مقالاتمقالات مختارة

كيف يعمل الغرب على إعادة إنتاج صراع الحضارات؟

كيف يعمل الغرب على إعادة إنتاج صراع الحضارات؟

بقلم حسن أوريد

الحدود هي الجانب الظاهر في الحروب الحضارية، رسمها الغرب في الغالب، سواء في الفترة الاستعمارية أو بعد الحرب العالمية الأولى، أو أثناء حكم نظام الاتحاد السوفيتي، في الجمهوريات التي كانت تابعة له.

يستعر التوتر في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي منطقة القوقاز، وبلغ ذروته مع الحرب المشتعلة ما بين أذربيجان وأرمينيا، حول إقليم ناقورني قره باخ، الذي يقع منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تحت الاحتلال الأرميني، وكان الإقليم يوجد ضمن ما كان يمثل جمهورية أذربيجان في ظل الحكم السوفييتي، ويعتبر وفق أدبيات الأمم المتحدة احتلالاً.

النزاع الحدودي، اكتسى من منظور أرميني طابعاً دينياً، وسعى الأرمن إلى تعبئة أتباعهم في الدين والعرق حيثما كانوا، وانصاع الأرمن الذين يعيشون في البلدان العربية، في لبنان وسوريا والعراق إلى طرح جمهورية أرمينيا وهبّوا للمحاربة في صفوفها، فضلاً عن الدياسبورا الأرمينية في الولايات المتحدة وأوروبا.

الحدود هي الجانب الظاهر في الحروب الحضارية، رسمها الغرب في الغالب، سواء في الفترة الاستعمارية أو بعد الحرب العالمية الأولى، أو أثناء حكم نظام الاتحاد السوفيتي، في الجمهوريات التي كانت تابعة له.

وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي برزت الخلافات الحدودية، ولم تسلم الجمهوريات المنعتقة من نظام الاتحاد السوفيتي من مناوشات. فرضت الواقعية السياسية قبول الحدود المرسومة من قِبل الآخر. لكن الواقعية لا يمكن أن تجافي مقتضيات العدالة والإنصاف.

كانت نهاية الحرب الباردة مؤشراً على نهاية الحروب الإيديولوجية التي عانت البشرية منها الأمرّين، والتي كانت في أرجاء عدة ساخنة، كما في كوريا وفيتنام وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وقيام أحلاف في أوروبا، كما حلف الناتو، ونظيره السوفيتي حلف وارسو. وكان العالم قبل الحروب الإيديولوجية قد عاني من حروب القوميات والتي أفضت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.

برز مصطلح صراع الحضارات عقب سقوط حائط برلين، من خلال ما نحته صامويل هانتغتن، في مقال نشره في صيف 1993 بمجلة فورين أفيرز، واعتبر فيه أن الصراعات المقبلة ستكون ذات طبيعة حضارية ما بين الغرب والآخرين، وأن الصراعات التي عرفها الغرب من قبل، كانت بمثابة حروب أهلية.

كان صمويل هانتغتن ينطلق ضمنياً من سمو الحضارة الغربية التي تتعرض لتحدي من قِبل المجموعة الحضارية الكونفوشية، والحضارة الإسلامية، وكان مصيباً إلى حد حين قال بأن حدود الإسلام دموية، ولكنه لم يذهب أبعد عن أسباب التوتر الناجمة بالأساس عن رسم اعتباطي للحدود واضطهاد المسلمين.

كان هانتغتن قد ألقى محاضرة في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1992 بعنوان صدام الحضارات بمعهد أمريكان أونتربرايز إنسيتوت حضرها كاتب هذه السطور، وكانت الحرب مستعرة في البوسنة وصور التطهير العرقي تملأ الصحف وشاشات التلفزيون في مشاهد مؤلمة ومقززة، ولم يستدرَّ ذلك من المحاضر أدنى تعاطف، ولم يتحدث المحاضر في المحاضرة إلا عن صدام الغرب والإسلام، وكان هاجسه هو ألا تقوم دولة مسلمة في أوروبا.

من الضروري التذكير بأن مصطلح الحروب الحضارية يعود إلى المفكر المغربي المهدي المنجرة في أعقاب حرب الخليج الثانية، أو عاصفة الصحراء.

كان إحساس من الغبن يسود العالم العربي لتجييش الولايات المتحدة لتحالف دولي، من أجل إزاحة العدوان على الكويت، والسكوت عن اعتداءات فاضحة في أرجاء عدة، وظهر حينها مصطلح الكيل بمكيالين الذي تنهجه القوات الغربية، في التعامل مع الدول غير الغربية، بل بررت الدول الغربية حينها التدخل واعتبرته حقاً، وهو ما أقدمت عليه في إقليم كردستان العراقي، لتقتطعه عملياً عن العراق.

لا يمكن أن نفهم التطرف والتشدد الذي بزغ، إن لم نأخذ بعين الاعتبار سياسة الكيل بمكيالين التي انتهجتها القوات الغربية باسم النظام العالمي الجديد، و لا التلكؤ في حل القضية الفلسطينية، وإغراقها في سلسلة من لقاءات دبلوماسية عديمة الجدوى، أساءت للفلسطينيين أكثر مما أفادتهم، مع تحويل التناقض ما بينهم وسلطة الاحتلال، إلى تناقض ما بين السلطة الفلسطينية وحماس. تفسير ظاهرة التطرف لا يعني البتة تبريرها.

أسبغت أحداث 11 سبتمبر/أيلول الشرعية على صراع الحضارات، وتوزع العالم بين معسكرين أو ما عبر عنه بوش الابن، من أن من ليس معنا، فهو ضدنا.

كانت بعض الأصوات الرومانسية تنادي بحوار الحضارات، وأخرى بتحالفها، لكن حقيقة الأشياء كانت صراعاً حضارياً، كانت المعركة العسكرية جزءاً منه. ولم يتورع قادة غربيون ولا أصحاب الرأي من الإعلان عن سمو الحضارة الغربية، كما فعل الوزير الأول الإيطالي، سيلفيو برلسكوني، أو ما كتبته الصحافية الإيطالية أورليانو فلاشيا في كتابها “الغضب والسعار” والتي صبت جام انتقادها، بل حقدها على المسلمين، واعتبرتهم جرذاناً يريدون أن يحتلوا أوروبا، وليعذرنا القارئ، بأعضائهم التناسلية (استعملت تعبيراً فجاً لا يليق أن ننقله).

وفي ذات المنحى، قدم البابا السابق بنيديكت 16 محاضرة سنة 2007، قال فيها بأن الحضارة الإسلامية لم تقدم شيئاً يذكر للبشرية، وأنها تقوم على العنف، وأن مقتضى لا إكراه في الدين، ظهر حين كان الإسلام ضعيفاً.

بدأت معركة أخرى هي التي تسميها الأدبيات الغربية بمعركة المخيال، وسهرت مراكز البحث الأمريكية خاصة في إعادة التصور في البرامج التعليمية في العالم العربي، ووسائل الإعلام، والخطاب الديني، ووظفت مراكز قريبة من إسرائيل أو من طرحها.

الجانب الآخر من الحرب الحضارية هو الإسلامو فوبيا، أو العداء للإسلام. لفترة كان يجري التحرز والتمييز ما بين الإسلام، والاتجاهات الإسلامية التي تنغمر في قواعد اللعبة الديمقراطية، والاتجاهات الراديكالية، وكان هذا التمييز حذلقة لفظية، أو يدخل في ما يسمى باللائق سياسياً.

لكن بعد أحداث شارلي إيبدو، لسنة 2015، لم يعد أصحاب الرأي في فرنسا يتورعون عن انتقاد الإسلام والمسلمين، جهاراً، باسم قواعد الجمهورية وحرية التعبير، والزعم أن الحضارة الإسلامية والمسلمين عموماً غير قابلين للاندماج في الحضارة الغربية.

في هذا السياق المشحون، يصبح كل ما يؤشر على الهوية الإسلامية، من اسم، أو طريقة عيش، أو أماكن عبادة، أو حجاب أو لحية، مشبوهاً. وبلغ الأمر ذروته في فرنسا بتهجم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ما أسماه بالانفصال الإسلامي. وكان يكفيه الزعم بالدفاع عن قيم الجمهورية دون انتقاد الإسلام، الذي يطرح مشكلاً في العالم حسب قوله. وهل يمكن فصل الإسلام عن واقع المسلمين في الغيتوهات، تحت ظل المكارثية والميز والأبارتيد؟

الحروب سيئة، والحروب الحضارية أسوأها لأن ليس فيها مجال للتسوية، والواقعية مطلوبة لتجاوز مخلفات الماضي، ولكن من خلال قراءة موضوعية للماضي، و مقتضيات العدالة والإنصاف. لكن الغرب متخندق في أحكامه الجاهزة يأبى الحوار.

(المصدر: تي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى