بقلم أيوب أبسومي
الإنسان بطبعه كائن تحليلي يسعى لفهم كُنْهِ الأشياء والموجودات، ويتحرى أسباب وقوع الواقعات، وهذه خاصية تَفرَّد بها الإنسان، وتميّز بإتقانها، فكان هذا المنهج العقلي سبباً في انتهائه إلى أحد الأسئلة العظمى : من أوجد الكون؟
تتظافر مجموعة من المقدمات العقلية ذات الأصل الفطري على تأييد فكرة وحقيقة وجود موجود واجب الوجود أوجدَ كل موجودٍ حادثٍ ممكنِ الوجود، وهي مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع، ثم مبدأ السببية الذي يعتبر من أقوى الدلائل العقلية والمنطقية على اتصاف كل حادث بصفة الافتقار إلى الغير في الإيجاد، مع ضرورة وجودِ موجودٍ واحد يُلزِم العقلُ عدم اتصافه بهذه الصفة، بل يوجب اتصافه بكمال الغنى عن غيره حتى لا ينتحر العقل بمغالطة التسلسل المنطقية.
السببية ..
يقول مبدأ السببية إن كل حادث لا بد له من مُحدِث – وهذا ما يسميه المناطقة بالدليل الوجودي ( cosmological argument ) – وأن هذه الحوادث تتوالى وتترادف تأثيرات بعضها على بعض حتى تنتهي إلى من لا مُحدِث له، ولا مؤثر فيه، فقسموا وفق هذا المبدإ الموجودات إلى ثلاثة أصناف: ما كان ممكن الوجود، وهو المسبوق بالعدم والملحَق به، كالإنسان الذي كان عدما ثم وُجد ثم سيصير عدما، ومستحيل الوجود، أو ما يعبَّر عنه بالثالث المرفوع، كاجتماع النقيضين، وهو أن يجتمع الشيء وضده في آنٍ واحد، كاجتماع الليل والنهار، والموت والحياة، والوجود والعدم، فهذا ممتنع عقلا لا يماري فيه عاقل، ثم ما كان واجب الوجود، أي ما كان يستحيل في حقه سَبْقُ العدم ولَحاقُه، وهو منتهى الموجودات ومسبِّب كل الأسباب، وهو الذي عبر عنه أرسطو بالمحرك الأول الذي لا يتحرك.
إن كل شيء حادث في هذا الوجود يفتقر لأسباب وجوده، وإذا ما نقصت هذه الأسباب نقص معها كمال صورة الموجود، وإذا ما زالت كلها كان عدما، سواء ابتداءً أو انتهاءً.. خذ مثالا، أنت الآن تقرأ وأنت متَّكئٌ على أريكتك أو مسترخٍ في مكتبك، وقد تكون الآن بين أحضان مجموعة من الأشخاص الذين لا تعرفهم في سيارة أجرة ضيقة، تشعر باختناق في التنفس، هل سألت نفسك لماذا تشعر بهذا الاختناق الكئيب؟ لأنك محتاج إلى ذرات حقيرة من الأكسجين، تحتاج إليها طول الوقت، حتى وأنت تسبح في مسبح رخيص، تغطس لتشاهد أصابع الناس داخل الماء، فترفع رأسك شاهقا بأعلى صوتك لتعوض ما فاتك استنشاقُه من الهواء في تلك الثواني تحت الماء، هل تعلم أن هذا فقط شيء واحد من بين كثير من الأشياء تحفظ استمرار حياتك ونبض قلبك حتى حين؟ هذا فيما يتعلق باستمرار وجودك، فكيف إذا بما يتعلق بإيجادك ابتداءً؟ هل تعلم أنك إذا لم تأكل أو تشرب ستتآكل دهونك فلحمك فجلدك لتسقط في زقاق من أزقة حيِّك؟ هل تعلم أنك إذا لم تنَم لأيام تعنُّتاً منك ستتفجر عروق رأسك بسبب ضغط دمك المرتفع؟ لماذا كل هذه التكليفات؟ لماذا لا أعيش مستيقظا دون أكل ودون تبرُّز؟ لماذا هذه القوانين التي لابد منها حتى أعيش؟ أتدري لماذا؟ ببساطة، لأنك فقير، ليس فقر الجيب كما يفهم الماديون، ولكن فقر الحاجة إلى غيرك، نعم، أنت محتاج مُذْ وُلدت إلى يوم تموت، تحتاج لمن يوجِدُك ومن يُطعمك، ومن يعلِّمُك، ومن يحمِلك، ومن يدفنك إذا استسلمت قهرا لقدرك..
أريزونا .. كراند كانيون Grand Canyon
بسبب عوامل تكتونية الصفائح وتزحزح القارات، نتج أخدود يُعتبر أعظم أخدود على سطح هذه الأرض، إنه كراند كانيون أو الأخدود العظيم.. ولعل الواقف أمام ضخامة المشهد سيتساءل مباشرة كيف تشكل هذا ومتى حدث؟ لأن هذا التساؤل البدَهِيّ يؤكد بجلاء رسوخ مبدأ السببية في عقل الإنسان رسوخا لا يُنكره إلا من يهيم عقله في غياهب الظلام، ورغم عظمة المنظر، إلا أن أي إنسان قد يجد تفسيرا منطقيا في الحين، كافتراض وقوع زلزال قديم، أو ارتطام نيزك بالأرض، أو تزحزح القارت مما نتج عنه انشقاق كبير على مستوى القشرة الأرضية، لكن لا يمكن بتاتا أن يأتي أحد ليقول أن هذا الأخدود كان هنا وعلى هذا الشكل بلا سبب ولا مسبّب، فحتما سينال نظرات شزراء من الصغار، أما العقلاء فسينصرفون عنه، ليشاهدوا المشهد التالي.
جبل راشمور ( ولاية داكوتا الأمريكية )
نقف الآن على ارتفاع قليل من سطح البحر، أمام جبل يحمل رؤوسا بشرية، نعم ليست أخاديد أو صخورا عظيمة مكسرة، أو حتى شجرة ضخمة مُعمَّرة، بل نحن أمام وجوه مألوفة، أبراهام لينكون بلحيته المربعة، ثيودور روزفلت صاحب الوجه المفلطح والشارب الكثيف، وتوماس جيفرسون الشبيه بنيوتن، ثم جورج واشنطن الحادّ الملامح، في نظركم، كم هي نسبة تشكل هذه الوجوه من لا شيء؟ بل فقط أريد نسبة تشكل هذه الوجوه دون تدخل كائن عاقل؟ فقط صخور خاضعة لعملية التعرية الطبيعية، صخور مرت عليها جميع سيول التاريخ، وتدحرجت على جميع سفوح الأرض، بالله عليكم كيف ستكون ردة فعلكم لو قال أحدهم إن هناك إمكانية %1 لإنشاء مثل هذه الرؤوس عشوائيا؟ وماذا أيضا لو أتى أحدهم وقال إن الطبيعة هي التي أنشأتها بنسبة %100، أكيد ستغادرون المكان كما سأفعل تماما !!
هذان مثالان ضربناهما على صخور وأحجار، لا تتكون إلا من مكونات معدودة على رؤوس الأصابع، وإذا بالغنا سنقول عشرات المكونات، لكن ماذا عن الحياة البيولوجية العالية التعقيد؟ ماذا عن الإنسان المكوَّن من عدد هائل جدا من الخلايا؟ ماذا عن توالد الإنسان وعن عقله المبهر؟ ثم من أوجد هذا الكون بمكوناته اللامعدودة؟ من أوجد كل هذا الإتقان؟ هل هو زلزال أم تزحزُح، أم نيزك ضرب رؤوس العشوائين فخرجوا يتسابقون ؟
قالوا عن السببية ..
يقول حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي عن مبدإ السببية : ” قانون السببية : إن الشيء الساكن لا يتحرك إلا بمحرك يحركه، وإن المعدوم لا يوجد إلا بموجد يوجده، وإن تعطيل قانون السببية تعطيل لأحكام العقل ومبادئه.
والأدلة على مبدأ السببية كثيرة جدا منها:
أن لكل سببٍ مسبِّباً، ولكل حادثة سبباً، وكذلك خلق الإنسان والكون وكل ما في الوجود لابد له من سبب أو صانع..
