في الأسبوع الماضي استضافت جامعة قطر ندوة علمية نظمتها شبكة «زدني للتعليم» تناولت موضوعين مختلفين، أحدهما كان حول منهجية التعامل مع الآيات المتشابهات، والثاني كان حول خطاب الحرية في القرآن الكريم، ومع أن الموضوعين يبدوان كأنهما بعيدان عن بعضهما، إلا أن الندوة خرجت بنتيجة قد تكون مفاجئة لكثير من المهتمين والمتابعين.
إن «الفتنة» التي حذّر القرآن من الوقوع فيها باتباع المتشابهات (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..) إنما تكون بخلط المعاني بعضها ببعض حتى يصعب تمييز صحيحها من سقيمها، وغالباً ما يكون هذا الخلط مصحوباً بإغفال ثوابت القرآن ومحكماته ومقاصده، وقد استشهد الباحث هنا بأمثلة كثيرة من مثل محاولة بعض النصارى المؤلّهين لعيسى بن مريم -عليه السلام- للبحث عن سند لهم من القرآن الكريم في قوله تعالى (فنفخنا فيه من روحنا) لأنه إذا كان روح الله فهو إذاً غير مخلوق، متغافلين عن محكمات القرآن الكريم القطعية النافية للشرك بكل صوره، وأن الله خلق آدم وذريته بهذه الروح أيضاً (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي)، وعليه فإن روح الله إنما هي الروح التي خلقها الله كما نقول: أرض الله، وسماء الله.
ومن أمثلة التأويل الباطل للمتشابهات محاولة أهل الجبر الذين ينكرون الإرادة الإنسانية ويبطلون مسؤولية الإنسان عن خياراته وقراراته، الاستشهاد بمثل قوله تعالى (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، متغافلين أيضاً عن ثوابت القرآن ومحكماته القطعية في العدل وتحريم الظلم (وما ربك بظلام للعبيد)، وعقيدة الحساب والجزاء التي تنسب كل فعل لفاعله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) وعلى هذا يكون معنى الآية الأولى: أن الله يضل من يطلب الضلالة، ويهدي من يطلب الهداية، فالله بمشيئته المطلقة والعادلة رتّب النتائج على مقدماتها وأسبابها بالحق والعدل والحكمة وليس بالفوضى، تماماً كما أن من يشرب السمّ يهلك، ومن يشرب الدواء يشفى.
في المحور الثاني تناول الباحث ما يمكن أن يشغب على مبدأ الحرية، بدءاً من هذه التصورات «الجبرية» التي تجعل الإنسان كأنه ريشة في مهب الريح، وانتهاء بمزاحمة مبادئ أخرى واختلاطها حتى يكون لأهل الزيغ منفذ للوصول إلى زيغهم في هذه المساحة الضبابية، ومثال ذلك من يسوّغ الاستبداد باسم الاستقرار وحفظ النظام، وعكسه من يدعو إلى الفوضى والتحلل باسم الحريّة.
إننا إذاً في الجانبين، الديني والسياسي نعاني كثيراً من اختلاط المفاهيم، ومساحة الاختلاط هذه قد تتسع مع ضعف التكوين العلمي، وهبوط مستوى الوعي العام، إضافة إلى اختلال منظومة المعايير والقيم الحاكمة.
إن النقد كقيمة تصحيحية كبرى تعترضه دائماً قيم أخرى مثل الحفاظ على هيبة العالِم أو وحدة الجماعة، أو استقرار الدولة، كما أن كرامة الفرد واحترام خصوصيته تزاحمه أيضاً القيم الأمنية والأعراف والتقاليد المجتمعية.
إننا بين هذه المتشابهات نحتاج إلى الراسخين في العلم والخُلق والتقوى ليضبطوا لنا التوازن القويم وبوصلة الصراط المستقيم، أما الاستناد إلى المقولات العائمة والعواطف المجردة والمتقلبة، فإن هذا مظنة الزيغ والانحراف وطريق الفتنة ومجانبة الإنصاف.
(المصدر: مجلة العرب الالكترونية)