بقلم الشيخ د. سلطان العميري
إذا كان الاستحلال من جنس المفكرات القبلية , كالتكذيب والشك والجحود والنفاق الأكبر وغيرها , فإن العلم بتلك المعاني , والحكم الجازم بقيامها بالمكلف لا بد فيه من التصريح باللسان أو الكتابة باليد , وما عدى ذلك من الطرق لا يوصل بيقين إلى العلم بما في باطن المعين .
ومقتضى هذا الأمر : أن الحكم على معين ما بأنه مستحل لفعل محرم في الشريعة ليس له إلا طريقان : إما أن يصرح بلسانه , فيذكر عن نفسه بأنه مستحل لما حرم الله , أو يكتب بديه ما يدل على ذلك المعنى , فإن لم يتحقق منه واحد من هذين الطريقين , فإنه لا يصح أن يحكم عليه بأنه مستحل للحرام .
وهذا التقرير يقوم على أصل كلي , حاصله : أن دلالة الفعل على ما في القلب ليست دلالة قطعية في كل أحوالها , بل الأصل فيها الدلالة الظنية إلا في حالات نادرة تكون دلالته دلالة قطعية أو مقاربة له .
ويدل على هذا الأصل وعلى أن العلم بالاستحلال القلبي لا يكون بمجرد الفعل الظاهر ثلاثة أمور ظاهرة :
الأمر الأول : موقف العلماء من تارك أركان الإسلام ما عدا الصلاة .
فمن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الزكاة والصيام والحج على قولين , منهم من يحكم بكفر تاركها , ومنهم من لا يحكم عليه بالكفر , ومن المقرر أن خلافهم إنما هو في الترك الكلي , بحيث أن المكلف يبقى حياته كلها لا يزكي ولا يصوم ولا يحج , يقول عبدالسلام ابن تيمية في بيان هذا المعنى :” ومن ترك تهاونا فرض الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج بأن عزم أن لا يفعله أبدا أو أخره إلى عام يغلب على ظنه موته قبله استتيب كالمرتد , فإن أصر قتل حدا , وعنه كفرا”( ), ويقول المرداوي :” قوله (وإن ترك شيئا من العبادات الخمس تهاونا: لم يكفر) . يعني: إذا عزم على أن لا يفعله أبدا: استتيب وجوبا كالمرتد. فإن أصر: لم يكفر، ويقتل حدا، جزم به في الوجيز، وقدمه في المحرر، وغيره، وصححه في النظم، وغيره. وعنه: يكفر إلا بالحج، لا يكفر بتأخيره بحال”( ).
والشاهد من هذا الكلام المنقول أن الفقهاء لم يجعلوا العمل الظاهر , الذي هو الترك الكلي المتضمن لعزم العبد على ترك تلك المباني على الأبد دليلا على الاستحلال القلبي , إذ لو كان دليلا عندهم لحكم بكفره مباشرة , ولم يختلفوا ؛ لأنهم مجمعون على التكفير بالاستحلال القلبي
الأمر الثاني : موقف العلماء من المصر على الذنوب .
أجمع أهل السنة والجماعة أن الإصرار على الكبيرة ليس كفرا , وتقرير هذا المعنى شائع في كتب العقائد والفقه والتفسير وغيرها , يقول أبو الحسن الأشعري :” وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون”( ), ويقول البغوي :” اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر، إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها؛ فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار؛ كما جاء به الحديث؛ بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته”( ), ويقول الشربيني :” الكبيرة لا تصير بالمواظبة كفرا”( ).
وقد عرف العلماء الإصرار بأنه المواظبة على الذنب واستدامة فعله والثبات عليه مع عدم التوبة منه , يقول العز ابن عبدالسلام في حد الإصرار :”إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك”( )يقول المظهري الحنفي :” (الإصرار): الثبات والدوام على المعصية؛ يعني: من عمل معصية ثم استغفر وندم على ذلك خرج عن كونه مُصِرًّا على المعصية؛ لأن المصر هو الذي لم يستغفر ولم يندَم على الذنب”( ) , ويقول ابن الملك الحنفي :”الإصرار: الثبات والدوام على المعصية، يعني: من عمل معصية ثم استغفر فندم على ذلك خرج عن كونه مصرا”( ).
ونبه عدد من العلماء على أن التوبة والندم تنفي الإصرار على الذنب ولو استمر العبد في فعله له , يقول ابن كثير في تفسير وقوله:{ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} “أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه”( ), وقرر قبله ابن جرير المعنى نفسه فقال :” وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: الإصرار الإقامة على الذنب عامدا، أو ترك التوبة منه”( ).
ويدل على أن الإصرار يقتضي العزم على الذنب والثبات عليه وعدم التوبة والاستغفار منه قول النبي صلى اله عليه وسلم :” ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة”( ).
فمع أن الإصرار في الشريعة يتضمن الثبات على الذنب والعزم على فعله إلى الأبد فلم يجعل ذلك دليلا على تكذب العبد للنبي صلى الله عليه وسلم وبرهان على استحلاله للفعل المحرم .
الأمر الثالث : عدم التكفير بالقتل والاقتتال .
من المقرر عن أهل السنة والجماعة أن قتل المسلم والاقتتال معه ليس فعلا موجبا للكفر الأكبر المخرج من الملة , ويدل على هذا أدلة عديدة منها : قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان }[البقرة:178] قوله تعالى : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}[الحجرات:9], وقوله صلى الله عليه وسلم :” إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار » . فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال « إنه كان حريصا على قتل صاحبه”( ).
ومن المعلوم أن القتل والاقتتال من أظهر الأحوال الظاهرة الدالة على الإصرار على الفعل والإقبال عليه والعزم على فعله والقصد إليه والتمسك به والدفاع الشديد عنه , فلو كان الفعل الظاهر يمكن أن يدل على الاستحلال القلبي لكان أولى الأفعال الدالة على ذلك فعل القتل والاقتتال.
فإذا لم تجعل الشريعة ذلك الفعل القوي في دلالته دالا على الاستحلال القلبي فغير من الأفعال الظاهرة من باب أولى .
الأمر الرابع : الإجماع على عدم التكفير بالجور في الحكم
نقل ابن عبدالبر إجماع العلماء على أن من ظلم في حكمه وجار فيه عامدا لا يكفر , حيث يقول :” يقول ابن عبدالبر :”أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به”( ), وهذا الإجماع عام يشمل الظلم الذي يقع فيه القاضي وغيره , ومن المعلوم أن القاضي قد يجور فيكتب كتابا يقرر فيه حكما ظالما أو ينشؤ صكا ينقل فيه ملك مسلم إلى آخر ظلما منه واعتداءا , وكل هذه الصور داخلة ضمن الإجماع الذي نقله ابن عبدالبر .
ومن المعلوم أن كتابة صك يغير فيه حكم الله وينقل فيه الحقوق عن مواضعها أعظم دلالة على مناقضة حكم الله من الأفعال المجردة , فلو كان الفعل الظاهر المجرد يمكن ان يكون دالا على الاستحلال القلبي لبطل ذلك الإجماع .