فإذا كان لكل مصنوع صانع كالأبنية والقصور والأدوات والمخترعات.. وهذه كلها لا يمكن أن توجد من تلقاء نفسها، ولا بد من صانع موجد لها، فكيف بهذا العالم والكون الفسيح بكل ما فيه لا يكون له موجد صانع؟!! ” ( الاقتصاد في الاعتقاد. ص: 35 )
وردا على من يعترض على مبدإ السببية بكون مسألة الحدوث خاضعة للصدفة يقول : ” إن المصادفة عشوائية وقد تحدث مرة واحدة ولا تحدث كل مرة. وهل من المعقول أن يكون هذا الكون بنظامه الدقيق، وهذا الإنسان وما فيه من أجهزة وأعضاء تعمل بدقة، أن يكون وجودهما صدفة؟! ثم إن الصدفة عمياء عشوائية وليست قانونا ثابتا، والمصادفة تتنافى مع العلم والعقل والمنطق السليم القائم على الأسباب والمسببات.” ( الاقتصاد في الاعتقاد.ص: 36 )
وانطلاقا من دليل قدمه الغزالي حول مسألة دليليْ الحدوث ومبدإ السببية، صاغ الفيلسوف الأمريكي ويليام لان كريج دليلا تراتبيا يستنتج به وجود خالقٍ للكون :
1- يتطلب كل شيء ظهر للوجود سببا لنشأته.
2- الكون ابتدأ في الوجود :
أ- توجد ظواهر زمنية في الكون.
ب- هذه الظواهر الزمنية مسبوقة بظواهر زمنية أخرى.
ت- لا يمكن لهذه الظواهر أن تتسلسل إلى الماضي دون نهاية.
ج- إذا لا بد أن تكون لسلسلة الظواهر الزمنية بداية.
3- إذا، للعالم سبب لوجوده، وهو الخالق.
( فمن خلق الله؟ ص: 29 – للدكتور سامي عامري. )
( William Lane Craig. The kalam cosmological argument. P: 48-49
يقول عالم الرياضيات والفيزياء النوبلي ماكس بورن : ” القول بأن الفيزياء قد تخلت عن السببية هو قول لا أساس له من الصحة، صحيح أن الفيزياء الحديثة قد تخلت عن بعض الأفكار التقليدية وعدلت فيها، لكن لو توقفت الفيزياء عن البحث عن أسباب الظواهر فلن تصبح حينها علما.” ( Born. M. 1949. Natural philosophy of cause an chance – The Waynflete lectures 1948 – p. 4 ).
إن مبدأ السببية مبدأ بدهي لا يحتاج لكثير استدلال وتقليب، ولكن جرت عادة الملحدين – غير المنصفين – أن يثيروا إشكاليات مبنية على مقدمات معرفية مختلَّة، قصدهم فقط عدم الاعتراف بخالق قادر حكيم وعليم لهذا الكون، فينسبون الوجود للصدفة تارة، وينسبونه لكائنات فضائية تارة أخرى، وينسبونه لصدفة نجحت في كون وفشلت في أكوان عديدة لم ولن تدركها حواس البشر من قريب ولا بعيد.. المهم في كل هذا، أن لا يكون هناك خالق لهذا الكون تتوافق صفاته مع ما يعتقده المسلمون بشكل خاص.. وسنعرج في مقالات أخرى على بعض الاعتراضات على مبدإ السببية وننقضها واحدا واحدا إن شاء الله.
فلا الملاحدة أعطوا براهين التجريب على صدفة الوجود، ولا هم خضعوا لمنطق العقل ورضوا بأحكامه، ولا هم انتحروا عقليا وأراحوا منهم العالمين.. ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
المراجع :
الاقتصاد في الاعتقاد. – أبو حامد الغزالي.
شموع النهار – د. عبد الله العجيري.
فمن خلق الله ؟ – د. سامي عامري.
اختراق عقل – د. أحمد إبراهيم.
سابغات – د. أحمد السيد.
المعرفة في الإسلام : مصادرها ومجالاتها – د. عبد الله القرني.
الإلحاد للمبتدئين – د. هشام عزمي.
(المصدر: مركز يقين)