مقالاتمقالات مختارة

لماذا تميز “الحكيم” طارق البشري؟

لماذا تميز “الحكيم” طارق البشري؟

بقلم السنوسي محمد السنوسي (*)

لا تخطئ عين المراقب حالة الإجماع والتقدير التي أحاطت رحيل المفكر والمؤرخ والقانوني المستشار الجليل طارق البشري، الذي رحل عنا صباح الجمعة 26 فبراير 2021م، عن 88 عامًا.

ومن يتابع سيرة البشري يدرك أن هذا الإجماع والتقدير ليس غريبًا على الرجل؛ فقد كان يحظى في حياته أيضًا بهذا الإجماع وذلك التقدير.. وقد تجسَّد هذا في وصفه بـ”الحكيم”.

البشري صنع “حالة” من التوافق والجسور المتصلة بين فرقاء الفكر والسياسة، وجسَّد “نموذجًا” فيما يجب أن يكون عليه أبناء الوطن الواحد، وأبناء الأمة الواحدة.. وهذا أمر، مع شدة حاجتنا إليه، ليس سهلاً ولا ميسورًا..!

ومن المؤكد أن “النموذج البِشْري” تقف خلفه عقودٌ من العمل والجد والمثابرة، وتميَّز بعدةِ صفاتٍ خُلقية وفكرية مجتمعة قلَّ أن تتوافر وتجتمع.. حتى حظي بهذا الإجماع والتقدير..

في الأخلاق

ففي الصفات “الخُلقية”، تجسّد في الحكيم البشري: التواضع، ونكران الذات، والزهد، والصدق مع الذات ومع القارئ، والشجاعة في الفكر والموقف.

  • لقد كانت صفة “التواضع” ملحوظة عن الرجل في حياته؛ فكان خفيض الصوت جدًّا إن تحدث في ندوة أو لقاء، مما يحوج سامعه إلى مدِّ الأذن كثيرًا حتى تلتقط الكلمات. وكان البشري يعتذر ابتداءً عن ذلك؛ لافتًا إلى أن عمله بالقضاء جعله يستمع كثيرًا ويتحدث قليلاً، وإذا تحدث فإنما يتحدث بكلمات معدودات ثم يترك التفصيل في “الحُكم” مكتوبًا. وسمعتُه يقول متندرًا: لقد ضعف السمع من كثرة الاستماع، وضعف الصوت من قلة الاستخدام!([1]).

لم يكن البشري ممن يتطلعون للحديث عن نفسه والمباهاة بما أسهمت، بل كان يهرب من “الخاص” إلى “العام”، ويرى أنه واحد من عشرات مضت وستأتي! وحين اضطر لذكر موقف يرتبط بشخصه، بدأ المقال بما يشبه الاعتذار عن الحديث عن النفس فقال: “لم أعتد على أحاديث الذكريات، لأن فيها نوعًا من الاستغراق في الذات، مثل من يطيل النظر في المرآة، وهو سلوك لا أحبه وأجتنبه؛ وحسبي أن أهتم بما يثور من مسائل الحياة العامة وما أستطيع تقديمه للناس من حولي. أكتبُ هذه المقدمة لأنني بصدد أن أقدم للقارئ أمرًا هو من الذكريات الخاصة، وأنا أقدمه لأنه يتناول مسألة عامة أود أن أثير الاهتمام بها، وهي تتعلق بشأن من شئون القضاء المصري وإدارة أموره، وأرجو أن أوفق في عرضها. لقد كانت ثارت معي وكتبت فيها وطالبت بحلها أثناء عملي بمحكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في ربيع سنة 1977″([2]).

