مقالات مختارة

ما السنن التي سنها الخلفاء الراشدون؟

بقلم حامد العطار – الاسلام أون لاين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة” رواه أحمد وغيره من حديث العرباض.

في متاهات تعريف البدعة، واختلاف العلماء فيها بين التضييق والتوسعة، يَذْوِي بحث هام عن المقصود ب(سنة الخلفاء الراشدين) وأهمية الدعوة بالتمسك بها، إلى حد جعل بعض العلماء يستشكل تخصيص الحث بالتمسك بها بعد الدعوة بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تحتاج إلى سنة معها.[1]

وقد سجَّل الشوكاني هذه المتاهات في هذا الحديث، فقال :” إن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة”[2]

لماذا الخلفاء الراشدون وحدهم؟

أول مفاتيح الفهم الصحيح لتحديد المراد ب(سنة الخلفاء الراشدين) هو التفكير في سبب حصر هذه السنة في الخلفاء الراشدين وحدهم؟ لماذا لم تكن عامة في حق الصحابة جميعا؟ أو في أعلم الصحابة؟

فمن المعروف أن من حُفظت عنه الفتوى من الصحابة مئة ونَيِّف وثلاثون شخصا.

وكان المكثرون منهم سبعة: ليس من بينهم أبو بكر الصديق، ولا عثمان بن عفان، وإن كان من بينهم عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب. وأما أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان فمعدودان في متوسطي الفتوى.[3]

أعظم الصحابة علما

لما حضر معاذَ بن جبل الموتُ؛ قيل: يا أبا عبد الرحمن! أوْصِنَا، قال: أجلسوني، إن العلم والإيمان مكانهما مَنْ ابتغاهما وَجَدَهما، يقول ذلك ثلاث مرات، التمسوا العلم عند أربعةِ رهطٍ: عند عُويمر أبي الدرداء ، وعند سَلْمان الفارسي، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وعند عبد اللَّه بن سَلَام .

وقال الشعبي: ثلاثة يَسْتفتي بعضُهُم من بَعْض [وثلاثة يستفتي بعضهم من بعض] فكان [عمر وعبدُ اللَّه وزيد بن ثابت يَستفتي بعضهم من بعض، وكان] عليّ وأُبيّ بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض.[4]

كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصا بعينهم في علوم بعينها، ففي الحديث : “…وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل” رواه أحمد وغيره بسند صحيح.

فإذا كان بعض الصحابة يفضُلون بعض الخلفاء الأربعة في بعض العلوم أو المسائل، فما الذي يفضل فيه الخلفاء الأربعة مجتمعين غيرهم من الصحابة؟ هذا هو اللغز الذي يجب البحث عنه!

وهنا يبرز شعاع مضيء من العلامة الشوكاني في قوله : ” والذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب بحسب ما يقتضيه لغة العرب، فالسنة هي الطريقة، فكأنه قال: الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين”.[5]

ويقفز الدكتور حاكم المطيري قفزة هائلة في تحديد المراد بدقة، حينما يتساءل عن سبب وصف الصحابة الأربعة بالخلفاء هنا، ليصل بهذا إلى أن المراد هو سنن الخلافة تحديدا، أي السنن الدستورية والسياسية بتعبيرنا المعاصر، وعلى هذا فليس المراد اجتهاد الخلفاء الأربعة في مسائل العبادات أو الأحوال الشخصية أو المعاملات المالية أو الأقضية في الوقائع الخاصة، أو ما أفتى به الأربعة قبل أن يصيروا خلفاء![6]

ولذلك لم يكن غروا أن يأتي هذا المصطلح في مشهد سياسي على لسان عبد الرحمن بن عوف- رئيس اللجنة الانتخابية في ذلك الوقت- في خطابه عثمان بن عفان إذ قال : ” فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده”. وواضح أن عبد الرحمن بن عوف هنا لا يشترط على عثمان أن يتقيد باجتهادات أبي بكر وعمر الفقهية جميعها، ولكن عليه أن يتقيد بسننهما الدستورية والسياسية.

ومما يعزز هذا التفسير ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم :” أول من يغير سنتي رجل من بني أمية “.[7] والواقع جلَّى هذا المعنى، فقد كان الانحراف الأموي سياسيا لا شعائريا، فكان أول من استولى على الإمامة والأمة قهرا بالسيف هم من بني أمية، وهم أول من عطلوا الشورى.

وقد ذاع في عهد الصحابة التعبير ب( السنة) عن المنهج السياسي، فمن ذلك ما قاله مروان بن الحكم – وكان أميرا على المدينة لمعاوية – وأراد البيعة وولاية العهد ليزيد: (إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنًا، وإن يستخلفه فسنة أبي بكر وعمر).

فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: (ليس بسنة أبي بكر، وقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة، وعدل إلى رجل من بني عدي؛ أن رأى أنه لذلك أهل، ولكنها هرقلية).

وفي لفظ: (بل سنة هرقل وقيصر).[8]

مما يمكن رصده من سنن الخلفاء الراشدين: ضرورة الدولة لتطبيق الدين، وأنه لا دين بلا دولة، والحكم بالكتاب والسنة، وجعل الأمر شورى بين الأمة لا اغتصاب له ولا تنازع فيه، ولا توارث له فقد أقصى أبو بكر الأقارب عن الولايات، وعهده بالأمر بعد شورى الصحابة للأكفأ منهم علما وعملا لا الأقرب رحما ونسبا، وما قرره من أنه لا طاعة له عليهم إذا عصى الله ورسوله، وأن طاعتهم له منوطة بطاعة الله ورسوله .

وما سنه أبو بكر رضي الله عنه من جهاد أهل الردة والافتراق الذين أرادوا تفريق الأمة والدولة والعودة بها إلى الجاهلية، وما سنه من عدم التصرف في أموال الأمة، وعدم الأخذ منها لنفسه إلا قدر ما تفرضه الأمة له، ومساواته الناس في العطاء حتى ساوى بين الحر والعبد، وما سنه حين حضرته الوفاة من رد ما فضل عنده من المال إلى بيت مال المسلمين حتى قال عمر رضي الله عنهم: (لقد أتعبت من بعدك).[9]

نماذج من سنن عمر بن الخطاب

ما أكثر ما سنَّه عمر من سنن في الحكم وسياسة شئون الأمة التي امتدت لتضم شعوب كسرى وقيصر، حتى ضرب بسياسته المثل في العدل، كسنته في الأموال وما فرض للناس فيها حتى الأطفال الرضع، وما سنه في وقف الأرض، وجعل ريعها لبيت المال، لمنع وجود الإقطاعيات، وترك الجزية عن نصارى تغلب وجعلها صدقة تألفا لهم، وإعطائه فقراء أهل الذمة إذا احتاجوا من بيت المال، وتركه الأمر شورى من بعده، وعدم توليته للأقارب، وترشيحه للخلافة ستة أكفاء لتختار الأمة واحدا منهم، وتحديد مدة الاختيار ثلاثة أيام.

وتقريره مبدأ ترك الولاية بالعجز، ومبدأ الترجيح بالأكثرية في اختيار الخليفة، ومبدأ إعادة الشورى إذا تساوت الآراء بالعدد، ومراقبته لأداء العمال والولاة، وعدم تركه لهم أكثر من أربع سنوات في الولاية، ومشاطرته نصف أموالهم وردها لبيت المال، وعزله الأكفاء من الولاة إذا اشتكى منهم الناس كما فعل مع سعد بن أبي وقاص .

نماذج من سنن عثمان وعلي

وكذلك سنن عثمان وعلي رضي الله عنهم في مواجهة الفتن الداخلية وعدم التعرض لمن خالفهم الرأي ما لم يسل السيف على الأمة، وما سنه علي رضي الله عنه في الخوارج من سنن بقوله: (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال، ولا نحرمهم من الفيء، ولا نمنعهم مساجد الله) وموقفه ممن كفره وسبه … إلخ.

فهذه السنن التي تجلت فيها هدايات السماء، وسنن الأنبياء – في سياسة الأمم بالشورى والعدل والرحمة – هي السنن التي يصلح أن يحث النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على لزومها ويخشى عليهم من تركها والأخذ بسنن الملوك، والتوريث في الحكم، والحكم بغير الكتاب والسنة![10]

————————————

[1] – مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (1/ 515)

[2] – الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1/ 231)

[3] – راجع :إعلام الموقعين عن رب العالمين، ت مشهور (2/ 18)

[4] – راجع :إعلام الموقعين عن رب العالمين، ت مشهور (2/ 23)

[5] – الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1/ 231)

[6] – انظر الحرية أو الطوفان، المطيري، ص 252

[7] – سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 329)

[8] – فتح الباري لابن حجر (8/ 576)

[9] -انظر : صوارم الأقلام في نقض الشبه والأوهام، المطيري.

[10] – المرجع السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى