مقالاتمقالات مختارة

لماذا يختلف الإسلاميون؟

لماذا يختلف الإسلاميون؟

بقلم محمد جلال القصاص

يكثر الحديث عن اختلاف الإسلاميين، وغالب الكتابات تتجه لرصد مظاهر الخلاف وأثره على الحالة الإسلامية والمجتمع، وأريد أن أدخل لظاهرة الاختلاف من بابٍ آخر وهو إلقاء الضوء، بشكل مختصر يتناسب مع مقال، على ما أراه مهمًا من أسباب الخلاف، وبيان بعض إيجابيات الخلاف في هذا التوقيت!؛ وأعرض ما عندي في نقاط محددة، على النحو التالي:

أولًا: الإسلاميون أقل اختلافًا من غيرهم

سواءً في فهم النص التأسيسي (الكتاب والسنة)، أو في مظاهر التواجد في أرض الواقع. وإن كنت في شك من هذا فارقب عدد الاشتراكيين- مثلًا- في أي بلد، وإن كانت دولة صغيرة كلبنان، وانظر كيف أنهم مفتتون إلى تكتلات شديدة الصغر، مع اعتبار قلة عددهم وقرب عهدهم بالنص المؤسس (كتابات ماركس وانجلز)، وأنهم لا يتعرضون لما يتعرض له الإسلاميون من تحديات خارجية طاحنة. والليبراليون مثلهم لا يتجمعون إلا حول مغنم أو بعامل خارجي يرغبهم أو يرهبهم، ولا تكاد تجد اثنين منهم على رأي واحد.

حتى الفلاسفة، الذين يدعون العقلانية والتفكير وينتسبون للحقيقة لا تجد منهم اثنين على رأي واحد! كلهم مختلفون.. حالة من التيه والتخبط. والذين ينتسبون للظواهر الطبيعية (الملحدون تحديدًا)، التي يصفونها بالوضوح والصرامة يتقافزون بين الأضداد في حالة انفلات قيمي. تتبدل نظرياتهم تبعًا لتطور أدوات البحث في العلوم الطبيعية؛ ناهيك عن اختلاف النصارى فيما بينهم إلى مئات الملل التي يكفر بعضها بعضًا!

وشيء آخر لصالح الإسلاميين هو أن إطار الاختلاف عند الإسلاميين ضيق بمعنى أنهم كتلة واحدة وبينهم بعض الاختلافات، ومن شواهد ذلك اشتباه أمرهم على غيرهم، حيث أن غير الإسلاميين يضعونهم في بوتقة واحدة.. كأنهم فصيل واحد ولا يعرف التفاصيل إلا المختصون أو المهتمون. وشيء ثالث: هو أن الإسلاميين يتطورون في اتجاه ترابطي لا في اتجاه مزيدٍ من التفتت ويتضح هذا الأمر في ظهور فكرة الأمة مرة ثانية بعد أن كانت الجماعة وبعد أن كانت القيادة الفردية. وعلى العكس من ذلك الحالة العلمانية التي من أبرز سماتها التشرذم والتفتت باستمرار.

ثانيًا: براءة الجهل من الاختلاف

يقول الله تعالى ذكره: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُم) (البقرة:213). في الآية الكريمة جملتان: الأولى خبرية تبين أن الخلاف جاء بعد أن علموا، والثانية تعليلية تبين أن سبب الخلاف هو البغي، الإحن التي في الصدور لا الجهل الذي في العقول. وتكرر هذا المعنى في كتاب الله أكثر من مرة، ومما يؤيده أن الله –سبحانه وتعالى ذكره- قدم الفرقة على الاختلاف في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105). ولعلَّ السر في ذلك هو التنبيه على أن النية مبيتة للفرقة بدايةً وأن الاختلاف جاء مسوغًا لذلك.

ثالثًا: الإمكانات الخاصة، والنظرة الأحادية، والإصرار على الحسم

هذه ثلاثية مترابطة، فبالنظر في مظاهر تواجد الإسلاميين نجد أن المحدد الأساسي لهذه المظاهر هو إمكانيات الأفراد، هذا محب للعلم فيتجه للسلفية العلمية، وهذا محب للعمل المسلح فيتجه للقتال، وهذا محب للعمل الخيري فيتجه للعمل الاجتماعي.. وهكذا. وتؤدي الإمكانات الخاصة في الغالب إلى أحادية النظرة، فكل واحد يرى ما يقدر عليه- أو ما يحبه، أو ما فيه مصلحته الشخصية- هو المناسب لنصرة الدين.

نعم: من أهم أسباب تعدد مظاهر التواجد في المجتمع الإمكانات الخاصة للأفراد؛ وفائدة رصد هذا السبب الرئيسي هو الانتباه إلى أنه يمكن للتكتلات الإسلامية الموجودة حاليًا في هيئة أنساق مغلقة أن تتجه لنوع تخصص، بحيث إن تخلت عن الأنساق المغلقة (التحزب/ الجماعات) تتجه بسهولة للتخصصية أو الظواهر الاجتماعية المتخصصة، والتي أرى أنها المخرج من هذا كله، ويأتي تفصيل في مقالات قادمة إن شاء الله.

اختلاف الإسلاميين فائدة، هي أنها تعطيهم فرصة للتمدد أفقيًا، فلو أنهم نسيج واحد منذ بدأت الصحوة لسار إليها المخالف واشتد البلاء على الطليعة، ولكن تفرقها أعطاها مساحة للتمدد

يتولد من النظرة الأحادية، والتي سببها الإمكانات الخاصة وضيق الأفق، الدخول في النسق المغلق (الجماعات/ الأحزاب/ تكتلات حول الشيخ أو المسجد)، ويرى كل نسق أن نصرة الدين تبدأ من تمكن نسقه هو، أو فكرته هو. وليس هذا فقط بل يجتهد في الاستيلاء على الذين من حوله؛ فالأنساق المغلقة لا ترى إلا اللذين يجاورونها في الغالب، ربما لقرب المكان وقرب الاهتمامات، وتظن أن سبب العرقلة هم إخوانها الذين من حولها، بخلاف الظواهر المتخصصة فإنها تتعاون فيما بينها، ولا يدفع بعضها بعضًا، بل يدل بعضها على بعض ويتعاون معه ويستدعيه في كثيرٍ من الحالات.

رابعًا: يحمل وزر الخلاف بدرجة كبيرة المنظومة العلمانية التي تسيطر على المجتمعات المسلمة

حيث أن هذه المنظومة تقوم على مبدأ الصراع (وقد تناولت هذا من قبل عدة مرات)، فالعلمانية بطبيعتها تصنع مجتمعًا متصارعًا.. تقسم المجتمع عمدًا إلى كتلٍ متصارعة، تقسم الناس إلى شيع (مجموعات صغيرة متشايعة/ مترابطة)، فهي من ناحية ترعى الأنساق المغلقة، ومن ناحية أخرى تقاومة من يتضخم منها حتى ترجعه إلى كتلة صغيرة تنافس من حولها من إخوانها.

تبقى شيء وهو أن في اختلاف الإسلاميين فائدة، هي أنها تعطيهم فرصة للتمدد أفقيًا، فلو أنهم نسيج واحد منذ بدأت الصحوة لسار إليها المخالف واشتد البلاء على الطليعة، ولكن تفرقها أعطاها مساحة للتمدد كونها أنساق مغلقة، والسؤال الذي يجب على الجميع البحث عن إجابة له كيف يمكن تحويل الأنساق المغلة إلى شيء يفيد الأمة.. إلى شيء يرحم الله به الناس؟!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى