مقالاتمقالات مختارة

لمحة عن تاريخ بيت المقدس

بقلم أ. حماد القباج

أول ذكر لبيت المقدس وقفت عليه عند المؤرخين؛ أن الصّابئة (عباد الكواكب) زمن رسول الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ بنوا على صخرة ضخمة بذلك المكان: هيكلا لكوكب الزّهرة؛ وكانوا يقرّبون إليه الزّيت فيما يقرّبونه؛ يصبّونه على تلك الصّخرة.

وقد عارض النبي إبراهيم عليه السّلام هذا الشرك؛ واستنكر على الصابئة عبادتهم للكواكب:

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 75 – 81].

وهكذا بيّن سيدنا إبراهيم لقومه الخطأ في دينهم، وأرشدهم إلى أن الكواكب –ومنها: الزهرة-؛ لا يصح أن يكون واحدا منها إلها، لقيام الدليل على حدوثها؛ وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده.

ثمّ اندثر هيكل كوكب الزهرة.

وفي زمان رسول الله موسى صلوات الله عليه؛ خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله؛ فحصل منهم ما حصل من التلكؤ والاعتراض؛ فعوقبوا بالتيه في سيناء ..

وفي مدة وجودهم بأرض التّيه؛ تذكر التّوراة أن الله تعالى أمر موسى باتّخاذ قبّة من خشب السّنط -عيّن بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها-؛ وأن يكون فيها التّابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها ..

فصنع القبّة ووضع فيها التابوت؛ وهو صندوق كانت فيه عصا نبي الله موسى وشيء من ثيابه، والألواح التي قال الله عنها: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]

والتابوت سمي أولا: تابوت الشهادة؛ أي: شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الرب وتابوت الله؛ كما يضاف إلى الله تعالى كل شيء صنع للعبادة.

وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248]

وهو معروف في كتب اليهود؛ ففي أول الفصل 25 من سفر الخروج ما نصه:

“.. فيصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. وتغشيه بذهب نقي، من داخل وخارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه، وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع، على جانبه الواحد حلقتان وعلى جانبه الثاني حلقتان، وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب، وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما”.

وهكذا نصب بنو إسرائيل تلك القبّة بين خيامهم في التّيه؛ يصلّون إليها ويتقرّبون في المذبح أمامها، ويتعرّضون للوحي عندها.

ثم توفي موسى وساسهم بعده نبي الله يوشع عليه السّلام.

قال المؤرخون: “ولمّا توفي يوشع نقلوا القبة إلى بلد (شيلو) قريبا من (كلكال)، وأداروا عليها الحيطان.

وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم، وتغلبوا عليهم، ثمّ ردّوا عليهم القبّة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف.

ثمّ نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين.

ولمّا ملك نبي الله داود عليه السّلام نقل القبة والتّابوت إلى بيت المقدس؛ وجعل عليها خباء خاصّا ووضعها على الصّخرة؛ وبقيت تلك القبّة قبلتهم ووضعوها على الصّخرة ببيت المقدس.

وهكذا اتّخذ بنو إسرائيل الصخرة؛ قبلة لصلاتهم.

بناء المسجد الأقصى:

يذكر المؤرخون أن داود عليه السّلام أراد بناء مسجد على الصّخرة مكانها؛ فلم يتمّ له ذلك، وعهد به إلى ابنه سليمان؛ فبناه بعد أربع سنين من توليه الملك، بعد حوالي خمسمائة سنة على وفاة موسى عليه السّلام.

قال ابن خلدون: “واتّخذ عمده من الصّفر، وجعل به صرح الزّجاج، وغشّى أبوابه وحيطانه بالذّهب، وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذّهب، وجعل في ظهره قبرا ليضع فيه تابوت العهد؛ وهو التّابوت الّذي فيه الألواح.

وجاء به من صهيون بلد أبيه داود؛ نقله إليها أيّام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتيّة حتّى وضعه في القبر؛ ووضعت القبّة والأوعية والمذبح كلّ واحد حيث أعدّ له من المسجد.

وأقام كذلك ما شاء الله.

ثمّ خرّبه (بخت نصّر) بعد ثمانمائة سنة من بنائه، وأحرق التّوراة والعصا، وصاغ الهياكل ونثر الأحجار”اهـ.

