مقالاتمقالات مختارة

لنقرأ التاريخ بمنهجية علمية صحيحة (2-3)

لنقرأ التاريخ بمنهجية علمية صحيحة (2-3)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

إننا نرتكب أخطاء جسيمة بحق تاريخنا، وربما نقع في مظالم كبيرة حينما نقرأ التاريخ قراءة ناقصة، ثم نتجرّأ بذلك على إصدار الأحكام «الغيابية» بحق التاريخ وبحق من صنع التاريخ، وقد نحرم أنفسنا أيضاً من الدروس التي يمكن أن نستنبطها بأمانة وموضوعية.
تشيع اليوم ظاهرة الاستشهادات التاريخية المقطوعة والمبتورة، فهناك من تقع عينه على رواية ما فيطير بها وكأنه عثر على كنز، هذا إذا كانت توافق مزاجه، والأخطر من ذلك والأظلم إذا كان حتى في هذه الرواية المفردة أو الجزئية لا يأخذ بشروط التحقيق والأمانة العلمية، وعلى سبيل المثال؛ قرأت لأحدهم استشهاده على فكرة يسوّق لها بحديث في الترمذي، مثبتاً في الهامش الجزء والصفحة والطبعة، فلمّا ذهبت إلى هذه الصفحة وجدت الإمام الترمذي يقول في هذا الحديث: حديث منكر!! فهذه -لا شك- خيانة علمية، واستغفال للقرّاء الذين لا يعرفون منهج الترمذي في التأليف والحكم على الروايات، وأنه حينما يروي الرواية يعقّب عليها فيقول مثلاً: هذا حديث صحيح، أو حسن، أو منكر.
إن انتقاء الرواية الواحدة حتى لو كانت صحيحة، والاكتفاء بها عن بقيّة الروايات، يقود إلى نتائج خاطئة، وأحكام ظالمة، فكيف بمن يبتر الرواية نفسها، أو يختار الرواية الأضعف، ويهمل الروايات الصحيحة!
هناك من يكتب: رواه البخاري، فيظن القارئ أن الرواية في صحيح البخاري، ولكنّك تكتشف أنها في التاريخ أو التعليقات، ولا أدري إن كان الكاتب يعرف الفرق بين ما يرويه البخاري في الصحيح، وما يرويه في غيره! وقد وجدت من يرفض أو يشكك في رواية البخاري في الصحيح ويقبلها في غيره، وهذا ينم بشكل واضح عن منهجية مغلوطة، أو عن هوى يخرق الأمانة العلمية، ويدلّس على القارئ والمتلقي البسيط.
ومن القراءة الناقصة والمجتزأة أيضاً من يحتج بمقولة أو رأي أو فتوى لأحد الأعلام ويغفل أو يتغافل عن موقف هذا العالم نفسه من فتواه هذه، متراجعاً أو معدلاً أو موضحاً، وهذا شائع وكثير في تاريخنا وتراثنا، فالعلماء والمفكرون يمرّون بمراحل مختلفة من التكوين والتحصيل والنضج العلمي والمعرفي، وهذا واقع بيننا ومشاهد، فكيف يصح أن تنتقي مقولة قيلت في مرحلة معينة لتبني عليها حكماً عامّاً وشاملاً وقاطعاً؟ فالشافعي مثلاً له في الفقه مذهب قديم ومذهب جديد، والأشعري له في علم الكلام كذلك قديم وجديد، وابن تيمية أفتى بفتاوى ثم تراجع عنها، ومن ذلك قوله بحياة الخضر -عليه السلام- ثم رجّح موته، ومن العلماء من يصرّح بأنه قصد بهذه الفتوى أو هذا التوجيه فئة معينة في ظرف معيّن، كما صرّح الغزالي في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام»، وفي شبهة تقديم الغزالي للعقل على النقل، أوضح الغزالي نفسه في كتابه «المستصفى» ما يكفي لدحض هذه الشبهة وزيادة، فهذا كله تجب مراعاته بالنسبة للباحث والناقد، ونحن هنا لا نقلل أبداً من أهمية نقد التاريخ بكل ما فيه، وإنما ندعو إلى التقيّد بقواعد الأمانة العلمية، والتسلّح بالمنهج العلمي الرصين والأمين في النقد والتحليل والاستنتاج.

(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى