لماذا تناهض ماليزيا التطبيع مع إسرائيل؟
بقلم مسلم عمران
شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدا غير مسبوق في الموقف الماليزي المناهض للتطبيع. فبعد أيام من إعلان رئيس الوزراء الماليزي د. مهاتير محمد عن عدم رغبة بلاده في استضافة أي سباحين إسرائيليين في بطولة السباحة الدولية البارالمبية المزمع عقدها في يوليو.
اجتمع المجلس الوزاري الماليزي منتصف شهر يناير وقرر اعتماد موقف رئيس الوزراء بمنع السباحين بالإضافة للامتناع عن استضافة أي بطولات أو مؤتمرات دولية قادمة تشترط مشاركة إسرائيليين. هذا الموقف القوي فسره وزير الرياضة والشباب سيد صادق بقوله: إذا فشلنا في الحفاظ على مصالح اخواننا الفلسطينيين من أجل بطولة رياضية فإننا نكون قد ضيعنا ضميرنا وبوصلتنا الاخلاقية. وعلى مدى الأسابيع التالية تتالت البيانات الرسمية والشعبية الماليزية المؤيدة لقرار الحكومة والمنددة بممارسات الاحتلال العنصرية ضد الفلسطينيين.
لعل الفريد في الموقف الماليزي هو بروزه بهذا الشكل القوي في وقت انزلقت فيه الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية -تحت وطأة الضغوط- نحو متاهات التطبيع مع الاحتلال الصهيوني. فما هو سر الرفض الرسمي والشعبي الماليزي للرضوخ لضغوط التطبيع؟ تتلخص أبرز أسباب الموقف الماليزي الأخير في قوة وحيوية المجتمع المدني الماليزي، وطبيعة شخصية رئيس الوزراء الحالي، بالإضافة لمتانة وتماسك الاقتصاد الماليزي.
فعلى صعيد المجتمع المدني الماليزي، تنشط في ماليزيا عشرات آلاف المنظمات الأهلية في شتى المجالات. وتمثل القضية الفلسطينية إحدى أهم القضايا الجاذبة للحراك الشعبي الماليزي حيث تتولى عشرات المنظمات الحقوقية والإغاثية والدينية أدوارا مهمة في حشد الموقف الشعبي لنصرة القضية الفلسطينية ودعم صمود الفلسطينيين. كما تتواجد أكثر من عشرة منظمات أهلية مختصة في القضية الفلسطينية تضم في عضويتها عشرات الآلاف وتشمل التيارات الأيدولوجية والخلفيات العرقية والدينية الماليزية المختلفة. ولكون نظام الحكم في ماليزيا نظاما ديمقراطيا مفتوحا، فإن هذه المنظمات الأهلية تمثل محركا أساسيا للرأي العام الماليزي تحرص الحكومة والأحزاب السياسية جميعها على استرضاءه والاستجابة لتوجهاته.
وقد ظهر حرص الحكومة على التجاوب مع الحراك الشعبي عند استقبال وزير الخارجية الماليزي سيف الدين عبد الله يوم 16 يناير لوفد من رؤساء وممثلي 43 منظمة مجتمع مدني في مقر الوزارة، حيث قدمت هذه المنظمات برئاسة منظمة المقاطعة الدولية فرع ماليزيا عريضة تطالب برفض استقبال أي إسرائيليين في البلاد. وأعلن الوزير حينها قرار المجلس الوزاري بمقاطعة الاحتلال وأكد على تقدير الحكومة لأهمية مواقف وآراء هذه المنظمات. وعلى مدى الأسابيع التالية، سيرت هذه المنظمات عدة مسيرات وتجمعات مؤيدة لقرار الحكومة طالبت فيها بتوسيع مدى المقاطعة وقيام ماليزيا بدور قيادي بحركة المقاطعة على المستوى الدولي.
يتمتع رئيس الوزراء الماليزي بصلاحيات دستورية واسعة تجعل منه الفاعل السياسي الأهم في البلاد، ويجمع رئيس الوزراء الحالي د. مهاتير محمد بين هذه الصلاحيات الواسعة والخبرة السياسية والادارية العميقة بالإضافة لشخصية كاريزمية استثنائية. فالرجل التسعيني لم يتردد في مواجهة النظام الحاكم مرات عديدة أثناء عمره الطويل، وهو كما يقول للمقربين منه يحب التحدي، ولولا هذه الطبيعة الشخصية لما عاد من استراحة التقاعد إلى قيادة المعارضة وإدارة أكبر تحول سياسي في تاريخ البلاد منذ الاستقلال. ظهرت هذه الطبيعة الصلبة للدكتور مهاتير بشكل واضح في قراره منع الرياضيين الصهاينة في وقت تتزايد فيه زيارات الوفود الرياضية والسياسية الصهيونية للعواصم العربية والاسلامية.
ورغم أن الخارجية الاسرائيلية أشهرت سيف تهمة معاداة السامية في وجه الرجل، إلا أن هذا لم يمنعه من وصف الكيان الصهيوني بالإجرام، وتفصيل الحديث في أكثر من مؤتمر صحفي حول جرائم الاحتلال، ثم نشر مقال مهم بعنوان “دولة التطهير العرقي”. وتوج الدكتور مهاتير مواقفه بإرسال رسالة تحد للاحتلال الصهيوني متمثلة بالمبادرة للاتصال برئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية مؤكدا دعمه للنضال الفلسطيني في هذه المرحلة الحساسة.
يحتل الاقتصاد الماليزي مكانة متقدمة بين الاقتصادات الدولية، فهو واحد من أكبر ثلاثة اقتصادات جنوب شرق أسيوية، وواحد من أكبر 5 اقتصادات في العالم الإسلامي. ورغم تعرض الاقتصاد الماليزي لأزمة كبرى نهاية التسعينات إلا أن عملية اصلاح مؤسسية كبرى قد تمت خلال السنوات التالية عززت من متانة أسس الاقتصاد، فاستمر تعزيز البنية الصناعية كأرضية للاقتصادـ واستمر الانفتاح على الأسواق الدولية وتنويع الشراكات التجارية.
ورغم التحديات الأخيرة التي دخلتها البلاد إثر اخفاق بعض الصناديق السيادية إلا أن الإمكانات البشرية والمؤسساتية الماليزية وحيوية النظام السياسي تؤهل ماليزيا لتتعامل مع هذه التحديات. ولعل ما حدثنا به أحد الوزراء الماليزيين في أحد اللقاءات: “نحن لم نستدن من صندوق النقد الدولي أو أي من الدول الغربية ولسنا مضطرين للرضوخ لضغوط أي منها!” لعل هذا يشير إلى قناعة صانع القرار الماليزي الواثق من متانة اقتصاده وقدرته على مواجهة التحديات.
ورغم خطورة الضغوط الاقتصادية -كما رأينا مؤخرا في الهجمة المالية على تركيا- وحذر صانع القرار الماليزي في إدارة ملفات بلاده الاقتصادية والسياسية إلا أن القيادة الماليزية تبدو واثقة من قدرتها على الحفاظ على البنية الاقتصادية لماليزيا في مواجهة أي تحديات.
وختاما، فقد ساهم الموقف الماليزي المناهض للتطبيع في الارتقاء بزخم الحراك الدولي المناهض للاحتلال في مرحلة حساسة من عمر القضية الفلسطينية. وتزيد أهمية هذا الموقف لكونه يأتي في مرحلة أفلحت فيها ضغوط الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في تطويع العديد من الدول العربية والإسلامية لموجة التطبيع الأخيرة. الخطوة القادمة المأمولة هي أن تتعاضد الدول العربية والإسلامية المختلفة في مواجهة الضغوط لمنع انزلاق أي منها إلى متاهات التطبيع.
رغم خطورة الضغوط الاقتصادية -كما رأينا مؤخرا في الهجمة المالية على تركيا- وحذر صانع القرار الماليزي في إدارة ملفات بلاده الاقتصادية والسياسية إلا أن القيادة الماليزية تبدو واثقة من قدرتها على الحفاظ على البنية الاقتصادية لماليزيا في مواجهة أي تحديات.
(المصدر: مدونات الجزيرة)