ماذا تعرف عن الحزب الشيوعي السوداني؟!
إعداد عزمي عبد الرازق
بشكل مفاجئ تقريباً وجد الحزب الشيوعي السوداني نفسه في مآزق تاريخي جديد، تحديداً بعد اندلاع الثورة السودانية، ما بين الالتزام الصارم بشعاراته وأهدافه الراسخة، أو الدخول في تحالف مع الجيش من جانب ، والأحزاب التي طالما وصمها بالقوى الرجعية، من جانب آخر .
أشهر الشيوعي السوداني رفضه المغلظ للمساومة على الثورة، والخضوع للمحاور الاقليمية، دون أن يتنازل إطلاقاً عن ديباجته الفكرية المتمثلة في الاشتراكية وسيادة الطبقة العمالية، ورفض تجرع روشتة البنك الدولي، فضلاً عن عدم مشاركته في الحكومة الانتقالية .
وكانت البيانات والمواكب الحمراء ترقص على سجادة مزخرفة بالشعارات الجميلة، لكن الواقع لم يكن مطابقاً لكل ذلك، فقد شارك الحزب الشيوعي في السُلطة عبر واجهات مختلفة منها تجمع المهنيين، والقوى المدنية وفقاً للناطق بإسم حزب البعث محمد ضياء الدين، بل معظم الوزراء والوكلاء يدينون للشيوعي في الظاهر والباطن، أو التيار الآخر الذي انسل من رحم الشيوعي وهيمن على السلطة بشكل لافت للأنظار، وهو تيار الشفيع خضر وحاتم قطان سكرتير حمدوك، فكانوا يعرفون بالمطرودين من الحزب، لخلافاتٍ تنظيمية.
ويعتبر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، أحد أعضاء ذلك التيار النافذ، إلى جانب وزير شؤون مجلس الوزراء السفير عمر مانيس، أحد أقوى الشخصيات في هذه الحكومة، وكان ضمن أعضاء الجبهة الديمقراطية في الجامعة، الفصيل الطلابي للحزب الشيوعي، قبيل أن يبارح مسرح الرفاق.
بذلك فإن الحزب الشيوعي اختار المشاركة في الحكومة الانتقالية ومعارضتها معاً، ولعب دور الرجل الطيب والشرير أيضاً، كما هو الحال في رواية روبرت لويس (دكتور جيكل ومستر هايد) دون أدني شعور بانفصام الشخصية، إذ يوجد بداخل الحزب أكثر من موقف، متناقض أحياناً، كما يوجد داخل الدكتور جيكل شخصيتان مختلفتان بالمرة في سمتهما الأخلاقي، أحدهما طيب ومثالي كمستر هايد لا يريد أن يتورط في قذارة الحكم، والأخر شرير براغاتي على هيئة (جيكل) اختار أن يشارك في السُلطة .
تلك التناقضات ظاهرة أحياناً، لكن رنين بيانات الحزب عند كل منعطف وحدث يطغى بقوة، فهو يقف إلى جانب شعاراته حد الصرامة الأيديولوجية، ضد الهيمنة الرأسمالية، وتنامي نفوذ قوات الدعم السريع ورافض إبتداء لحرب اليمن، وضد المشروع الأمريكي والتطبيع مع إسرائيل، ولا يبدو أنه يخشى غضبة أي جهة، لكنه فقط يخشى الشارع الثائر، ويفتي ببيع الجماهير بضاعته السياسية بأسعار المصنع، لذلك نجح في استمالة قاعدة كبيرة من الشباب، افتتنوا بظاهر الأشياء والشجاعة في التعبير عن الموقف الثورية .
ليس بالضبط كما تروج تلك المقولة المعادية للشيوعية ” بعد مأساة شمولية القرن العشرين، لا يمكن لأي كلام عن العودة للشيوعية، إلا أن يكون هزلياً” لكن مواقف الحزب مؤخراً بدا كما لو أنها تمليه عليه كراهيته لتيارات الإسلام السياسي، حيث سارع الشيوعي السوداني عقب انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، بتأييد الانقلاب، وأصدر الشيوعي بياناً اعتبر فيه ما تم نتيجة لـ”المقاومة لديكتاتورية الإخوان الفاشية الدينية” على حد زعمه، مشيراً إلى أنه لم يكن هناك من خيار أمام الجيش المصري غير الإطاحة بمرسي، بدلا من الانزلاق لحرب أهلية.
ولعل ذلك يعتبر موقفاً لا يتماشى مع ديباجة الحزب الشيوعي الرافض للانقلابات العسكرية، والمؤمن بالعملية الديمقراطية، لكن نزعه الخصومة السياسية تبدو طاغية، بشكل لا يقاوم، وهى التي فرضت على الحزب اليوم التحالف مع المكون العسكري لتصفية تيارات الإسلام السياسي من الخارطة السودانية، عبر قانون تفكيك الدولة العميقة، والقضاء على (الكيزان) وغض الطرف عن الدور الإماراتي، والخضوع للسياسة الاستعمارية الجديدة، والتمسك بالشرعية الثورية عوض الشرعية الانتخابية، دون أن يكون ثمة موقف رافض لكل ذلك غير البيانات السهلة المبذولة عبر الأسافير، والتي لم يعقبها مثلاً الخروج من حكومة قوى الحرية والتغيير ومعارضتها علناً، حتى لا يكون في الأمر خدعة، أشبه بخدعة دكتور جيكل ومستر هايد .
مطلع هذا الأسبوع أعلن الشيوعي السوداني عن ندوة للمفكر اليساري اللبناني جلبير الأشقر، في مقر الحزب بالخرطوم اثنين، وبدا الترويج لها بشكل واسع لكن سرعان ما تراجع الحزب، وفاجأ الحضور بالغاء الندوة مبرراً ذلك بأن التواصل مع الأشقر كان مؤسساً على معلومات خاطئة، وأنه تبين للحزب أن (المذكور) ليس عضواً في الحزب الشيوعي اللبناني، وأنه عمل سابقاً كمستشار للجيش البريطاني ولمعهد الدوحة (المركز الإخواني ) الذي يديره الدكتور عزمي بشارة، حسب ادعاء البيان، وهو ما أنكره جلبير في رده، وقد تحول ذلك الموقف إلى حفلة سخرية من الحزب الشيوعي، باعتباره بات حزبا استعراضياً مندفعاً في الموقف ونقيضه، إلى درجة أن بعض تصرفاته الآخيرة تبدو طفولية إلى حد بعيد.
تاريخياً تعرض الشيوعي السوداني لأزمة عميقة، وصلت حد تصفية قيادته عقب انقلاب الرائد هاشم العطا في تموز/ يوليو 1971 وسنوات الاختفاء والمطاردة من قبل الرئيس الأسبق جعفر النميري، والحالة الكربلائية التي سيطرت على مناسبته لسنواتٍ طويلة، ومن ثم الخروج المدوي للراحل الخاتم عدلان واجتراحاته التي أطلق عليها في مكتوبه” آن أوان التغيير” الحمولة الأيدولوجية الثقيلة التي قصمت ظهر الحزب .
في ليلة من ليالي العام (1994) كان الخاتم عدلان يقطر آخر قطرة من دوايته على منفستو التغيير، يلوح في صفحة عينيه حزب فذّ لم يعد يروقه، ورفاق يستلذون بعراقتهم، وهو نفسه العام الذي شهد تداعيات الخروج المدوّي وطلاق الماركسيّة، انعتق الخاتم من فرط إبائه، محطماً أسطورة الولاء المطلق للماركسية، ليخرس الألسنة التي كفرت بصحوته ومذكراته، ساعتها قال بصراحة غير معهودة: “كانت تلك لحظة مريرة في حياتي، بالإضافة إلى اكتشاف الكثير من النقائص والصور الكاذبة”.
مُنذها بدا الحزب الشيوعي السوداني يختبئ في أكثر من جلباب سياسي، أحياناً في الواجهات الطلابية ، وأحياناً داخل تحالفات الحركات المسلحة، وفي كثير من الأحيان عبر هيئات ديمقراطية تتلقى الدعم الغربي، ربما ليتجنب بذلك وطأة الصراعات التاريخية، وتحامل المجتمع الدولي الرأسمالي، لكنه في الآخير لا يبدو أنه يعرف ماذا يريد، أو على الأقل لا يريد أن يعرف الناس ما يقوم به في الخفاء .
(المصدر: الجزيرة مباشر)