن شيخ إلا وقصده ونهل من علمه. وكانت رحلته للحج علامة فارقة في تاريخ الأمة الصومالية. فهناك في الحجاز تعاهد مع رفاقه على محاربة الغزاة من “الدول الأربع التي تقتسم بلادنا وتستعبد أبناءنا وتهيننا في أرضنا وتفسد أخلاقنا، وتزيف عقائدنا، وتسخر شعبنا كله لمصالحها الاستعمارية”(2).

عاد الملا من رحلة الحج وقلبه يحمل عزيمة للجهاد وسار يخطب بين الناس في مساجد القوم وأنديتهم.. يزكي القلوب ويحض على الجهاد ويحارب التنصير ويفضح من أسماهم (علماء السوء) الساكتين عن الاستعمار المهادنين له.

كنت في بربرة في ذلك اليوم حين لمحته واقفًا بين الجموع يذكرهم أن المستعمر في بلادنا فتنة اختبرنا الله تعالى بها ليعلم منا المؤمن والمنافق. كانت هذه أول مرة أراه يتكلم فيها، أذكر أنه قال:” أنا أعلم وأنتم تعلمون أن منا وفينا من يبيعون بلادهم، لأعدائهم وأعداء بلادهم وكتابهم، ثم يدعون زعامة خيالية وهمية، وأن منا وفينا علماء دجالين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفتون الناس بأن طاعة الدول المستعمرة واجبة لأنهم من أولي الأمر الذين قال الله فيهم:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}”(3).

كانت كلماته صفعة أفاقتني وكأنني أسمع هذه الآيات للمرة الأولى. أسرعت إليه بعد أن أنهى كلمته وأوصاني بالانتظام في مدرسته هنا في بربرة.

بعد تخرجي في المدرسة انتظمت معه في فرقته الخاصة التي أسماها (الدراويش)، وكنا نتدرب على مهارات القتال تمامًا كما نتدارس كتاب الله، كنت مسئولًا بشكل أساسي عن استئجار الحدادين الذين يجهزون جيش الدراويش بالرماح والسيوف والنبال والخناجر، كما أوكل إليّ المُلا مهامًا عديدة وكنت من تلاميذه المقربين .

***

سبتمبر ١٨٩٩.

استلمت من المُلا محمد أوراقًا وأقلامًا وقناني حبر، وطلب إليّ كتابة يوميات فرقة الدراويش، يبدو أن المُلا يدرك أننا نصنع التاريخ . ما زال المُلا حريصًا على النأي بنفسه وبفرقته من الدراويش عن الدخول في أية معركة قبل تمام الاستعداد… وكتب في رسالة إلى الإنجليز إننا نحن الدراويش “نحب المصالحة، ولكن لا نقبلها إذا كانت على حساب بلادنا وديننا وشرفنا”. وقال بوضوح: “ونحن ننتظر منكم إما حربًا معلنة وإما صلحًا لا خداع فيه ولا خيانة”. (4).

***

ديسمبر،١٨٩٩.

اعتبرت الحكومة البريطانية رسالة الملا إعلانًا للحرب وجهزت جيشًا قوامه جنودها الأوروبيين والهنود والصوماليين، كما اتفقت مع الحبشة وإيطاليا وفرنسا على مساعدتها في حصار الدراويش.

***

مارس، ١٩٠٠.

لم أنم في الليلة الماضية، قضيت الليلة رافعًا يدي إلى السماء مبتهلًا إلى الله أن يجعل النصر غدًا حليفنا. تغشاني هيبة عندما أتذكر موعدنا المضروب غدًا للقاء الإنجليز، ثم ما ألبث أن أذكر أني عبد وهم عُبَّاد للكبير القهار فأعود لأستحيي من ربي.. اللهم اكتب لنا النصر على أعدائك.

وقدر الله أننا لم نواجه الإنجليز في (جكجكا)، واجهنا الأحباش بدلًا عنهم. أخبرنا المُلا أن هذه هي طريقة الإنجليز، يستخدمون حلفائهم في الضربات الأولى وعندما يتأكدون من إنهاك الخصم يضربون ضربتهم القاصمة، ولذا فقد أوعزوا إلى الأحباش بالهجوم، ولكن الله ردهم خائبين. الله أكبر.. رأيتهم بعيني ينسحبون يجرون أذيال الخيبة والذعر في أعينهم، إعجابي بهذا الرجل وسعة علمه وعزته ويقينه بنصر الله يزداد يومًا بعد يوم.

**

عفاروين، ١٩٠٣.

انشغلنا كثيرًا بالقتال طوال الأعوام السابقة؛ فلم أتمكن من التدوين علّني أتمكن من تعويض هذا الخلل في التدوين، على أية حال سأوجز لكم ما أنوي بسطه لاحقًا.. أدرك الإنجليز بعد (جكجكا) بسالة فرقة الدراويش فكان الهجوم التالي علينا مشتركًا بينهم وبين الأحباش. توالت المعارك بيننا وبينهم في (فرطدن)، و(أفبكيل)، وكان النصر حليفنا بفضل الله. كان أبطال الدراويش يضربون كل يوم مثلًا جديدًا في الحماس والفداء، كان معنا رجل مسن يزيد عمره على السبعين عامًا، لم يكن معه سلاح، اندفع مكبرًا إلى ساحة المعركة ملوحٍا بعصاة كبيرة ضرب بها رأس إنجليزي فسقطت خوذته وانتزع منه بندقيته وأخذ يقاتل بها طوال المعركة. أما معركة (بيرطكا) فقد كانت منة من الله؛ إذ هرب القائد العام (سواين) وعزلوه عن القيادة العامة وعينوا مكانه قائدًا جديدًا.

ويبدو أن هذا الأخير مصر على الانتقام، فاليوم عند لقائنا في (عفاروين) كان الجنود الإنجليز قد ربط كل واحد منهم إلى صاحبه حتى لا يفروا من أرض المعركة، وألصقنا على أسلحتنا ورقة تحمل قول الشاعر:

في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة
والمرء بالجبن لا ينجو من القدر

ثم رفعنا أصواتنا بالتكبير وانقضضنا عليهم كالأسود والخناجر في أيدينا، ولم يخرج حيًا من هذه المعركة سوى ترجمانهم الصومالي الذي أصيب بطعنات سبع ثم تماوت بين القتلى.

**

بربرة، ١٩٠٤

أرسل المُلا في طلبي وطلب الاطلاع على ما كتبت، شجعني على مواصلة التدوين وسلمني قناني حبر جديدة.

انتصارنا الأخير في عفاروين دفع الطليان لطلب الصلح من الملا، بل إنهم سعوا ليكونوا ممثلين عن الأحباش والإنجليز، راسلوا الملا عدة مرات بشأن الصلح ولكنه كان يتعمد عدم الرد عليهم إذ لم يكن يريد فتح باب المفاوضات مع عدم تكافؤ القوتين، كان يريد للمفاوضات أن تكون ندًا لند لا قويًا لضعيف.

ناقشناه كثيرًا في أمر المفاوضات، كنت أثق في رأيه ولكن هذا لا يمنع أن في قلبي غصة من التفاوض معهم، لم نكن نريد صلحًا مع هؤلاء، إما يغادروا بلادنا ويتوقفوا عن تنصير شعبنا وإما حربًا لا هوادة فيها.

قال الملا لنا إن الهدنة فرصة لنتمكن من إقامة أكبر عدد ممكن من القلاع والحصون. كما أنها فرصة لحوار هادئ مع جيراننا الأحباش نقنعهم فيه بالعدول عن مناصرة المستعمرين؛ فالرجل الأبيض لا ينوي الخير للرجل الإفريقي.

لا أخفيكم أني وإخواني من الدراويش لا نثق في هؤلاء، ولكن مستشاري المُلا أوصوه بالمضي قدمًا في عقد الهدنة، لن أحكم الآن ننتظر ونرى..

يتبع..

ـــــــــــــــــــــــ
1)ثائر من الصومال، د.عبدالصبور مرزوق، ص١٥٦، بيت المقدس
2)المصدر السابق، ص٢٦.
3)السابق، ص٣٧.
4)السابق، ص٤

 
(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى