“مؤمنون بلا حدود”.. كيف تحاول الإمارات خلق إسلام على مقاسها؟
إعداد محمد فتوح
في الثلاثين من أكتوبر ألغت السلطات الأردنية مؤتمرًا لمؤسسة مؤمنون بلا حدود تضمن -بحسب بعض نواب الإسلاميين- عناوين مصادمة للمجتمع، وهو ما أجج الانقسام حول الموقف من المؤتمر بخصوص، والمؤسسة بالعموم.
إلى هذا الحد يبدو الأمر متفهما، لكن غموضًا سيحل على القصة بعد ساعات قليلة. ففي غمرة السجال حول أسباب منع المؤتمر، تفاجأ المتابعون بخبر اختطاف قنديل، الرجل الأول في المؤسسة ورئيس مجلس الأمناء؛ قبل أن تعلن الشرطة العثور عليه في حالة مزرية وعلى ظهره جروح وحروق. وقد كتب على ظهره بالسكين “إسلام بلا حدود”. خرجت المؤسسة في حينها ببيان أدانت فيه تيارات الإسلام السياسي، خصوم قنديل والمؤسسة؛ حيث أن المتسبب في هذا الهجوم متمثل في “حملة التحريض التي تعرض لها الكاتب الأردني خاصة من قوى الإسلام السياسي، التي وصلت إلى حد تهديده بالقتل”.
بيد أن مفاجأة ستظهر سريعا، ففي تحقيقات الأمن العام الأردني اعترف ابن أخت قنديل بطلب خاله الاشتراك في فبركة هذه القصة، والتي ستبرر لقنديل ومؤسسته اتهام خصومه، وليُصبح قنديل ورفاقه الأبطال الذين تُطاردهم قوى الظلام والرجعية عالقا في دوامة تقدح في مصداقيتها ولتضطر، هي لتجميد عضوية قنديل، وليُطلق المغردون بتويتر هشتاج #كاذبون_بلا_حدود.
إن المتتبع لتاريخ المؤسسة، القصير نسبيا؛ يجد أن هذا التراشق ليس الأول من نوعه. فما تلبث المؤسسة بين حين وآخر أن تشتبك في سجال إعلامي أو صحافي جديد، وهو ما يعد أمرا غير مألوف في المؤسسات البحثية العلمية. مما يدعونا للنظر والتدقيق في الأسباب التي تقف خلف هذا التراشق الذي ما يلبث أن يهدأ إلا ويعود للظهور.[أ]
ففي لقاء جمع عددا من طلبة منظمة التجديد مع أحمد الريسوني، العالم المغربي الذي خلف القرضاوي مؤخرا في رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ سُئل الريسوني عن منظمة “مؤمنون بلا حدود” ليبدأ على غير المعتاد هجومه المكثف واصفا إياها بأنها “تبدأ بالإيمان لتنتهي بالإلحاد”، وليحذر الريسوني مما وصفه بـ “الدور الخطير الذي يمكن أن تقوم به”.
لم يكتف الريسوني بنقد المؤسسة وفكرها، بل دعاها للاعتذار عن دعوته للمشاركة في فعاليتها، وهو ما قابلته المؤسسة باستهجان شديد مُدّعية أن في هذا التعميم اتهاما لباحثيها بالإلحاد، مؤكدين على أن أبحاثهم ليس فيها شيء من هذا الاتهام الخطير، وختمت المؤسسة بيانها بقولها: “نُذكّر الدكتور الفاضل أحمد الريسوني بقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة “[1].
حين تفكيك زوايا النظر التي تُرى المؤسسة من خلالها، سيبدو الأمر أكثر وضوحا، حيث تمثل ظروف نشأة “مؤمنون بلا حدود” والأجندة العلمية التي تحملها، بالإضافة إلى الدعم الإماراتي الذي تناله؛ مثار العديد من علامات الاستفهام.
متجهة نحو دعم التصوف والحداثة، سعت أبو ظبي بأسلحتها الثقافية لتأسيس قاعدة عريضة تحمل هذه الأنماط من الفكر في مواجهة صعود الإسلام السياسي. فقد عززت الإمارات من الحضور الصوفي كممثل للإسلام، وذلك عبر دعمها لعدد من المؤسسات الصوفية التي أصبح لها دور عالمي، مثل مؤسسة “طابة” التي يرأسها علي الجفري، ومجلس حكماء المسلمين الذي يرأسه شيخ الأزهر أحمد الطيب، ومنتدى تعزيز السلم الذي يتولاه الموريتاني عبد الله بن بيه، وكانت أبوظبي هي المقرّ الدائم للمؤسسات الثلاث. وبالتوازي مع تعزيز الحضور الصوفي، عملت الإمارات على تمويل مؤسسات حداثية، وقد اتجهت مشاريعها صوب تفكيك سرديات المخزون السياسي والثوري وكذلك المقاوم في التراث الإسلامي، وذلك بتقديم صورة حداثية للإسلام مغايرة لما يستند عليه تصور الإسلام السياسي؛ وعلى الرأس من هذه المؤسسات كانت مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”.
وبنظرة أكثر عمقا، سنتجه لتفكيك المسارات الفكرية ومحاولة رصد تقاطعاتها من حيث الأهداف الكلية لتلك المؤسسات التي تمولها الإمارات، حيث إن الأجندة السياسية ولا شك تعد محركا رئيسيا في هذه اللعبة، وبالنظر للتقاطعات، فإن تلك المؤسسات التي تعمل الإمارات على تمويلها، تهدف بالأساس “للاصطفاف ضد الحركات الإسلامية، ووسم التيارات السلفية والإخوانية بالتشدد،وادعاؤها امتلاك ناصية الفهم المعتدل، وذلك بالارتكاز على التمويل السخي من دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعمد إلى الحط من المرجعيات الدينية الأخرى”[2]
وبعيدا عن اللوبي المؤسساتي الذي تدور المؤسسة في فلكه، لا تزال الحاجة قائمة ومُلحة لتسليط الضوء على الاشتغال الفكري الذي تقدمه مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” والقراءات الحداثية التي تقرأ وتعرض بها الوحي والتراث، ومعرفة تداعيات هذه القراءات على الحالة الثقافية والسياسية والفكرية في الوطن العربي، لا سيما مع توسع الاتهامات التي تُوجه إليها من خصومها والتي تمتد إلى أنسنة الدين وإعادة رسمه في صورة حداثية مُعلمنة، وقراءة التراث الإسلامي بصورة مدنية لتفريغه من إمكانية الاستلهام المقاوم في الوضع الراهن، بالإضافة إلى التمويل الضخم الذي تتلقاه المؤسسة وعلاقته بمناوءة الإسلام السياسي.
“مؤمنون بلا حدود منظمة مدعومة من الإمارات لمحاصرة فكر التجديد والردة على الربيع العربي”
د محمد الهيلالي- مدير المركز المغربي للدراسات
في مايو/أيار 2013 كان التدشين الرسمي لمنظمة “مؤمنون بلا حدود”، وهو ما اعتبره البعض تزامنا مع الانقلاب العسكري في مصر، والذي مثل حلقة من حلقات الردة على الربيع العربي. لكن الأستاذ محمد العناني، المدير العام للمؤسسة، صرح بأن المؤسسة بدأ نشاطها قبل 2013، حيث عقدت ندوة في الرباط في 18 مايو/أيار 2012 وهو ما يعني أن فكرتها سابقة على الربيع العربي ذاته، في محاولة منه “لنفي أي صلة فكرية أو سياسية بحزب معين أو دولة أو جهة سياسية ما”[3].
وفي المغرب الإسلامي [ب]، موطن رواد علم المقاصد الإسلامي وموطن مشاريع الحداثيين العرب كذلك، كان المقر الرئيسي للمؤسسة الوليدة في الرباط بالمغرب وما تحويه هذه البلاد من تنوع فكري واسع. وقد علل العناني، مدير المؤسسة، سبب اختيار المغرب باعتبارها البلاد التي يوجد بها تيار كبير من الباحثين المهتمين بالأُطروحات التجديدية والنقدية.
فمن المغرب الإسلامي خرج علماء المقاصد الكبار، بداية من إمام غرناطة الإمام الشاطبي صاحب الموافقات وإليه يُنسب تأسيس علم مقاصد الشريعة، وحتى شيخ الزيتونة التونسي محمد الخضر حسين، والمغربي علال الفاسي. وخرج منها كذلك مشاريع الحداثة الإسلامية العربية الأكثر تماسكا على يد المغربي محمد عابد الجابري والجزائري محمد أركون والتونسي عبد المجيد الشرفي وغيرهم،وهو ما جعل الصراع حول المؤسسة والموقف منها على أشده في بلاد المغرب قبل وصوله إلى المشرق الإسلامي.
وفي مقالة على موقع حركة الإصلاح والتجديد المغربية، والتي تمثل الإسلام السياسي في المغرب، هاجم إبراهيم الطالب المؤسسة بوصفها: “مؤمنون بلا حدود هي محاولة للَبس الحق بالباطل وكتمان الحق عن علم ودراية، للوصول إلى هيمنة النظرة العلمانية للكون والإنسان والحياة، مع فرض قراءة جديدة للقرآن والإسلام يصبح معها دين الإسلام مجرد معتقد فردي لا محل له في تدبير الشأن العام، وليس فيه من الأحكام ما يسوغ إحلال نظمه مراتب الحكم السياسي”[4].
أما محمد الهيلالي، مدير المركز المغربي للأبحاث، فقد رأى “مؤمنون بلا حدود” محاولة إماراتية للردة على الربيع العربي[5]. بيد أن النقد الأشد كان من نصيب أحمد الريسوني، القامة التاريخية لإسلاميي المغرب، حين وصف المؤسسة بأنها تؤول إلى الإلحاد.
لم يكن نقد الريسوني لأفكار المؤسسة جديدا، ففي وقت لاحق وجّه الريسوني نقده المباشر للمشاريع التي تحتفي بها المؤسسة في مقالات عنونها بـ “الحداثيون ومقاصد الشريعة” والتي نقد فيها فكر مالك شبال ومحمد أركون وعبد المجيد الشرفي قائلا: “هناك طائفة من هؤلاء “الإسلاميين الحداثيين” يبحثون ويدرسون التراث الإسلامي بروح عدائية رافضة. فهم قد صرفوا كل طاقتهم وجهدهم لنقد الإسلام في أصوله العقدية والمرجعية، والعمل على تسفيهها ونسفها، لبناء الحداثة على أنقاضها”[6].
“قراءة نصوص الوحي والتراث الإسلامي قراءة مدنية تعني تحويل الوحي من حاكم على الحضارة إلى مجرد محامٍ عن منتجاتها يبررها ويُرافع عنها ولا يُقبل منه غير ذلك!”
إبراهيم السكران
منذ عصر النهضة، باتت فكرة الأنسنة حاضرة بكثافة في الخطاب الديني اللاهوتي، حيث اتُّخذ من الإنسان مقياسا لجميع الأشياء. وبحسب كرين برينتون فإن الإنسانيين هم “الذين آمنوا بأن الإنسان معيار كل شيء، وأن كل إنسان معيار ذاته”[7]. أما جورج هيدلي فيعتبر الأنسنة في حقيقتها استبعاد للتفسيرات التي تقدمها أديان الوحي، والنظر إليها كونها ضربا من الأوهام، أي إننا يمكننا قراءة النصوص المقدسة قراءة رمزية إنسانية. ومن فكرة “الأنسنة” ذاتها انطلق عدد من العلمانيين والحداثيين العرب في التعامل مع النصوص الشرعية.
في هذا السياق، يرى إبراهيم السكران أن الدافع خلف “أنسنة التراث” عند العلمانيين العرب هو الضيق من اعتبار الدين والأخلاق مُحركا في حركة الإسلام، وهو ما يدفعهم إلى “أنسنة التراث”. وبحسب السكران فإنه يتم “إعادة تفسير التراث وتوليد مفاهيمه الجوهرية باستبعاد الدوافع الأخلاقية والمدنية عبر التوسل بأدوات العلوم الإنسانية التي يستخدمها الحداثيون العرب لتوافق الحداثة الأوروبية”[8].
فكرة الأنسنة تلك استدعتها مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” وجعلت منها مرتكزا لرسائلها، حيث عرّفت نفسها بأنها مؤسسة تسعى إلى “تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة”، وذلك عن طريق “التعالي على التحيزات والفوارق العقائدية والعرقية والثقافية والدينية والمذهبية والطائفية، لدفع الإنسان للسعي نحو هذا التعالي في حركته وفكره وسلوكه”[9]. وقد حفلت المؤسسة على موقعها بأبحاث وفاعليات وكتب تدعو فيها إلى الأنسنة، والتي اتخذت عناوين مثل “التفكير في الأنسنة في العالم العربي” و”من الأنسنة إلى الدسترة” و”أنسنة الخطاب الديني”، وعقدت مشاريع لرصد الأنسنة في فكر محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وأدونيس. وقد جعلت المؤسسة مفهوم الأنسنة هو الضمان للبشرية من العنف، إذ بحسب دراسة نشرتها المؤسسة فإن “الأنسنة هي الوسيلة الأقوى على مواجهة قهريّة العنف باتساعها المخالف”.
تقوم فكرة الأنسنة التي تعتمدها المؤسسة على إعادة قراءة الوحي والتراث الإسلامي قراءة مُعلمنة منزوعة الفاعلية في شؤون الحياة، مع الاستبعاد والنفي لأي أبعاد قيمية أو أخلاقية في التفاعل الديني. فعند الحداثيين العرب يرجع “تفسير تَشَكُّلات التراث إلى أنها مدفوعة بصراع سلطة، أو مزاحمة سيادة، أو احتفاظ بالجمهور، أو أهداف ربحية، أو صفقات تسويقية، فمن عثمان ابن عفان، وعليّ بن أبي طالب، مرورا بالشافعي، وانتهاء بالدُعاة المعاصرين، يتم تفسر كافة تمظهرات الخطاب الديني على أنها مجرد موازنات سياسية وحسابات اجتماعية محضة”[10]قراءات تتم عبر متتاليات لإعادة رؤية المستشرقين القدامى للدين والقرآن والسنة وتاريخ المسلمين لكن بأسماء مسلمة هذه المرة، وعن طريق استخدام مناهج الأنثروبولوجيا الدينية وأدوات الفيلولوجيا والهرمينوطيقا [ج]بديلا عن العلوم الإسلامية التي درج عليها الفقهاء القدامى.
يقول نصر حامد أبو زيد عن تفسير القرآن بالهرمينوطيقا: “وتعد الهرمينوطيقا نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المُفسر بالنص لا في النصوص الأدبية وحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن”، ويرى إبراهيم السكرانأن هذه القراءة المدنية للدين أو الأنسنة للوحي والتراث لا تنزع أصالة العلوم والمعارف الإسلامية لتُحل بدلا منها مناهج استشراقية وحسب، وإنما تتعسف في تفسير التاريخ الإسلامي لتنفي عن رموزه أي منطلق قيمي، “فلقد بلغت الأنسنة عند الحداثيين العرب مراحل تستدعي الرثاء، فحرب أبي بكر للمرتدين هي محاولة مادية لتمويل الخزينة، وعثمان وعلي مجرد طامحين للسلطة، والفتوح الإسلامية كلها حركات توسعية وحسب، والشافعي مهجوس بشكل مضمر بعرقلة نفوذ السلطة السياسية لسلطته العلمية.. إنها حالة من الإفلاس حين النظر للتراث تستدعي النظر بعين الرحمة والإشفاق”.11
“الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، والدنيا مظلمة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة”
ابن تيمية
عملت “مؤمنون بلا حدود” إذا على بعث وإحياء تلك المشاريع الحداثية، ودارت أطروحات المؤسسة في فلك مشاريع عدد من المفكرين، كما كان تلاميذهم هم الضيوف الدائمون في فعاليات المؤسسة، وكانت هذه المشاريع هي التي أنتجت القراءة المدنية للتراث، والتي استدعت الشكوك حول إيمان هؤلاء الحداثيين الحقيقي بالتراث حقيقة، واتهام البعض لهم بالسعي في هدمه بزعم الجديد!
في عام 2007 أصدر الحداثي التونسي البروفيسور محمد الطالبي، خريج السوربون وأحد أعلام الجامعة التونسية، كتابا سماه “ليطمئن قلبي” يشن فيه هجوما كاسحا على تلميذه القديم وأستاذ الحداثيين التوانسة فيما بعد “عبد المجيد الشرفي” وعدد من حداثي المغرب الإسلامي منهم المفكر الجزائري “محمد أركون” ومالك شبال وغيرهم.
صك الطالبي في هذا الكتاب مصطلحا سماه “الانسلاخ إسلامية”وقد عنى به الانسلاخ من الإسلام باسم تأويل الإسلام، وأضاف الطالبي: “هؤلاء قدموا أنفسهم كمسلمين، وأنا أعتبر بالمقياس الذي ذكرت أنّهم لا ينطبق عليهم الإسلام، فليختاروا اسما آخر”. وصف الطالبي مشاريع الحداثيين المغاربة مع التراث الإسلامي بأنها علمنة للإسلام وانسلاخ من الدين فقال: “يعتبرون القرآن عملا بشريا يجب أن تُرفع عنه القداسة، حيث تستخدم كل العلوم الإنسانية، كما وقع ذلك وتم بالنسبة لباقي الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، التي رفع عنها النقد الحديث القداسة”[13].
لا يُخفي الحداثيون العرب اتهامات الطالبي لهم وموقفهم من القرآن وقدسيته، وقراءته في ضوء مناهج غريبة عنه، وهذه الدعوة إلى الوحي المُعلمن والقراءات اللانهائية له تبنّت فيها “مؤمنون بلا حدود” موقف الحداثيين العرب، لا سيما المغاربة.
يقول نصر حامد أبو زيد: “العلمانية هي التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين”، وفي نص آخر يقول: “الوحي في جوهره علماني، والدينية طارئة عليه من صنع التاريختظهر في لحظة تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور”. أما حسن حنفي فيقرر بأن “العلمانية هي أساس الوحي، فالوحي في جوهره علماني”. ويتفق معهم عبد المجيد الشرفي، أستاذ الحداثيين المغاربة، في كتابه “لبنات” بأن النص القرآني يمكن قراءته بعدد لا نهائي من التأويلات، وأنه ينبغي تجاوز العلوم الإسلامية في التعامل مع النصوص لصالح مناهج التأويل الحديثة، إذ يوجب “إعادة النظر في المنظومة الأصوليّة الموروثة عن الشافعي وتجريدها من هالة القداسة، إضافة إلى التخلّص من التعامل الحرفي مع النصّ القرآني”[13].
عبد المجيد الشرفي نفسه يعد من الضيوف الدائمين للمؤسسة، وكانت له كلمة افتتاحية في مؤتمرها الأول، وهو بحسب التعريف الذي حمله على موقع المؤسسة يعتبر من أبرز المهتمين بقراءة وتحليل الموروث الديني الإسلامي وإيجاد تقاطعات بين الإسلام والحداثة من خلال كتبه المتعددة، وينتسب إليه الحداثيون في المغرب الإسلامي بصلة كبيرة حتى سماه بعض الباحثين بـ “المُدرب الحداثي” لحضوره في الساحة الأكاديمية والنشاط الملاحظ لتلاميذه.
وبهذا الشأن، يقول أحمد الريسوني: “على أن خدمة المشروع الحداثي لعبد المجيد الشرفي لا تقف عند مجهوده الشخصي في مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته، بل هي تقوم على شبكة مذهبية واسعة من تلاميذه وأتباعه ممن درَّسهم وأشرف عليهم، أو ممن يتم توظيفهم ورعايتهم ماديا ومعنويا”.
وفي نص شديد الكثافة والتركيز يكرر محمد أركون الدعوة إلى وحي مُعلمنٍ، إذ إن “الوحي ليس كلاما معياريا نازلا من السماء من أجل إكراه البشر على تكرار نفس طقوس الطاعة إلى ما لا نهاية، بل هو معنى قابل للمراجعة، كما أنه قابل للتأويل داخل إطار الميثاق بكل حرية بين الإنسان والله”[14].
عكفت المؤسسة إذا على إعادة تصدير الإسلام وفق الرؤية الحداثية بهذه الطريقة، وعملت على تبني نشر منهجية التعامل الحداثي مع النصوص الشرعية. ففي مقال نُشر على موقع المؤسسة بعنوان “العلمانية بوصفها فهما للدين” يُنفى أي دور سياسي أو تفاعلي للدين، لأن العلمانية “هي أفضل ضمانة لعلاقة صحيحة بين الإنسان وبين الربّ”. فبحسب الكاتب “القرآن والكتب السماوية نزلت من السماء باعتبارها رسالة من الله إلى الإنسان على نحو فردي، ولا علاقة لها بسلطة أو جماعة، وهذا التدخل السلطوي في العلاقة بين الإنسان وبين الله يُفسد الدين ويُضلل المؤمنين”، وهي العبارات نفسها التي دعت إليها القراءات الحداثية للنصوص الدينية، والتي تُفرّغها من بُعدها الاجتماعي والسياسي والأُممي.
أي إن المعركة المركزية التي تواجه الإسلام الحداثي هي معركة في ماهية تفسير النص بالدرجة الأولى، وهل يُلتزم بما جاء عن النبي وعمل به الصحابة والتابعون والفقهاء، أم يظل تفسيرا حداثيا بما يتوافق مع القيم الغربية المعاصرة، لتصبح هي معيار الحكم.
“فالمقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبد الله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا”
الموافقات – الإمام الشاطبي
بدءا من الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية حتى الإمام الشاطبي[هـ]وحتى العلماء المعاصرين أمثال الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، كتب فقهاء الإسلام في المقاصد الشرعية ومكانتها في الإسلام، وقصدوا بها استقراء النصوص والأحكام الشرعية لمعرفة الكُليات التي تدور حولها الشريعة وكيفية تحقيقها.
بيد أن الخطاب الحداثي قد بالغ في الاهتمام بالمقاصد كذريعة لإسقاط الأحكام الشرعية، وتعطيل عملها لتوافق القيم الأوروبية، وهو ما أدى إلى إعادة تأويل كل الأحكام التي تُخالف القيم الحداثية وتقديمها في صورة مُلبرلة حداثية، وكل ذلك انطلاقا من المقاصد بمفهومها الحداثي، “فالحدود الشرعية منافية عند الحداثيين لمقصد الرحمة في الشريعة، والقصاص بالقتل منافٍ لمقصد التسامح وحرية النفس، والحجاب منافٍ لتكريم المرأة”. لم تكتف القراءة الحداثية للمقاصد بذلك، فقد أعاد بعض الحداثيين تصوير علماء الإسلام على نحو يخدم الغايات الحداثية، وهو ما فعله عدد من الحداثيين مع الإمام الشاطبي صاحب الموافقات، والذي يُنسب إليه بلورة وتأسيس علم المقاصد، يقول محمد عابد الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”: “وبذلك يكون الشاطبي قد دشن قطيعة إبستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده”، وهو ما أكّده عبد المجيد الشرفي في كلمته بالمؤتمر الأول لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود” فيما يتصل بالإمام التونسي الطاهر بن عاشور.
بيد أن المفارقة تقع في أن نصوص هؤلاء العلماء ذاتها تُقوّض الفكر الحداثي، فالشاطبي على سبيل المثال أعلن في كتابه “الموافقات” التعظيم لطريقة أئمة الدين السابقين، وأنه إنما أعاد طريقتهم وجددها فقال: “الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلو كان ثَمّ فضلٌ ما، لكان الأولون أحقّ به”، ويُصرّح الشاطبي بأن غايات الدين مُقدَّمة على مركزية الدنيا، أي بالعكس مع ما تدعيه القراءة المدنية للتراث، حيث يقول الشاطبي: “فالمصالح الدينية مُقدَّمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق”.
فمع كل عمليات إعادة التأويل التي مارسها هذا الخطاب على الوحي والتراث بما تتضمنه من استحضار واستبعاد لنصوص أعلام وأئمة من أمثال ابن رشد أو الشاطبي أو ابن خلدون أو ابن حزم أو حتى ابن تيمية، فإن نصوص هؤلاء الأعلام تأبى التوافق مع الصيغة المدنية الحديثة، فضلا عن طبيعة الوحي ونصوصه.
فاختلاف الفقهاء في تفسير الإسلام دائر حول معرفة مراد الله في النص والعمل به، وليس التخلي عن النص وتعطيله لصالح قيم الحضارة الغربية، حيث إن البحث عن العلل الشرعية وفهم النصوص الدينية هدفه النهائي الوقوف على الحكمة من مراد الوحي، وليس وضع أحكام عقلية أو مصالح حداثوية يتم تأويل الدين إذا لم تتحقق[د].
“يحاول بعض الحداثيين العرب -تحت هوس التفسير السياسي- ربط أي نص شرعي بأقرب حدث سياسي، فما من شيء في الإسلام إلا وهو مصبوغ بالسياسة، ولم يبقَ ما هو خارج عن تأثير السياسة إلا شيء واحد، وهو ما يكتبه هذا الباحث، فهي بلا شك بعيدة عن تأثير هذه السياسة التي يصم بها الإسلام!”
فهد العجلان
يشغل الإسلام السياسي وتفكيكه حيزا كبيرا من أبحاث “مؤمنون بلا حدود”، إذ تحفل المؤسسة بمُحاضرين دائمين، وأكاديميين بارزين للحديث عن تقويض الإسلام السياسي في الوضع الراهن، على رأسهم الأكاديمي اللبناني البارز رضوان السيد، الذي بات ضيفا دائما لدى المؤسسة للهجوم على “الإسلام السياسي”، حيث يصرح السيد بأن “الإسلام السياسي” مغاير “للإسلام السني” التقليدي والذي يمثله الأزهر والزيتونة ومؤسسات الإسلام التقليدية ذات الطابع الصوفي غير المناوئ للسلطة، والمتصالح مع إحداثيات الفكر والشريعة التي تفرضها الدولة الحديثة.
وبنظرة عابرة على عناوين المؤلفات التي أصدرتها المؤسسة نجد الإسلام السياسي وحركات الجهاد المعاصر حاضرة بقوة في أعمالهم، فأسماء مثل “التطرف الديني في فكر الجماعات الإسلامية”، “الدّين والأخوّة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم”، “مفهوم تطبيق الشريعة”، “وهم الدولة الإسلامية”، “مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره”، ومؤتمرات دولية مثل مؤتمر “ما بعد داعش: التحدّيات في مواجهة التطرّف والتطرّف العنيف”، كل هذه العناوين تخدم الفكرة نفسها، أي العداء والقطيعة مع الإسلام السياسي، وهو ما ينفي تصريح مدير المؤسسة محمد العناني بأن أفكار الإسلام السياسي ونقدها ليست من موضوعات الاهتمام البحثي للمؤسسة.
ولا تتوقف مشاريع “مؤمنون بلا حدود” على نقد الإسلام السياسي المعاصر، بل تمتد إلى إعادة تفسير التراث الإسلامي والوحي ذاته بهوس التفسير السياسي. فعبد الجواد ياسين، أحد أعضاء مجلس الأمناء للمؤسسة، يستعرض أن “ما من شيء في هذا التاريخ إلا وهو مبصوم بخاتم السياسة، الفكر والفقه والاجتماع والاقتصاد واللغة، بل والنص الشرعي ذاته!”[15]، ويتهم ياسين في كتاباته عن فقهاء المسلمين بصبغالنصوص الشرعية على مزاج السلطة السياسية. أما نصر حامد أبو زيد، في إحدى أشهر سقطاته، حين ادعى بأن الإمام الشافعي حين وضع نظرياته في الأصول والفقه وضعها متقربا إلى بني أمية، يقول: “الشافعي هو الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا”[16]. لكن الذي غاب عن الدكتور ربما أن مولد الشافعي كان عام 150هـ أي بعد زوال دولة بني أمية بثمانية عشر عاما التي زالت عام 132هـ. لكن هوس التفسير السياسي للإسلام يتعاظم حتى يتعدى التراث والعلوم الإسلامية ومحاولة ربط نشأتها بالسلطة، ليصل إلى الوحي ذاته. وقد تتبع الباحث سلطان العميري ما أسماه بالمغالطات في التفسيرات السياسية للوحي والتاريخ في رسالته “التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر”، وهو ما يجعل هذه القراءات الحداثية المُسيسة للتراث الإسلامي بحسب رأي العميري غير نزيهة في تعاطيها.17
وتكمن مفارقة أخرى في أن اتهامات بعض الحداثيين لفقهاء المسلمين بأن علومهم قد تأسست لخدمة السلطان بأنها قيلت ضمن مشاريع يتم رعايتها من السلطة السياسية، كما أن المؤسسة دائما ما تغيب عن التطرق للسياسي الحاضر ودور الأنظمة القمعية في إعادة تشكيل المجتمعات والقيم فيه، مقتصرة سهام نقدها تجاه التراث وما أنتجه، وهو ما يدعو لإعادة النظر في مصداقيّة المؤسسة لا سيما “إذا أخذنا بعين الاعتبار الزمن والظرف الذي تأسست فيه “مؤمنون بلا حدود”، حيث يتبين أن الهدف البعيد والعميق الذي ظهرت المؤسسة من أجله يتمثل في محاولة إيجاد وتشكيل نخبة أكاديمية تنتشر في كل البلاد العربية تتصدر المشهد الثقافي والعلمي والصحافة سعيا لتقديم فكر بديل عن الفكر الذي يقدمه أبناء ما يُسمى بـ “الإسلام السياسي”[و]، الذي ساهم بشكل مؤثر في “الانتفاضات” العربية الأخيرة ووصلت بعض أحزابه للسلطة، كما تسعى المؤسسة لإعادة تصدير الإسلام المُأنسن بصورة حداثية، وذلك بدعم إماراتي سخيّ يوفر الإمكانات اللازمة للتحرك في الوطن العربي”[18].
“نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ”
ابن تيمية
رصد الدكتور عبد الوهاب المسيري متتاليات العلمنة داخل المجتمعات الإنسانية، لكن ما درجت عليه المشاريع الحداثية والتي تبنتها “مؤمنون بلا حدود” هي حالة أخرى من العلمنة للتراث الإسلامي ذاته. حيث تقوم هذه المشاريع على الإبقاء على اسم الإسلام مع تغيير مضامينه عن طريق استخدام المناهج التفكيكية والتاريخانية والتأويلية الحديثة، وهو ما لا يُبقي من الأحكام الإسلامية إلا ما يستقيم مع الذوق الأوروبي وقيم الحداثة الأوروبية.
ليظهر الإشكال المركزي بحسب كثيرين في هذه القراءة التأويلية التي استندت على الذوق الأوروبي كمرتكز تدعو إليه مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، لا من حيث الدعوة المباشرة الصريحة، ولكن باعتبار مناهج التأويل الحديث مناهج نهائية ويمكن تطبيقها على النص المقدس[19]. كما أن السعي لتوفيق النص المقدس مع القيم الحداثية يعد بحسب عديد الآراء، تماهيا مع هذا السياق المهيمن وخضوعا لجاذبية الغالب في سائر أحواله كما ذكر ابن خلدون في مقدمته.
وهو ما يجعل، بجانب علامات الاستفهام التي تطال المؤسسة فيما يختص بالتمويل والمشروع الفكري الذي تنتمي إليه، علامات استفهام جديدة تُصوب تجاه المحتوى الثقافي والديني الذي تتبناه المؤسسة وتدعو إليه، وحول تلك السجالات الإعلامية التي تخوضها المؤسسة باستمرار سعيا لتصدير اسمها في الساحة الإعلامية، قبل أن يبرز اسمها ويتصدر في الساحة المعرفية كإحدى المؤسسات الرائدة في المجال البحثي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[أ] آخر هذا التراشق كان منع مؤتمر للمؤسسة في الأردن من قِبل طلب تقدم به نواب في البرلمان الأردني، ثم الاعتداء على يونس قنديل أمين عام المؤسسة، والذي تبين كذبه.
[ب] المغرب الإسلامي اسم أوسع من بلاد المغرب فقط، إذ يضمن بلاد شمال غرب أفريقيا بداية من ليبيا والجزائر وتونس مرورا بالمغرب وموريتانيا حتى الأندلس قديما.
[ج] الفيلولوجي: يُعرب بفقه اللغة، وهو منهج بحثي قائم على تحليل النصوص في ظل بيئتها الثقافية والحضارية السائدة، والهرمنيوطيقا طريقة للتأويل النصي، واستُخدم للتأويل اللغوي والأدبي واللاهوتي في أوروبا.
[د] وما كان من المتشابهات من الأحكام فيُرد إلى المُحكم من القواعد والأصول: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” [سورة آل عمران].
– ويمكن مراجعة كتاب المحكمات للشريف حاتم العوني
[هـ] مستفاد فصلي “الشاطبي المفترى عليه” و”بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس” للدكتور فهد العجلان.
[و] لا يعني هذا أن الصحوة الإسلامية قدرت على صياغة إجابات صحيحة أو حاسمة على إشكالات الوطن العربي، ولا يعني كذلك أن الصحوة قدمت أُطروحات تامة التماسك، وإنما يعني أن أبوظبي قد جعلت نفسها ندا لهذا التيار القديم بحلف ثقافي وديني جديد.
(المصدر: ميدان الجزيرة)