لماذا أمر الله -عزّ وجلّ- المسلمين أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى؟
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
كان أول ذكر لبيت الله الحرام والكعبة المشرفة في سورة البقرة في الجزء الأول من القرآن الكريم، وقد ربط الله سبحانه ذكر بيته بذكر إبراهيم عليه السلام، وذلك للارتباط الوثيق بينهما، فهو الذي أمر ببناء البيت، وتطهيره للطائفين والعاكفين، كما أنه أمر بدعاية الناس للحج وإعلامهم به، فشرفه الله تعالى بأن جعل مقامه مصلى للناس إكراماً له ورفعا لذكره صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
المقامُ في اللغة: بفتح الميم، هو موضع القدمين، من قام يقوم يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه نبي الله إبراهيم الخليل – عليه الصلاة والسّلام – حين ارتفع بناؤه للبيت، وشق عليه تناول الحجارة، فكان يقوم عليه وبين وإسماعيل عليه السلام يناوله الحجارة.
وقام عليه أيضاً للنداء والأذان في الحج في الناس، وفي هذا الحجر المكرّم أثر قدمي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث جعل الله تعالى تحت قدميه من ذلك الحجر في رطوبة الطين، حيث غاصت فيه قدماه ليكون ذلك آية بينة ظاهرة، وهو الحجر الذي يعرفه الناس إلى اليوم عند الكعبة المشرّفة الذين يُصلون عنده ركعتي الطواف، وهذا القول في التعريف بمقام إبراهيم هو القول المصحّح عند جمهور العلماء والمفسّرين المحققين.
وهناك أقوال أخرى في المراد من {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} مروية عن بعض المفسرين المتقدمين، أذكرها – وإن كانت مرجوحة – لاستيفاء القول، فقيل: هو عرفة ومزدلفة والجمار، وقيل: هو الحرم كله، ومما يدل على صحة القول الأول الذي عليه الجمهور: أنّ الله تعالى أمرنا بفعل الصلاة خلف المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ]البقرة:126[، وليس في الصلاة تعلّق بالحرم ولا سائر المواضع التي ذكرت في الأقوال الأخرى. [فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم وذكر تاريخهما وأحكامهما الفقهية وما يتعلق بهما، سائد بكداش، ص102]
وروى أنس بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: وافقت ربي عزَّ وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم خلف المقام، كما في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فَرَمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فجعل المقام بينه وبين البيت، فدل على أن مراد الله تعالى بذكر المقام هو الحجر.
إنّ هذا الاسم في العُرف مُختص بهذا الحجر؛ ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى.
- أ- قيام إبراهيم على المقام للأذان بالحج:
إنّ هذا الحجر المكرّم {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} الذي قام عليه إبراهيم الخليل لبناء البيت، هو نفسه الذي قام عليه حين أمر بالأذان بالحج، ولا مانع من تكرّر صعوده على المقام مرة للبناء، وأخرى للنداء وهو صريح الروايات في ذلك، ففي فتح الباري للحافظ بن حجر رحمه الله تعالى: زاد في حديث عثمان: فلما فرغ إبراهيم من بناء الكعبة، جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم على المقام فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فوقف إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف. [فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، سائد بكداش، ص107]
وروى الفاكهي، بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قام إبراهيم عن الحجر فقال: يا أيّها الناس، كتب عليكم الحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن، ومن كان سبق في علم الله أنه يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك. [أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، الفاكهي، 1/446].
- ب- أثر قدمي إبراهيم الخليل في حجر المقام:
إنَّ من آيات الله البينة الباقية على مرّ الأزمان في حرم الله الآمن أثر قدمي نبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في ذلك الحجر الكريم {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}، وقد جعل الله ذلك معجزة له حين قام عليه، وهو حجر صَلد، فلانَ تحت قدميه حتى أصبح كالطّين وغاصت قدماه فيه، ثم لما رفع قدميه عنه خلق الله فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، وبقي أثرهما طاهراً فيه من ذلك العصر – من حوالي خمسة آلاف سنة – إلى يومنا هذا إلى ما شاء الله.
وقد كان أثر أصابع وأخمص قدميه الشريفتين في الحجر واضحاً إلى زمن الصحابة رضوان الله عليهم: ففي موطأ ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت المقام فيه أصابع إبراهيم وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وأخرج الطبري في تفسيره من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في تفسير قوله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخْلَولَق وانمحى. [فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، سائد بكداش، ص113]
وإنه يظهر من نص أثر سيدنا أنس رضي الله عنه المتقدم في الموطأ أن أثر الأصابع وأخمص القدمين كان ظاهراً، لكن كاد أن ينمحي بسبب مسح الناس للمقام، ولكن لم يذهب الأثر كلية، فمن عاينه عن قرب شديد وأمعن النظر فيه، ظهر له بعض ذلك الأثر كما ذكر هذا مؤرخ مكة في القرن الرابع عشر الشيخ محمد طاهر الكردي رحمه الله حين فتح المقام ونظر فيه.
قال ابن حجر: ولم تزل آثار قدمي إبراهيم عليه السلام حاضرة في المقام معروفة عند أهل الحرم حتى قال أبو طالب – عمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم- في قصيدته المشهورة:
وَمَوْطِئِ إِبْراهيمَ في الصَّخْرِ رَطْبَةً | عَلى قَدَمَيْهِ حافِياً غَيْرَ ناعِلِ.
|
ويظهر من أثر القدمين الشريفتين في المقام أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان حافياً حين رقى المقام كما هو ظاهر أثر قدميه وكما ذكر أبو طالب في قصيدته. [فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، سائد بكداش، ص114]
ويقول الشيخ محمد طاهر الكردي المكي – رحمه الله – بعد فتحه للمقام وإمعان النظر في موضع قدمي إبراهيم الخليل عليه السّلام، وقياسه لذلك: والذي نستنتج من رؤيتنا للقدمين الشريفتين أن طول سيدنا إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، هو كطول الرجل العادي في زماننا – القرن الرابع عشر- لا بالطويل ولا بالقصير.
ولذلك كان نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم يشبه جده إبراهيم عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام، ففي صحيح البخاري قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الإسراء في وصف سيدنا إبراهيم عليه السلام: ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به.
وفي طبقات ابن سعد عند ذكر خبر كفالة عبد المطلب للنبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن سعد: وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب – جد النبي صلّى الله عليه وسلّم- احتفظ به- أي: بالنبي صلّى الله عليه وسلّم – فإنّا لم نرَ قدماً أشبه بالقدم التي في المقام – مقام إبراهيم- منه. [فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، سائد بكداش، ص115]
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم…، للدكتور سائد بكداش.
_______________________________________
المراجع:
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، الفاكهي، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1414ه، 1994م.
- الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام ومعه السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: مجدي بن منصور بن سيد الشورى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2009م.
- فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم وذكر تاريخهما وأحكامهما الفقهية وما يتعلق بهما، سائد بكداش، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, لبنان، 1996م.