مقالاتمقالات المنتدى

ماذا أقرأ في التفسير؟

ماذا أقرأ في التفسير؟

 

بقلم د. الخضر سالم بن حُليس (خاص بالمنتدى)

 

هذا السؤال النشط يلقي بأحماله كثير من الأشخاص على مسامع العلماء يبحثون عن تفسير يشبع رغبتهم الجامحة في فهم النص القرآني وإلقاء حمولته الدلالية التي تعينهم على استقبال هداياته وفهم مضامينه.

وتتنوع إجابات العلماء في نصح تلاميذهم وجمهورهم بتحديد التفسير المرغوب، لكن ذلك الاختيار لا يخضع لمعايير علمية، وإنما لقناعات شخصية، تتوافق مع الخلفيات الفكرية التي يعتنقها المجيب، فيجيب بما ينسجم معها، فوقعت كثير من كتب التفسير ضحية لرغبات أولئك المسؤولين وحرمت الأمه بسبب تأطيراتهم وتقييماتهم ميراثًا علميًا معرفيًا ثمينًا أنتجه العقل المسلم على امتداد جغرافية التفسير وتاريخه الزمني.

واختزال مكتبة التفسير في كتابين أو ثلاثة حرمان للجيل من العمل الموسوعي المسجل ضمن مكتبة التفسير، وبُعد عن النزاهة العلمية، وصدٌ للناس عن سبيل العلم.

والإجابة المثلى على هذا السؤال في السجل العلمي المعرفي أن يدرك المسؤول مدى استيعاب السائل وموقعه من مساحات العلم والتعليم. فيمنحه الجواب المنسجم المحقق للفهم والتفهيم الكاشف عن مكنونات النص القرآني بما توافرت للعلماء من موارد وأدوات في كشف حجب النص القرآني وإيضاح مدلولاته.

والإجابة السوية تتمثل فيما يلي:

أولًا: إن كان السائل يبحث عن الميراث النقلي وآراء مدارس التفسير في عصر الصحابة والتابعين، وتحليل تلك الأقوال ونخلها تحت مطارق التحقيق والحجاج العلمي فعليه بتفسير ابن جرير الطبري (ت:310) المسمى «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» الطبعة التي حققها الدكتور عبد المحسن التركي، فقد حشد ابن جرير على سفوح تفسيره آراء الطبقات الثلاث في التفسير النقلي وحرر منقولاتهم بقلم ترجيحي أصولي متين، واستدعى القواعد الأصولية واللغوية لإجراء ذلك التنقيح، وإدارة رحى الخلاف، حتى كان هذا التفسير مضخة نقلية لجميع من جاء بعده، ومستودعا يلتهم بداخله جميع آراء الطبقات الثلاث في التفسير، وعلى منواله سار البغوي (ت:516هـ)  في «معالم التنزيل»، وابن كثير(ت:774هـ) في «تفسير القرآن العظيم» إلا أنهما أكثر اختصارًا وأقل تحريرًا منه، وابن كثير قدم تحريرات حديثية بديعة بحكم تخصصه الحديثي وبراعته فيه.

ثانيًا: وإن كان يبحث عن تفسير بلاغي بياني يكشف عن إعجاز القرآن البلاغي، وينظر في مستخرجات المعاني والبيان في مضامينه فعليه بتفسير الزمخشري (ت: 538) المسمى بـ«الكشاف عن أسرار التنزيل»، إذ يمثل هذا الكتاب قطعة بلاغية متينة تداولتها الأمة بتقدير وإعجاب، وعلى الرغم من أن الزمخشري زرع مذهب المعتزلة في أحشاء التفسير إلا أن آل السنة لم يستطيعوا تجاهل أفكاره وجواهره البلاغية وأدائه الفريد في تطبيق «نظرية النظم» التي وضع معالمها عبد القاهر الجرجاني (ت:471) في «دلائل الإعجاز»، فعمدوا إلى تحرير الكتاب ورصد أفكار المعتزلة في ثناياه، ليبقى الكتاب سليمًا منها، فكان أبدع حواشيه عند آل السنة حاشية العلامة شرف الدين الطيبي (ت:743) المسماة «فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب» وقد طبعتها جائزة دبي الدولية في طبعة متينة رائعة موجودة على الشبكة، وطبعت دار اللباب «الكشاف» مؤخرًا في نسخة بديعة بتحقيق د. ماهر حبوش.

ثالثًا: وإن كان يبحث عن الأداء اللغوي ممزوجًا بالميراث النقلي، فعليه بتفسير القاضي عبد الحق ابن عطية (ت: 541) المسمى بـ«المحرر الوجيز»، إذ هو مدونة فخمة عالية الأداء، محبوكة التفاصيل، قدم فيها ابن عطية مناقشة علمية جمع فيها الآراء النقلية والنكت البلاغية والفرائد اللغوية، بطريقة مركزة، وقد طبع التفسير محققًا مدققًا عن وزارة الشؤون الإسلامية القطرية بطبعة راقية ذات نسيج بديع في عشرة مجلدات فخمة.

رابعًا: وإن كان يبحث عن سلوك اللفظية القرآنية وتحليلها تحليلًا معجميًا يحفر في جذرها اللغوي ويبين كيف استخدمت في سلك الجملة القرآنية فعليه بالجرد الفهرسي الذي أجراه الراغب الأصفهاني (ت:502) في مدونته الرائدة «مفردات الفاظ القرآن» وقد طبع محققًا عن دار القلم بتحقيق الدكتور صفوان عدنان داودي.

خامسًا: وإن كان يبحث عن التحقيق الأصولي والحجاج العقدي والعلوم الكونية المتصلة بالآيات، وقطوف من الحكمة، فعليه بتفسير الفخر الرازي(ت:606) المسمى «مفاتح الغيب»، إذ يعد هذا التفسير مستودعًا ضخما في العلوم الإسلامية عامة، وعلم التفسير على وجه الخصوص، وأكثر التفاسير تفصيلًا وعرضاً للآراء الفقهية والأصولية، ومناقشة للمعتقدات والأفكار والمذاهب، والكتاب ثروة علمية أودع فيه الرازي تحقيقات علمية لن يجدها الباحث في غيره وهو مطبوع إلا أنه غير محقق، وقدم ابن عادل الحنبلي (ت:880) تلخيصات نفيسة لأفكاره في تفسيره «اللباب في علوم الكتاب».

سادسًا: وإن كان يبحث عن التفسير الإجمالي السميك بعبارة مركزة، فعليه بتفسير القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي (ت: 685) المسمى «أنوار التنزيل» إذ حبكه ولخصه من تفاسير الراغب والزمخشري والرازي، فشكل من تلك الثلاثية التفسيرية مدونة من أكثر التفاسير شهرة عبر التاريخ، لما حواه من فنون احتضنت كثيرًا من فضائل التفاسير، فحظي بالاهتمام والشرح والتدريس في معاهد التعليم الإسلامي من أقصى الهند إلى أقصى المغرب، فاكتسب حواش وتحقيقات نفيسة سلطها العقل العلمي عليه، وقد شرح سماكة لفظه اللغوي القاضي أبو السعود أفندي (ت:982) في تفسيره «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم»، والتفسير حققه الشيخ محمد صبحي حلاق في طبعة فريدة عن دار الرشيد.

سابعًا: وإن كان يبحث عن تفاصيل الأحكام الفقهية التي حملتها الآيات القرآنية فعليه بتفسير القرطبي (ت:661) المسمى «الجامع لأحكام القرآن» فهو مدونة تفسيرية فقهية مرتبة المسائل والتقاسيم استلهم فيها تحقيقات فقهية من القاضي أبي بكر بن العربي (ت:543) في كتابه «أحكام القرآن»، ومن تحريرات ابن عطية في «المحرر الوجيز»، وأفكار القرطبي تجدها ملخصة عند القاضي محمد بن علي الشوكاني (ت: 1250) في «فتح القدير».

ثامنًا: وإن كان يبحث عن التحقيق النحوي والملح الإعرابية وتطبيقاتها في النص القرآني فعليه بتفسير أبي حيان الأندلسي (ت:745) «البحر المحيط»، إذ يعد مدونة تطبيقية لكتاب سيبويه في النحو، فقد قال منذ البداية: «الكتاب مرقاة إلى فهم الكتاب» يقصد كتاب سيبويه مرقاة لفهم كتاب الله، وعند تلميذه السمين الحلبي (ت:756) في تفسيره «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» تلخيصات وتحقيقات وتعقبات على شيخه أبي حيان لمن أراد التوسع، والكتاب طبعته مؤسسة الرسالة طبعة فريدة بتحقيق مجموعة من المحققين، وحققه أيضًا الدكتور عبد الله التركي في طبعة أخرى.

تاسعًا: ومن أراد رصد التناسب اللغوي بين الآيات والسور، فعليه برائد التناسب اللغوي للقرآن الكريم برهان الدين البقاعي (ت:885) في تفسيره المسمى «نظم الدرر في تناسب الآي والسور»، فهو مدونة تفسيرية نفيسة متوسطة الحجم وفريد الحبكة والتدوين، التقط فيها البقاعي من أفكار أبي الحسن الحرالي المغاربي (ت:638) نفائس من التفسير.

عاشرًا: ومن يبحث عن المقاصد القرآنية، وكشف أسرار وحكم التشريع، وتحرير المصطلح القرآني والبحث في منابته وجذره اللغوي، وتطبيقات القواعد الأصولية واللغوية، فعليه برائد التفسير القرآني في القرن الرابع عشر الهجري العلامة محمد الطاهر بن عاشور (1393هـ) المسمى «التحرير والتنوير»، إذ هو بحق موسوعة تفسيرية متينة التحقيق، قوية التحرير، محكمة الصناعة، قضى مؤلفها في تدوينها أربعين عامًا، وقدم فيها تفصيلات تفسيرية واستدراكات على من سبقه من المفسرين بقلم علمي أصولي متين، وهو تفسير ينتمي إلى جميع أنواع التفاسير فله في كل فن حظ وافر وهو كما قال مؤلفه: «فيه أحسن ما في التفاسير وأحسن مما في التفاسير».

الحادي عشر: ومن أراد تفسيرًا ملخصًا يقدم المعنى الإجمالي للآيات فعليه بتفسير ابن جزي الكلبي (ت:741) «التسهيل لعلوم التنزيل»، أو تفسير ابن سعدي (ت: 1376) «تفسير الكريم الرحمن» ففيهما خلاصات جيدة لمعنى الآية الإجمالي.

الثاني عشر: ومن أراد تفسيرًا معاصرًا متوسطًا، قدَّم فيه مؤلفوه مجهودًا تفسيريًا نفيسًا اختصروا فيه كثيرًا من تفاسير المتقدمين فعليه بـ «التفسير الوسيط» الذي أشرف عليه مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف. وقد طبع طبعة واحدة وهو موجود على الشبكة.

فهذا تعريف موجز لعدد من مدونات مكتبة التفسير وكشف عن ثروتها العلمية والمعرفية في مختلف الفنون، ومكتبة التفسير مكتبة مترامية الأطراف، نفيسة التدوين، ثرية العطاء، إذ اللفظة القرآنية نشطة حية لا تنقضي عجائبها في كل زمان ومكان، ومدونات التفسير ممتدة على الخارطة الإسلامية، وحسبنا هنا بهذه النجوم الزاهرة في سماء مكتبة التفسير.

 

لتحميل المقال بصيغة pdf يرجى الضغط على الرابط: ماذا تقرأ في التفسير؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى