كيف نحتفل بمولد سيّد الكائنات
بقلم فتحي الشوك
تحتفل العديد من البلدان العربيّة و الإسلامية بالمولد النّبوي الشّريف رسميّا و شعبيّا، تعبيرا عن ابتهاجها بمولد نبيّ الرّحمة و سيّد الكائنات محمّد ابن الله عليه أفضل الصّلوات،فيما تمتنع بلدان أخرى عن ذلك بتعلّة أنّها بدعة تحيط بها الشّبهات، ليطفو على السّطح مجدّدا جدل و نقاش كما في كلّ المناسبات ،في أمّة ممزّقة تزداد تشرذما و انقسامات ،أمّة حتّى في أعيادها المتّفق عليها اختلفت في تحديد المواعيد و الأوقات فكيف بمناسبة اختلف في مشروعيّتها و كانت موضوعا للخلاف و المزايدات؟
والأهمّ من التّساؤل حول جواز تلك الاحتفالات هو كيف تكون خالية من الشّوائب و الخروقات لتقرّبنا إلى الله جلّ و علا و تصلح أحوالنا أفرادا و مجتمعات؟
المعارضون للاحتفاء بالمولد النّبوي الشّريف: يعتقد المعارضون لإحياء ذكرى مولد النّبي صلّى الله عليه و سلّم أنّ تحديد يوم بعينه، هو في حدّ ذاته محلّ اختلاف،للاحتفاء بالمولد النّبوي الشّريف هو بدعة و كلّ بدعة ضلالة ،خصوصا مع ما قد تشوب تلك الاحتفالات من اختلاط و رقص و إنشاد و طبل و مزمار و ممارسات لم يأتها السّلف الصّالح و لم ترد في الآثار.
يعلّل الرّافضون منعهم لإحياء المناسبة بأنّ الرّسول الأكرم لم يفعل ذلك و لم يأمر بذلك و كلّ ما قام به هو صيام يوم الاثنين و هو ما يقومون به متّخذين ذلك سنّة ، ويوضّحون أنّ التّعبير عن الحبّ الصّادق للرّسول يكون بالتّأسّي في أقواله و أعماله و السّير على منهاجه و الدّعوة إلى ذلك. يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: “اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن من شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها(…)فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص”(1)
و يضيف الشّيخ تاج الدين الفاكهاني: “لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنّة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسّكون بآثار المتقدمين”(2)
وقد وافقهما في الرّأي الشّاطبي و ابن الحاج و هو نفس قول شيوخ معاصرين من أبرزهم محمّد بن صالح العثيمين و محمّد بن ابراهيم آل شيخ الّذي قال : “لم يكن الاحتفال بمولد النبي مشروعا ولا معروفا لدى السلف الصالح رضوان الله عليهم ولم يفعلوه مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه ولو كان خيرا ماسبقونا إليه فهم أحق بالخير وأشد محبة للرسول وأبلغ تعظيما له.. فلما كان غير معروف لدى السلف الصالح ولم يفعلوه وهم القرون المفضلة دل على أنه بدعة محدثة”(3)
أمّا الشّيخ محمّد صالح العثيمين فيقول: “إذا كان كذلك فإن من تعظيمه وتوقيره والتأدب معه واتخاذه إماماً ومتبوعاً ألا نتجاوز ما شرعه لنا من العبادات لأن رسول الله توفى ولم يدع لأمته خيراً إلا دلهم عليه وأمرهم به ولا شراً إلا بينه وحذرهم منه وعلى هذا فليس من حقنا ونحن نؤمن به إماماً متبوعاً أن نتقدم بين يديه بالاحتفال بمولده أو بمبعثه، والاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكل هذا من العبادات المقربة إلى الله، فلا يجوز أن نشرع من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله وعليه فالاحتفال به يعتبر من البدعة”(4)، و كذلك كان ٍرأي الشّيخان محمّد ناصر الدّين الألباني و عبد العزيز بن باز.
ارتكز هؤلاء الرّافضون لإحياء المولد النّبوي الشّريف على مبدأ أنّها بدعة و كلّ بدعة ضلالة و كما قال الرّسول صلّى الله عليه و سلّم :” من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ”، خصوصا و أنّ من ابتدعها هم “الرّافضة” خلال فترة حكم الدّولة العبيدية بمصر. يبدو موقف الفريق المعارض متماسكا و متوازنا و مسنودا و يفسّر بحرص السّابقين الصّالحين على صفاء العقيدة و تنقيتها ممّا قد يختلطها من شبهات، غير أنّ ما نشاهده من ترديد المتعالمين للقرائن و التعلّات لمنع الاحتفال بذكرى مولد سيّد الكائنات مع ما نلاحظه من صمتهم بل و مباركتهم لما يأتيه ولّاة الأمر من تجاوزات و خروقات، قد أفقدهم المصداقيّة أسقط موقفهم نفسه في الشّبهات. فالاحتفال بالمولد بدعة و ضلالة أمّا المجون والملاهي الحلال و الخمور الحلال و الاختلاط فيدخل في باب الترفيه ومُجازات ،فطاعة وليّ الأمر من أعظم الطّاعات حتّى و ان بغى ،قتل و عذّب و انتهك الحرمات،حتّى و إن زني على الهواء مباشرة أو مارس اللّواط. أيّ سقوط هذا و أيّ نفاق و أيّ انحطاط؟ سقطت ورقة التّوت و تعرّت حقيقة هؤلاء المتدثّرين زيفا برداء الدّين ،فمحاربتهم للبدع باعتبارها خطرا قد يمسّ العقيدة و الشّرع ما هي إلاّ محاربة للإبداع و الفكر و العقل و الحرّية و للكرامة الإنسانيّة،تلك القيّم الجوهريّة الأساسيّة في الرّسالة المحمّدية . فمحمّد المبعوث رحمة للعالمين ، نبراس الهدى والسّراج المنير ما هو إلاّ المعلّم و القائد لأعظم ثورة قيميّة كونيّة مشروعها قيامة الإنسان.
المجيزون للاحتفاء بالمولد النّبوي الشّريف: يرى أغلب من أجاز الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف أنّها مناسبة للتّعبير عن الابتهاج و الفرحة بميلاد خير الخلق الحبيب الأنور و هي مناسبة لتجديد البيعة و وسيلة للتقرّب إلى الله جلّ و علا. يقول جلال الدّين السّيوطي : “عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف”(5)، وهو نفس قول شيخ الاسلام ابن حجر العسقلاني و الشّيخ الشّهاب أحمد القسطالي (شارح البخاري). و قد توافقت معهم أراء الشّيخين محمّد الطّاهر بن عاشور و محمّد الفاضل بن عاشور و شيوخ الأزهر و شيخ الجامع الأعظم بتونس محمّد الشّاذلي النّيفر الّذي يقول:” وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ «ابْنِ حَجَرٍ» وَ«السّيُوطِيِّ» أَنَّ اللَّـهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا مَحَبَّةَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْنَا تَعْظِيمَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّبِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ يَوْمِ مَوْلِدِهِ بِالاحْتِفَالِ بِهِ بِمَا يُجِيزُهُ الشَّرْعُ الكَرِيمُ(6).
وكذلك كان ذلك رأي العلّامة محمّد سعيد رمضان البوطي -رحمه الله- و الشّيخ العلّامة يوسف القرضاوي الّذي أضاف:” إنما الذي ننكره في هذه الأشياء الاحتفالات التي تخالطها المنكرات، وتخالطها مخالفات شرعية وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان… ولكن إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله، وبشخصية هذا النبي العظيم، وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فأي بدعة في هذا وأية ضلالة؟”(7)
مقاصد الاحتفال إذا هي واضحة بيد أنّ بعض الممارسات قد أفرغته من روحه ليفقد رسالته و معناه،ففي مصر مثلا تحوّلت حلوى المولد و كلّ المظاهر الاحتفالية إلى مجرّد طقوس جوفاء و مناسبة استهلاكية بامتياز ليخرج المحتفل من المولد بلا حمص كما يقول المثل المصري،بل إنّها صارت أداة سياسية ناجعة يعتمدها الحكّام للإلهاء و لتركيز أركان حكمهم مستغلّين تديّن المصريين و حبّهم للنّبي و مستثمرين مناخات الجهل و الفقر،و قد لوحظ ذلك منذ بدء إحياء المناسبة في عهد الفاطميين إلى حدّ يومنا هذا. أمّا في تونس فقد كان الحبيب بورقيبة و من بعده زين العابدين بن علي لا يفوّتان فرصة للاحتفال بمثل هذه المناسبة كما كانا لا يفوّتان فرصة لمحاربة التديّن و مطاردة المتديّنين. و هو نفس ما نستنتجه في بلدان عربيّة و إسلامية أخرى إذ تستغلّ المناسبة في الغالب لتجديد البيعة و الولاء للحاكم عوض أن تكون للمحتفى به. هو التّوظيف السّياسي للدّين بتهميشه و تمييعه و إفراغه من روحه و وظيفته و استغلاله من قبل الحكّم لتخدير و تطويع المحكومين،تماما كما يفعل المعسكر الآخر من المعترضين على إحياء المناسبة ،المتحدّثين باسم الله ،المتعالمين المتفيقهين ،مفتيي البلاط و السّلاطين، الحريصين على الدّين و حارسيه من بدع المحدثين. كيف للمحبّ أن يحتفل بمولد من يحب؟ وسط هذا اللّغط و المشاحنات و المزايدات كيف لمحبّ أن يعبّر عمّا يجيش في صدره و يحتفل بمولد سيّد الكائنات؟ و كيف ينوء بنفسه و يحفظها ممّا قد يحدث من تجاوزات؟ لا يمكن لمحبّ إلاّ أن يحتفل بمولد من يحبّ،لكن كيف لمحبّ أو مدّع لذلك أن لا يسعى لإرضاء من يحبّ؟ و كيف لا تتجلّى فيه بعض صفات المحبوب و كيف لا يكون مثاله الّذي يقتدي به،امتثالا و إتّباعا،سيرا على منهاجه و استحضارا لسيرته العطرة؟ كيف لمن يتلذّذ الثّريد أو حلوى السكّر أن لا يتذوّق حلاوة الصّلاة على النّبي الأنور؟ و كيف لمن يشعل الشّموع في ذكرى مولده أن يتغافل عن مصباحه الّذي بين جنبيه و يتركه مطفأ؟ وكيف لمحتفل بمولده يتناسى تشغيل مولّده؟ هي مناسبة طيّبة لا بدّ من استغلالها على الشّكل الصّحيح و الوجه الأمثل ،حتّى تفيض فينا محبّته وتشرق وتينع و تزهر،قولا و عملا، ظاهرا و باطنا، فتُعدّل و تُنعش و تُحيا النّفوس، و هي استثارة و شحن عسى أن تقدح شرارة يشتعل بها الفانوس ، و اللّبيب من استغلّ تلك الاشراقة ليجعلها أيّاما لا سويعات مادام في العمر بقيّة حتّى الممات، و تلك هي أهمّ الدّروس. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (اللهم صلّ على محمّد طبّ القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها ) اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد بقدر حبّك فيه و زدنا يا مولانا حبّا فيك و فيه. اللهم صلّ على سيّدنا محمّد ما ذكره الذّاكرون الأبرار وصلّ عليه ما تعاقب اللّيل والنّهار وصلّ عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار. د.محمّد فتحي الشّوك12 ربيع الأوّل1441
___________________________________
المراجع: (1) الشيخ ابن تيمية :اقتضاء الصّراط المستقيم ص 295.
(2) تاج الدين الفاكهاني: عمل المولد ص 20/21.
(3)فتاوي محمّد ابراهيم2_3/57.
(4) الشيخ محمّد بن صالح العثيمين:حكم الاحتفال بالمولد ص60.
(5)حسن المقصد في عمل المولد .جلال الدين السيوطي ص4.
(6)محمّد الشاذلي النّيفر : احتفاء و تذكير (صحيفة الرّأي العام التّونسي 19/08/1994.
(7)الاحتفال بمولد النّبي و المناسبات الاسلامية (موقع القرضاوي05/03/2016).