  • وفي خُلق “الشجاعة” سجَّلَ الرجل عدة مواقف ضد من يريدون المساس بالقانون([3]).. وراجَعَ خياراته بوضوح في كتاباته حين انتقل من اليسار إلى الهوية الإسلامية([4]). وهنا، أود لفت الانتباه إلى أمرين:

الأول: أن انتقاله من اليسار إلى الهوية الإسلامية، بعد هزيمة 67، كان انتقالاً في دوائر المرجعية الفكرية والسياسية، وليس في إطار الاعتقاد الديني أو السلوك الأخلاقي؛ فالبشري سليل أسرة لها جذور راسخة في العلم الديني، فجده الشيخ سليم البشري أحد شيوخ الأزهر البارزين. ودرَسَ الشريعة بكلية الحقوق، ولم يتزعزع اعتقاده الديني ولم يفارقه سلوكه الأخلاقي. لنستمع إليه وهو يقول عن تجربته: “لم يكن الأمر عدولاً من موقف كامل إلى موقف كامل آخر مغاير، وإنما كان يتعلق باختلاف درجات المزج والاقتران. والعنصرُ العقدي والإيماني موجودٌ وفعَّال؛ ولكن المسألة كانت تتعلق بقَدْرِ أثره في الموقف السياسي والاجتماعي، وقدر فاعليته ودرجة حاكميته بالنسبة لغيره من أفكار وأسس ومطالب”([5]). “العلمانية بالنسبة لي كانت مذهبًا فكريًّا في الفكر الاجتماعي والسياسي؛ إنما الجانب الخلقي والسلوكي لم يتغير لا قبل ولا بعد”([6]).

الثاني: أن البشري ظل ثابتًا على مجموعة خيارات وقضايا، مثَّلت صلب مشروعه الفكري من ناحية، وكانت جسرًا مع مختلف التيارات الفكرية من ناحية أخرى؛ وهي قضايا: الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية.

فحين سُئل، رحمه الله، عن تحولاته وما أخذه عليه البعض من أنه (بدأتَ من مقعد المفكر الوطني وانتهيت إلى مقعد المفكر الإسلاموي؟)، أجاب:

“قلت لك إن ذاتي لا تهمني، ولا يهمني ما أوصف به. العبرة في النهاية بمن يتعامل معي وتقديره لما أكتب. أنا لا أهتم لا بالاسم ولا بالوصف ولا بأي شيء آخر، ولكلٍّ أن يصفني حسب ضميره. مواقفي من: الاستقلال الوطني، عداء الاستعمار، العدالة الاجتماعية، الديموقراطية، لم تتغير؛ لم أحد عنها قيد أنملة، وأرجو أن ألقى الله سبحانه وتعالى، قريبًا، وأنا على هذه المواقف”([7]).

  • وبسبب صدق البشري مع ذاته ومع القارئ، كانت كتاباته لها مذاق خاص، وعَبَرتْ إلى قارئين مختلفي الاتجاهات، وكان لها خط واحد يشدها رغم ما حصل فيها من مراجعات؛ يقول البشري: “عندما أقرأ كتاباتي القديمة لا أشعر بتنافر معها في الحقيقة؛ ربما لأنى كنت صادقًا مع نفسى وأنا أكتبها. بموجب هذا الصدق لم أقل، طوال عمرى، رأيًا وأنا أشعر أن الصواب في غيره”([8]).

في الفكر

أما أهم الصفات “الفكرية”، للمستشار البشري، التي صنعت منه “نموذجًا”؛ فقد رأينا فيه:

  • ثقافة موسوعية تجاوزت التخصص، القانون، إلى الفكر والتاريخ والسياسة والشريعة.
  • مزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، بين الموروث والوافد.. دون جمود ولا تبعية. ولأنه بدأ حياته الفكرية متماشيًا مع الفكر الوافد فإنه كان قديرًا على التفرقة بين الصالح فيه ويمكن اقتباسه والإفادة منه، وبين الطالح مما يجب طرحه والحذر منه.. ولم يكن يغلق أذنيه ولا فكره عن الحكمة أينما وُجدت..
  • عبقرية في الصياغة وقدرة على صك مصطلحاتٍ دالة عميقة؛ مثل: التيار الأساسي، الجماعة الوطنية، الموروث والوافد، التطور المعوَّق، الأصالة المتجددة.
  • طرح القضايا بلغةٍ وصفية غير معبَّأة أو مشحونة.. بحيث لا يحمِّل الحقائق ثقلاً فوق ثقلها؛ فإذا كانت الحقائق ثقيلة على بعض النفوس- مثل النصيحة- فإن استخدمها بألفاظ ما، قد يزيدها ثقلاً، وينقلها لجهة الصراع بدلاً من الحوار.
  • خبرة مكثفة بحركة المجتمع ودولاب الدولة.. وقد ساعده عمله في “مجلس الدولة” على ذلك كثيرًا؛ بجانب أن “الشريعة” و”القانون” يمثلان “ديوان الحياة الاجتماعية” بما فيها من مشكلات وخصومات ومستجدات تتطلب حُكمًا وقضاءً واجتهادًا.

امتزاج المجالات

وهنا، أود التوقف أمام فكره الموسوعي، وكيف أفاده ذلك في تناول الظواهر والقضايا بنظرة شاملة، تراعي مختلف الجوانب، وتمد القضايا لجذورها وأصولها، وبما يساعد على تكوين نظرة استشرافية.

لقد تأسس مشروع البشري على المزج باقتدار بين مجالات الفكر والتاريخ والقانون والشريعة؛ مما أكسبه بصمة مائزة بين مفكري جيله.

  • يقول عن هذا الامتزاج وتلك العلاقة فيما يتصل بـ”التاريخ” و”القانون”: “القاضي كالمؤرخ في أنه يعرف الحادث بعد حصوله، ويتحقق منه من خلال الآخرين، وينظر إليه وهو ليس طرفًا فيه، إنما يحاول معايشته كما لو كان جزءًا منه. وبالمناسبة عندما قرأت مناهج الكتابة في التاريخ وجدت أن تحقيق الوقائع في القانون أشد صرامة منه في كتابة التاريخ؛ وقد أفادني ذلك كثيرًا في القدرة على فرز وتخمين حقيقة ما حدث وما لم يحدث”.

ويتابع: “القضاء ترك فيَّ تأثيرًا كبيرًا جدًّا. لكى تكون قاضيًا من الضروري أن تكون مستقلاً ومحايدًا، ومن أجل أن تكون محايدًا يلزم أن تكون لديك القدرة على إدراك وجهات النظر المختلفة، حتى المتعارضة منها لا بد أن تدركها وتتفهمها وتنظر في آلياتها الذاتية، لكي تستطيع في النهاية أن تحكم”([9]).

  • كما أن دراسته “القانون” أكسبته القدرة على تلمس مواطن العبقرية في “الفقه الإسلامي”، والوقوف على جوانب تميزه وتفرده. وإدراكُه لطبيعة الفقه- من حيث إنها قائمة على التجديد- جعله لا يتوقف كما توقف كثيرون أمام سؤال تجديد الفكر الإسلامي؟ وإنما يتجاوزه إلى سؤال ممارسة هذا التجديد؟ فيقول: “علاقتي بالفقه الشرعي- في عِزِّ ما كنت علمانيًّا- كانت قوية جدًّا، هذا جزء من ثقافتي المهنية، القضاة بحاجة ملحة إلى مناهج التفسير العقلي التي ابتدعها القرآن الكريم، هذا يمنح القاضي القدرة على التجديد، حتى في فهم النصوص الوضعية. مناهج البحث في الفقه الإسلامي أكثر صرامة من مناهج الفكر الغربي. هناك، في الغرب، تلعب إرادة الشارع دورًا رئيسيًّا في توجيه الأمور؛ بمعنى أن الشارع إذا لم يعجبه قانون، فما أسهل أن يغيره؛ لكنك في الفقه الإسلامي أنت مقيَّد بنصوص منزَّلة، لا بد من احترامها والالتزام بها، وإلى ذلك عليك أن تطبقها على واقع متغير، بحيث تحقق صالح الناس وسعادتهم، لأنك في النهاية أنت تحكم للناس. مع الفقه الإسلامي تتعامل مع الواقع المعيش وليس مع الفكر المجرد، وقد أوجد ذلك حاجة إلى مناهج مجددة”.

ويضيف: “اقرأ أحكام محكمة النقض والإدارية العليا، الدستورية، مجلس الدولة، هذه الجهات بالرغم من القانون الوضعي الذي تطبقه، إلا أن تأثرها بالفقه الإسلامي شديد، وهذا ما يجعل التفسير أكثر عمقًا وفهمًا مع الالتزام بالنص. من هنا لم تكن لديَّ مشكلة في الإجابة عن سؤال: هل الفكر الإسلامي قابل للتجديد أم لا. كانت لديَّ قناعة بذلك؛ لأني أعرف إمكانيات هذا الفكر وأعرف مناهجه؛ لكن ما كان يلح عليَّ هو: هل هناك من يمارس هذا الفكر في العصر الحديث؟”([10]).

ملامح “المشروع البِشْري”

نعود لنوجز ملامح “المشروع البِشْري”، فنقول إن عناوين كتب المستشار البشري تعكس أهم هذه الملامح والمحاور، وهي:

– الدعوة والتأصيل لمفهوم “الجماعة الوطنية”: (المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية).

– الانطلاق من الديمقراطية والتحذير من تجاوزها: (الديمقراطية والناصرية. الديمقراطية ونظام 23 يوليو. دراسات في الديمقراطية المصرية).

– الوعي بمسار الحركات السياسية وإنصافها: (الحركة السياسية في مصر 1945- 1952. شخصيات تاريخية).

– الوعي بالمسألة الإسلامية المعاصرة وقضياها: (سلسلة “في المسألة الإسلامية المعاصرة”).

– إزالة التناقض بين الإسلام والعروبة: (بين الإسلام والعروبة. جزآن)

– الدعوة للقواسم المشتركة بين دعاة الوطنية والإسلامية: (بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي).

– الدعوة لحوار إسلامي- علماني: (الحوار الإسلامي العلماني).

– تمتين الوعي بالقانون والشريعة وبأصالة الفقه الإسلامي: (الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون. السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية).

– الدعوة لتيار أساسي يقوم على القواسم المشتركة بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية: (نحو تيار أساسي للأمة).

رحمات الله ورضوانه للمفكر والمؤرخ والقانوني والفقيه المستشار الجليل طارق البشري، وتقبله في الصالحين المجددين..

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) باحث وصحفي.

([1]) يقول البشري عن تأثره بما تتطلبه وظيفة القاضي: “عادات العمل كقاضٍ أن أفكر جيدًا، وأستمع جيدًا، وألا أبدي رأيي إلا بعد أن أستوفي كل هذه الأمور، وأن أزمَّ نفسي عن هذه العادات السريعة حتى يتبلور لي موقف متكامل، وألا تكلم كثيرًا، وأن أستمع وأقرأ كثيرًا.. كل هذه العادات كانت من واجبات المهنة، ولعلها صادفت صفاتٍ ذاتيةً فيَّ تتفق معها أو تتناسب معها؛ فاستطعت أن أستجيب لها بشكل قد يبدو أحيانًا مبالغًا فيه”. انظر: حوارات مع طارق البشري، مدحت ماهر، ص: 65، دار البشير، ط1، 2019م.

([2]) مقاله: قانون السلطة القضائية وتشكيل دوائر المحاكم، موقع “الشروق”، 19 يناير 2013م.

([3]) ذكر الأستاذ فهمي هويدي بعض هذه المواقف في مقاله: طارق البشري، موقع “الشروق”، 31 أكتوبر 2015م.

([4]) سبق أن تناولنا ذلك بشكل مفصل في مقال: بين طارق البشري وعمارة: شهادة فكرية على تحولات القرن العشرين، إسلام أون لاين، 11 فبراير 2018م.

([5]) من المقدمة المهمة للمستشار البشري لكتاب: المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة، د. يحيى جاد، ص: 12، مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، ط1، 2018م.

([6]) حوارات مع طارق البشري، ص: 122.

([7]) من حواره مع البهاء حسين، موقع جريدة “الأهرام”، 9 ديسمبر 2011م.

([8]) حوار الأهرام السابق.

([9]) حوار الأهرام السابق.

([10]) حوار الأهرام السابق.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى