لهذا يطعنون في صحيح البخاري
بقلم إحسان الفقيه
الإسلام بين كيد أعدائه وجحود أبنائه، ذلكم هو أصدق وصف لحالة الإسلام الراهنة، وليس العجب من كيد الأعداء فإنه لا مناص منه، وهي سنة الله الجارية في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا، لكن العجب كل العجب، ممن انتسب إلى هذا الدين ويطعنه في الخاصرة.
دخلت الدول العربية الإسلامية في أكذوبة عصر التنوير، وهو مصطلح ليس لواقعه نصيب منه، فليس مردافًا للاستنارة المعرفية والعملية والتكنولوجية والصناعية …..، بل يتوجه تحديدًا لتسطيح تراثنا الإسلامي وثقافتنا الإسلامية والتنكّر لها، والتمحور حول العبث بالثوابت الدينية، وتجاوز كل ما هو مقدس، وإخضاع الدين لميزان العقل والذوق.
ومما تشارك فيه أعداء الأمة من خارجها وبعض أبنائها من داخلها، تلك المحاولات الخرقاء العمياء المستميتة لإقصاء السنة النبوية، بعضهم من يصرح بالاقتصار على القرآن دونها، ومنهم من يسعى لذلك من خلال الطعن في أصح كتب السنة ألا وهو صحيح البخاري. يطعنون في كتاب تلقّته الأمة بالقبول حتى اليوم، واعتبرته أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، فهذا يؤلف كتابًا بعنوان “نهاية أسطورة.. صحيح البخاري”، وأخرى تصفه بالكتاب المُتخلّف، وغيرهما يقول أن تطرف الدواعش منبعه صحيح البخاري.
وإنا لنسأل هؤلاء المنتسبين للإسلام الطاعنين في صحيح البخاري: هل ذلك الكتاب الذي عاش في الأمة قرونًا مجرد كتاب يحمل آراء صاحبه؟ أليس الكتاب هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي جمع البخاري قسطًا كبيرًا منها؟ إن طعنكم في البخاري بمثابة الطعن في السنة النبوية، فإذا كان هذا الكتاب الذي هو أصح كتب السنة وجمع فيه البخاري الأحاديث وفق ضوابط شديدة الدقّة والإلزام، وفيها العديد من الأحاديث التي ثبتت بالتواتر، إذا كان هذا الكتاب يُطعن فيه، فمن أين نستقي سنة النبي صلى الله وسلم؟ هؤلاء يتعاملون مع أئمة السنة كالبخاري وغيره على أنهم كانوا يأخذون الحديث في الطرقات من كل قريب وبعيد، إن هذا لم يقل به أعداء الأمة، لعلمهم أننا أمة تفرّدت بالإسناد عن كل الأمم، فلم يكن الأئمة يقبلون حديثًا إلا بعد التأكد من أصله ومصدره، ولم يكونوا يعتمدون على روايات بلا سند، حتى أن الشافعي رحمه الله نظر في تفسير اشتمل على قصص وعبر، فقال: يا له من علمْ لو كان له إسناد.
لقد كانت الطريقة التي عنى بها البخاري وغيره برواية الحديث في غاية الدقة، فكان الراوي من رواة السند يخضع لفحوصات دقيقة، عن دينه وورعه وعقله وأخلاقه وسيرته، وعمن أخذ، ومن تلاميذه، فمن قامت القرائن على أهليته أخذوا عنه، ومن اشتبهوا فيه أعرضوا عنه وأسقطوه، حتى أن أحدهم ذهب ليأخذ الحديث عن آخر قطع له مسافات بعيدة، فلما رآه يخدع دابته بقبض يده حتى يتوهم أن بها طعاما فيأتي، لما رآه يفعل ذلك رجع، وخاف أن يكون الذي يكذب على دابة ليس بمتورع عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أئمة السنة يجوبون الأقطار طلبا للحديث ممن سمعه بأذنيه، فهذا رجل يسأل الشعبي فأفتاه ثم قال له “خذها بغير شيء، وإن كنا نسير فيما دونها من الكوفة إلى المدينة”، وقال سعيد بن المسيب: “إنا كنا نسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد”.
ولماذا البخاري تحديدًا يطعنون فيه بهذه الصورة؟
الإجابة معروفة، أن البخاري هو أصح كتاب عند الأمة بعد كتاب الله تعالى، وأجمعت على قبوله، وأوثق ما دونت فيه السنة النبوية، فإن ساغ الطعن فيه، فإن الطعن في صحة الأحاديث النبوية أجمعها في الكتب الأخرى جائز، ليصلوا في النهاية إلى هدفهم البغيض، وهو هدم السنة النبوية ليتسنى لهم نسف العمل بمقتضاها. الطعن في صحيح البخاري لا يمكن تناوله إلا في فلك مخطط تفريغ الدين من محتواه، فالسنة شارحة للقرآن ومفسرة له ومكملة له باعتبارها وحيًا من الله، وهو ما يفهم من قول الله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }، فالبيان من النبي صلى الله وسلم، وعُلم من الآية أن الذي يحدد المراد من الآيات هو النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بمعناها، فإذا كان هؤلاء ينسفون صحيح البخاري الذي جمع فيه أصح الأحاديث وأقواها سندا، فإنهم بالتالي يلغون تبيان النبي صلى الله عليه وسلم لمراد القرآن، ومن ثم يبطلون العمل بهذه الآية.
إننا نتساءل: إذا كان صحيح البخاري سبب تخلف الأمة ووبالا عليها، فهل كانت الأمة بكل علمائها وصالحيها طيلة 12 قرنا من الزمان يعيشون في جهالة لا يدركون هذا الخطر، ثم أتى هؤلاء الرويبضة- الذين لم يتورّع بعضهم عن الطعن في أعراض المسلمات لخصومة سياسية، وعلانية في صفحاتهم- بهذا الاكتشاف العظيم؟ لقد أنبأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشأن هؤلاء، فأرسل النبي بدوره هذا النبوءة التحذيرية فقال: (أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ).
إننا نعجب لأمرهم، إذا ما تكلم أحد من الناس في غير فَنِّهِ وتخصصه أقاموا الدنيا وأقعدوها، فما لهم يطعنون في صحيح البخاري وهم ليسوا من أهل التخصص؟ لو كان لهؤلاء منهج علمي نقدي للأحاديث التي جمعها البخاري في صحيحه فليتفضلوا به، لكنك لن ترى سوى أفكارًا مريضة وعقولًا جاهلة تنبذ الأحاديث إذا عارضت مضامينها مسلك وليّ الأمر ووجهته او اذا ما توهمت فيها التعارض، بدون الرجوع إلى المختصين من أهل العلم. وكيف يُتهم صحيح البخاري بأنه مصنعٌ لإنتاج التطرف وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا). وروى (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا). وروى (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ).
وكالعادة نقول أن من أمن العقوبة أساء الأدب، فلو كان للسنة سلطة تحميها لما تجرأ رويبضة اعتاد تفصيل الفتاوى والأحكام على مقاس مزاج النظام الحاكم وتوجّهاته باسم طاعة وليّ الأمر، لما تجرّأ على الهجوم عليها ومحاولة النيل منها، بل أكثرهم في ذلك الجرم شركاء ودعاة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(المصدر: هوية بريس)