بقلم مهنا الحبيل
في إحدى أهم جلسات الحوار الشيوعي المسيحي في سالزبورغ عام 1965، قاد روجيه جارودي مرافعاتها الحوارية كقيادي بارز في الحركة الماركسية بأوروبا، قبل أن يُفصل من الحزب الشيوعي الفرنسي لانتقاده المتكرر لتطرف شيوعية الاتحاد السوفياتي.
طُرحت حينها ورقة الحب في المسيحية والإنسانية في الشيوعية، وكانت هناك جهود للكاثوليك ذوي النزعة الليبرالية للوصول إلى صيغة توافق مع اليسار الشيوعي، الذي تؤكد مراجعات التاريخ المعاصر صعود تياراته بأوروبا في الستينيات وأنها مرّت بعدة مراحل.
توحي هذه التجربة أيضاً بإشكالية الصراع مع الدين الروحي والإيمان بالخالق التي حاصرت فلسفيا واجتماعيا الفكرة الشيوعية، وهو حصار دفع الحزب الشيوعي الإيطالي -في ذلك الحين- إلى إقرار مادة في دستوره الثقافي تعتبر انتساب أي عضو منه إلى دين سماوي أمرا مشروعا ومحترما، وهي قضية أشبه ما تكون بالردة الفكرية المرفوضة لدى الماركسية العلمية. ووسط هذه المراجعات المشتركة انتهت جولات الحوار المسيحي الشيوعي إلى ما أُسمي بتسويات تاريخية، فلماذا هذا المصطلح؟
تبزر هنا قضية مفصلية مهمة لبحثنا، فهي تسويات تاريخية باعتبار أن مضامين الفكرة الأيديولوجية لكلا الطرفين -حين تُنزّل كمفاهيم فكرية للواقع الاجتماعي الغربي لدعم حركة صناعة الدولة المدنية والتعايش الدستوري والحريات الفكرية والفردية- تحتاج إلى تسويات لا استنتاجات مشتركة للقيم الأصلية بين الشيوعية والمسيحية الكاثوليكية، أي تسويات إزالة لمفاهيم أصلية.
“كان روح التدين المسيحي لدى جارودي من طرف والدته وروح الإلحاد عند أبيه يدفعانه لهذا البحث الذي اعتبر وصوله لهذه التسويات التاريخية إنجازاً لأوروبا، لكن إشكالية الفكرة -التي كانت تكمن في سؤال: أين تنسجم معادلة الاستقرار الروحي والعدالة الاجتماعية؟- ظلت تتفاعل حواريا في فكر جارودي”.
وبالفعل انكب على فهم الإسلام والتعمق فيه واعتنقه بقناعة راسخة، ولم يتحوّل إسلام جارودي -الذي شكّل ضجة إعلامية وثقافية كبيرة- إلى مواسم احتفالية يُستثمر فيها إسلامه، وتستثمره سلطة الواقع السياسي والديني في الوطن العربي حينها.
فقد رفض دعوة الزعيم الليبي معمّر القذافي لاستثمار إسلامه الجديد مما كان سيفتح عليه أبواب ثروة كبرى، ثم رفض الرضوخ لهجوم من مشايخ متنفذين لإعادة تقديم إسلامه بحسب أطروحتهم المذهبية، وتمسك بأفقه الفلسفي والصوفي وقراءته الفكرية للإسلام، وانزوى بعد هجومهم إلى التفرغ الفكري والبحثي وغادر الدنيا بهدوء عام 2012، في غمرة صراع العالم الثالث بين الاستبداد وحركة الربيع العربي، ولم يُسلّط الضوءُ على رحيله.
وساهم في عزلته استهدافُه المنظّم من الحركة الصهيونية، ومقاطعة الإعلام الفرنسي له، ليس لأنه يُنكر أصل المحرقة ولكن لأنه كان -منذ شيوعيته- أحد أعلام الفكر الغربي اليساري الذي يفكك معادلة الصهيونية بوصفها جريمة حرب نُفذت على أهل فلسطين، لا حقا إنسانيا مطلقا لليهود، ولا يجوز أن تعوضهم أوروبا المسيحية -بعد إبادتها لهم- بنزع شعب فلسطين من أرضه لأجلهم.
تمسّك جارودي بمعادلته الفكرية في الدين والحياة حتى رحيله، وهي أن العدالة الاجتماعية التي فهمها في اليسار الديمقراطي قيمة أصلية ومادة رئيسية في الإسلام (لا تحتاج إلى تسوية تاريخية)، هنا يقودنا البحث إلى حشدٍ واسع لأسماء كبيرة وشخصيات علمية ثقافية واسعة في ذروة العلوم الطبيعية والفكر والمعرفة اختارت الإسلام.
وهو اختيار في حالتهم لا يمثل مساحة إرضاء للتولّه الروحي فقط، الذي يمارسه -على سبيل المثال- بعض علماء الفضاء أو الفيزياء من المسيحيين وغيرهم من ديانات أخرى، ولكنه هنا حالة سكينة وتعبد روحي متداخلة كلياً مع قضية الإيمان المعرفي.
ولا تزال هذه الظاهرة مستمرة، ولا يزال التدفق فيها قائما، وقضية الاحتجاج بنجاح التبشير المسيحي بتحويل المسلمين إلى مسيحيين ليس هنا مكان طرحها كمقابل لدخول غير المسلمين في الإسلام، من تيارات البشر المختلفة.
فهذا المقال يبحث عن سر نجاح الفكرة الإسلامية في معقل التدوير الفلسفي والفكري وأسئلة الوجود الإنساني، ومعادلتها التاريخية بين الإنسان والمادة، العدالة والقيم، وهناك تحفظ اعتراضي أيضا يرد على هذا المقال، وسؤال: أي إسلام تقصد؟
هل هو التطفيف الطائفي الذي مارسته الجمهورية الإيرانية لمذهبيتها الشيعية وإخراج السُنة إليها، أو طائفية سنية تعتبر تبشيرها لتحويل المسلمين إلى مذهبها، وكأنه إدخال للمسلمين من جديد في الإسلام بتحويلهم مذهبيا لهذا الطرف أو ذاك، فهنا لسنا في صدد اعتماد هذين النموذجين أصلاً كخطاب إسلامي رشيد له مادته المستقلة وتجربته التاريخية، فضلا عن الإجابة على انحرافات وكوارث الطائفية.
لقد بقيت مركزية الاعتراض على صلاحية الفكر الإسلامي الأصلي مستمرة، بين حركة الاستشراق وبين منتجاتها داخل البيئة العلمانية العربية، وتحديداً الحالة المتطرفة، وليس المقصود كل اتجاهات العلمانية العربية، ولا كل منتجات الاستشراق الغربي الذي ساهم بعضه في استكشاف معادلة التكامل الإنساني في الاسلام، وبعضه في دعم حوار الحضارات بين الغرب والإسلام.
لكن السؤال هو: هل الموقف الأوّلي من رفض هذه الفكرة ومطالبتها بالقيام بتسويات تاريخية -وهو طلب يجمع بين البيت الأبيض والحالة العلمانية العربية والاستبداد- استوفى فهم الفكرة؟
ولعلنا هنا نشير إلى سؤال آخر: هل كان المقصدَ الاستيفاءُ لهذه الفكرة أم مجادلتها لتحويل النظر عن حصار جغرافيتها الشرس الذي عاشه المشرق الإسلامي منذ نهاية القرون الوسطى وحتى احتلال العراق، وفشل المسلمين الذاتي في صناعة مشروع الممانعة السياسي لردعه؟
إن مصطلح إدوارد سعيد “الشريعة الاستشراقية” يُضيف لنا بعداً مهماً في هذا السياق، وليست القضية في الهروب من أسئلة التاريخ والفكر والحريات المدنية لدى المسلمين، وإنما هنا البحث الموضوعي المجرد، إنه من غير المعقول إلغاء كل تلك الصورة النمطية منذ التاريخ القديم للمسلمين وحتى حركة التبشير بميلاد الدولة اليهودية، والتي قَدمت (لعشاق الحرية عبر (إسرائيل الديمقراطية) والعرب (المسلمين) الأشرار الكليانيين الإرهابيين).
إن سيادة فكرة الشرق المتخلف الإرهابي قديما في عقلية الاستشراق الغربي وكل ما يتقاطع معه، إضافة إلى سياسات الغرب الجديدة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ساهمت في تعزيز هذه الصورة النمطية، وهذا لا يُلغي أبداً كوارث جرت في تاريخ المسلمين وواقعهم، لكنه أيضا مؤشر مهم لتأثير المستقر الوجداني في التناول الفكري المقارن مع الفكرة الإسلامية.
حيث لم تشهد حوارات الفكر الإنساني مثل هذا الحوار، وكل ما جرى هو مساءلة دائمة ومكثفة للإسلام في زوايا ضيقة، عن دور فهم النص الديني في أعمال العنف، والتي لم يجرِ لها شبيه لكثافتها حتى مع النازية والفاشية والإمبريالية الأميركية، وزاد من كارثة غياب العمق والسرد الموضوعي، أن غالبية الحركة العلمانية العربية أخذت ذات الشريعة الاستشراقية بالتسليم، وانتقت من نماذج التخلف والعنف الذي عاشه الشرق دلالة عليها.
بل إن المتابع يفاجَأ حين يلحظ أن جملة من المفكرين العلمانيين العرب، تَسقط من ذهنهم بديهيات أساسية لحركة الحضارة الإسلامية، ويعيدون جلد الفكرة الإسلامية والتبرم منها، وكأنما قلدوا نصوص شريعة الاستشراق، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء القراءة المستقلة عن الإسلاميين الحزبيين والغربيين الاستشراقيين، ليفقهوا هذه الفكرة من أصولها.
بعد تحرير هذه المسألة المهمة نصل إلى سياق التخلف الذاتي لدى المسلمين، ولماذا هُزمت أرضهم وأقطارهم وواقعهم السياسي الاجتماعي، والجواب عنه بموضوعية هو في ثلاثة محاور رئيسية:
1- حوار الفكرة هنا ليس من خلال المناظرة الدينية بل المراجعة الفلسفية الاجتماعية، أين أُعطيت الفكرة الإسلامية هذه المساحة لاستخلاص رسائلها المدنية والدستورية؟ ولماذا لا تحتاج إلى تسويات تاريخية؟ وهل تملك بالفعل ثروة اجتهاد مقاصدية ونظرات عقلية لتحقيق هذا المنتج؟
هل هذا المسار تحديداً موجود لدى المسيحية العالمية، واليهودية الإقليمية، والديانات الأخرى، والحركتين الوجودية والماركسية، أم إنه بالفعل خاص بالإسلام؟
2- هل جدل الحوار الفلسفي الاجتماعي للوصول إلى فكر النهضة والتقدم الإنساني، ومشتركات البحث بين الأمم، مسؤوليته أن يأخذ مقتطعات من التراث أو نصا مفسراً به، أم إن الحق العام للفلسفات الاجتماعية -التي أَخذت عقوداً من الدراسة وقروناً من المداولة- هو حق للإسلام الذي لا يحتاج لكل تلك الفترة؟
3- هل سياقات البحث الإنساني تبحث عن المخرج، أم أدلة فشل التطبيق؟ وهل فشل نماذج التطبيق تُحال إلى كل من يتخذ الإسلام ليتترس به، أم كبنية اجتماعية أصلية؟ وهل هذا يعني أن الباحث المستقل مهمته أن يبحث عن وجود شواهد تجربة تاريخية تعضد الفكرة، أم يلتقط ما يسقطها لكونه مؤمنا بسقوطها ويبحث عن دليل ذلك فقط؟ هذه محاور سنفصل الإجابة فيها مستقبلا، بعون الله.