ليلة بكيت على سربرنتسا
بقلم د. أحمد بن راشد بن سعيّد
لا أنسى تلك الليلة من شهر تموز (يوليو) 1995 التي كنت فيها في شقتي بسكن هيئة تدريس جامعة الملك سعود بالرياض، حين شاهدت في التلفزيون خبر سقوط مدينة سربرنتسا البوسنية بيد العصابات الصربية. كنت أعلم أن المدينة تتعرض لحصار شرس لسنوات، وكنت أتابع مآسي أهلها عن كثب وهم بين فكي كماشة: الكتيبة الهولندية المؤتمرة بأمر أوروبا، والذئاب الصربية المتوحشة. كنت أتوقع أنها ستسقط، وأن مذبحة فظيعة ستجري. وقتها انفجرت باكياً كالأطفال وطفقت أردد: «سقطت سربرنتسا، سقطت سربرنتسا»، حتى جاءت زوجتي تهدىء روعي وتواسيني. اتصلت بخطيب جمعة الحي، وكان وقتها الشيخ حمدان الحمدان، وطلبت منه أن يتناول المذبحة في خطبته. فعل الشيخ ذلك وقال في ختام الخطبة إن رجلاً اتصل به، وحضّه على تخصيص الخطبة لسربرنتسا.
لم تكن مذبحة صغيرة، إذ حصدت أرواح نحو 12000 ألف مسلم، معظمهم من الذكور. في يوم السبت الماضي شهدت سربرنتسا مراسم إحياء الذكرى العشرين للمذبحة، ودفن 136من الشهداء، بعد التعرف على هوياتهم، بمشاركة نحو 50 ألف شخص، منهم أقارب للضحايا وناجون. بلغ عدد من دُفنوا حتى الآن 6471 شهيداً. كان شهر تموز (يوليو) 1995كابوساً على تلك المدينة الواقعة شرقي البوسنة، إذ لم تكتف الامم المتحدة والدول الغربية بتسليمها إلى الصرب، بل سمحوا بذبح رجالها، واغتصاب نسائها.
صحيفة «الإندبندنت» البريطانية نقلت عن احدى المهاجرات، وهي إيكا هوسيتش، قولها إنها كانت في أحد الباصات المكتظة عندما لمحت ابنها، فكرت، ذا التسعة عشر ربيعاً، مأسوراً موثوق اليدين ضمن صف الرجال المسلمين على جانب الطريق، والذين كانوا بين أسير وقتيل. تقول: «أوقف الصرب الباص، وقالوا لنا: انظروا، هذا جيشكم! ولمحت ابني فصرخت، ناديته باسمه، لكنه لم يسمعنى». صحيفة «الواشنطن بوست» نقلت عن صبي مسلم وشقيقه قولهما إنهما رأيا رجالاً مقيدين إلى جانب الباصات، أطلق الصرب عليهم الرصاص، فسقطوا مضرجين بدمائهم. الذين استطاعوا الهرب إلى مدينة توزلا، شمال شرق البوسنة، قالوا إن الصرب أنزلوا الرجال من الباصات وأطلقوا النار عليهم، وبعضهم اقتادوه إلى مكان يُسمى»المسلخ» فذبحوهم بالسكاكين. كانت الطريق بين سربرنتسا وتوزلا مروّعة: «أكوام من جثث الرجال بحلوق مقطوعة، مكدسة على جانب الطريق». نقليدا بريتش، التي لا تعلم شيئاً عن مصير زوجها وأخيها، قالت إنها رأت الصرب يجرّون صبييْن في الثانية عشرة من عمرهما ويقطعان حلقيهما بعد أن فشلت أمهما في إقناعهم أن تفديهما بنفسها. الأم قامت بعد ذلك بشنق نفسها على شجرة .امرأة أخرى هي ساباهيتا باسيروفيتش قالت إنها رأت على مفترق طرق في الجبال 500 مسلم أُوثقت أيديهم خلف رؤوسهم، وأُجبروا على الجثو على ركبهم وجرّها على الأرض مسافات طويلة. الصرب قالوا لساباهيتا وامرأة اخرى كانت معها: «هولاء أزواجكم، هؤلاء جيشكم، سنقتلهم جميعاً.» زارفيا (22 عاماً وأم لطفلين) روت لصحيفة «الإندبندنت» أنها شاهدت الرجال على جانب الطريق قتلى وجرحى، حصدهم الصرب وهم يحاولون الفرار إلى الغابات مضيفة: «زوجي لن يجد مخرجاً ألبتة. الصرب في كل مكان».
وكما هي عادة الصرب في البوسنة، فقد اغتصبوا النساء المسلمات. حسيب جوبوفيتش (63 عاماً) قال لمراسل «الإندبندنت»، كريستوفر بيلامي: «كنت شاهداً عندما أخذوا خمس فتيات من باصنا، نزعوا ملابسهن بسرعة…ثم، أنت تعرف». قادمون إلى توزلا رووا كيف أخذ الصرب ثلاث فتيات لبضع ساعات، ثم أعادوهن وهن غارقات في الدم. مصطفى كوزبيتش ( 67عاماً) روى لتيم بتشر، مراسل صحيفة «الويكلي تلغراف»، أنه كان في أحد الباصات عندما دخل بعض الصرب وتوجهوا الى أمراة يعرفونها، فجرّوها واغتصبوها، مضيفاً: «كان الذعر يسيطر على ركاب الباص، لكن ماذا كان باستطاعتنا أن نفعل؟». جون بومفرت. مراسل «الواشنطن بوست» روى عن عديلة باليتش (31 عاماً( قولها إنها كانت في أحد ست باصات خارجة من سريبرنتسا، وإن الصرب أخذوا من الباص الذي كانت تستقله إحدى عشرة فتاة، معظمهن «جميلات وشابات»، ولم يرَهنّ أحد بعد ذلك.
أعدم الصرب آلاف الأسرى من المسلمين «الذكور» بحسب تقارير صحافية غربية، أبرزها ما كتبه روبرت بلوك، مراسل «الإندبندنت»، الذي زار بلدة ليوبوفيا على الحدود مع صربيا وكتب تقريراً بعنوان «الذبح الجماعي في حقل بوسني بلغت فيه الدماء الركب». روى المراسل عن سكان صرب قولهم إن ملعباً رياضياً في براتوناش امتلأ بدماء المسلمين. امرأة صربية نقلت عن أخيها الذي شارك في المذبحة قوله إنهم قتلوا في يوم واحد (الإثنين 17 تموز/يوليو)1600 رجل، مضيفة: «كانوا في غاية الاستعجال، ولذا أعدموا أكثرهم بالرصاص». وحدهم من يعتقد الصرب أنهم «مجرمو حرب»، عزلوهم، ثم ذبحوهم بالسكاكين. شهود عيان ذكروا انهم شاهدوا شاحنة ملأى بالجثث قرب براتوناش، وآلة تحفر حفرة كبيرة يُعتقد أنها قبر جماعي. أحد السكان قال إن قادة الصرب وجهوا دعوة مفتوحة إلى الصرب الذين فقدوا قريباً لهم في حصار سريبرنتسا ليأتوا إلى الملعب الرياضي، وينتقموا بأنفسهم من المسلمين. أكثر من 10آلاف مسلم حاولوا التسلل من المدينة المغدورة عبر الغابات ماشين على الأقدام 50 ميلاً للوصول إلى توزلا. بعد خمسة أيام وصل أقل من نصفهم. بعضهم ذهب ضحية كمائن، وبعضهم مات جوعاً، وبعضهم أصيب بالهلوسة وهام على وجهه في الأدغال. عمّال الإغاثة والمحققون في جرائم الحرب يقدّرون عدد الذين لقوا حتفهم من هؤلاء بين 6000 و 9000 ، ما يعني أن ما جرى في سربرنتسا كان أسوأ مذبحة في أوروبا منذ العهد النازي.
كانت الخدعة سلاحاً في المذبحة؛ إذ استولى الصرب على سيارات جنود ما يُسمّى «الحماية الدولية» وأخذوا ملابسهم (أو قامت منظمة الأرثوذكسي المتعصب بطرس غالي، ومبعوثه الخاص الوغد الياباني ياسوشي أكاشي بإهدائها إليهم)، فقاموا باستخدامها لدعوة المختفين عبر مكبرات الصوت إلى التجمع تمهيداً لنقلهم إلى بر الأمان، فلما اجتمعوا قاموا بإطلاق النار عليهم فقتلوهم جميعاً. بعض الضحايا مُثّل بهم، وقُطّعت آذانهم وأنوفهم. أحد المسلمين قال إنه رأى قائداً مسلماً اسمه انفر ألاسباهيتش -طريحاً ووجهه مفتوح إلى العظم على شكل صليب أرثوذكسي- يتوسل إليه أن يقتله، لكنه لم يستطع وتركه. جوليان بورغر، مراسلة «الغارديان»، التقت بشقيقين نجيا من قافلة قادمة إلى توزلا، اسمهما عمرو ورامو إبراهيموفتش. رامو (27عاماً) قال:» كنا ننام أثناء النهار نوماً متقطعاً…وكان طعامنا ورق الشجر الذي نقوم بتمليحه، وتفاحاً غير ناضج. لقد رأيت أناساً يموتون من الجوع». عمر (43 عاماً) قال إن «رامو صار يمشي أثناء النوم كرجل آلي، ويردد:»أريد أن أعود إلى البيت»، فقلت له: «لم يعد هناك بيت، لم تعد هناك سريبرنتسا». ويضيف عمر: « لقد سمحوا لنا أن نمشي بمحاذاة نهاية الوادي، ثم فتحوا علينا النار من الجانبين. لا أدري كم قُتل من الناس».
مسح الصرب سكاكينهم، وأصبحت سربرنتسا مدينة بلا ذكور، وخرج مالكوم ريفكند، وزير الخارجية البريطاني، الذي تولّت بلاده حماية السفاحين الصرب على مدى أربع سنوات، ليندّد بما سمّاه «العنف» مجدّداً رفضه استخدام القوة لوقف العدوان: «كان هناك تأييد كبير لاستخدام القوة الجوية، لكن يوجد من أبدى قلقه من المخاطر الحقيقية لذلك. يجب على الأمم المتحدة ألا تشن حرباً، بل ينبغي أن تدعم إجراءات رادعة ومؤثرة وواقعية». ماغي أوكين، مراسلة «الغارديان» تساءلت: «ما هو الجديد يا مستر ريفكند؟». المراسلة ذكرت أن مراسل سي.أن.أن نفد صبره وقال لريفكند: « لقد تتبعت كل كلمة قلتَها، ولم أفهم شيئاً، وأنا صحافي محترف، فكيف يردع كلامك هذا الصرب؟». اللحظة الحزينة، تقول أوكين، جاءت عندما وقفت صحافية من سراييفو مطالبة ريفكند أن يوضح لها ماذا عليها أن تخبر قراءها. أجاب ريفكند: سيكون هناك طعام أكثر من السابق، ومحاولات لإحياء العملية الدبلوماسية. تقول أوكين: شعرنا جميعاً أننا في كوكب آخر لاسيما عندما أضاف ريفكند: «ينبغي أن تشعر الأمم المتحدة بالفخر. إنها المرة الأولى في تاريخنا التي نستطيع فيها إنجاز كل هذا». لا ريب إنه إنجاز ضخم يُضاف إلى سجل حضارة ريفكند وقومه عبر التاريخ.
(المصدر: مجلة العرب الالكترونية)