ثمّ لمّا أعاد ملوك الفرس بني إسرائيل إلى بيت المقدس؛ أعاد النبيّ عزير بناء المسجد الأقصى، بإعانة (بهمن) ملك الفرس الّذي حدّ لبني إسرائيل في بنيانه حدودا دون بناء سليمان بن داود عليهما السّلام؛ فلم يتجاوزوها.

ثمّ تداولتهم ملوك يونان والفرس والرّوم.

ثم استفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدّة، ثمّ لبني حشمناي من كهنتهم، ثمّ لصهرهم هيرودوس ولبنيه من بعده.

وأعاد الملك اليهودي هيرودوس بناء بيت المقدس على بناء سليمان عليه السّلام وتأنّق فيه.

وفي عهده ولد سيدنا عيسى عليه السّلام ببيت لحم.

ويذكر المؤرخون أن الحاكم الروماني بيلاطس البنطي حكم –بضغط من اليهود- بصلب المسيح على الصخرة، ورموا بخشبته على الأرض وألقوا عليها القمامات والقاذورات.

فاستخرج قساوسة النصارى الخشبة وبنوا مكان تلك القمامات كنيسة القيامة[1]؛ كأنّها على قبره.

وهرّبوا ما وجدوا من عمارة البيت، وأمروا بطرح الزّبل والقمامات على الصّخرة حتّى غطّاها وخفي مكانها؛ جزاء بزعمهم لما فعلوه بقبر المسيح.

قال ابن خلدون: “وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصّخرة فأري مكانها وقد علاها الزّبل والتّراب؛ فكشف عنها وبنى عليها مسجدا على طريق البداوة وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أمّ الكتاب في فضله حسبما ثبت.

ثمّ احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال؛ كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وفي مسجد دمشق.

وكانت العرب تسمّيه بلاط الوليد؛ وألزم ملك الرّوم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمّقوها بالفسيفساء؛ فأطاع لذلك وتمّ بناؤها على ما اقترحه.

ثمّ لمّا ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديّين خلفاء القاهر من الشّيعة واختلّ أمرهم؛ زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامّة ثغور الشّام وبنوا على الصّخرة المقدّسة منه كنيسة كانوا يعظّمونها ويفتخرون ببنائها.

حتّى إذا استقلّ صلاح الدّين بن أيّوب الكرديّ بملك مصر والشّام ومحا أثر العبيديّين وبدعهم؛ زحف إلى الشّام وجاهد من كان به من الفرنجة حتّى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشّام؛ وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة، وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصّخرة وبنى المسجد على النّحو الّذي هو عليه اليوم لهذا العهد.

ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أوّل بيت وضع فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس».

قيل: فكم بينهما؟

قال: «أربعون سنة».

فإنّ المدّة بين بناء مكّة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان؛ وهي يزيد على الألف بكثير.

واعلم أنّ المراد بالوضع في الحديث ليس البناء؛ وإنّما المراد أوّل بيت عيّن للعبادة.

ولا يبعد أن يكون بيت المقدس عيّن للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدّة؛ وقد نقل أنّ الصّابئة بنوا على الصّخرة هيكل الزّهرة فلعلّ ذلك أنّها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهليّة تضع الأصنام والتّماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها.

والصّابئة الّذين بنوا هيكل الزّهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السّلام فلا تبعد مدّة الأربعين سنة بين وضع مكّة للعبادة ووضع بيت المقدس؛ وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف، وأنّ أوّل من بنى بيت المقدس سليمان عليه السّلام؛ فتفهّمه ففيه حلّ هذا الإشكال”[2].

[1]  كنيسة القيامة: كنيسة داخل أسوار البلدة القديمة في القدس.

بنيت فوق الجلجلة أو الجلجثة وهي مكان الصخرة التي يعتقدون أن المسيح صلب عليها.

وتعتبر أقدس الكنائس المسيحية والأكثر أهمية في العالم المسيحي، وتحتوي الكنيسة وفق معتقدات المسيحيين على المكان الذي دفن فيه المسيح واسمه القبر المقدس.

سُمّيت كنيسة القيامة بهذا الاسم نسبة إلى قيامة يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث من الأحداث التي أدت إلى موته على الصليب، بحسب العقيدة النصرانية.

[2]  تاريخ ابن خلدون (1/ 444).

(المصدر: موقع أ. حماد القباج)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى