كيف استخدم أعداؤنا الدين كــ “حصان طروادة” للسيطرة علينا
بقلم د. أنس جراب
قد يبدو العنوان مستفزاً للقارئ، إذ كيف يمكن أن يستخدم الدين كحصان طروادة، وهو الذي يسمو بأتباعه فوق كل ما هو دنيوي، وينادي بأن يكون حملته أهل عزة وتمكين، ويحذرهم من موالاة أهل الكفر والنفاق، ويشدد على ضرورة التوحد والتآلف، وكيف يمكن أن يكون جسراً للسيطرة وهو الذي يدعو للجهاد والدفاع عن الأرض والنفس والعرض ورفع الظلم عن المظلومين!
مهلاً عزيزي القارئ،
إنني لا أتكلم عن جانب مبادئ الإسلام وتشريعاته السامية، ولا أتكلم عن صلاحيته لكل زمان ومكان، ولا أقصد أن أشير إلى تناقض فيه أو اختلال؛ فأنا كمسلم مثلك أعتز وأفتخر بانتمائي لهذا الدين، ولا أرى السعادة إلا في التمسك به والاعتصام بحبل الله المتين وسنة نبيه الطاهرة.
وإنما أتكلم عن طريقة فهم الكثيرين له، والتي أوقعتهم في شرك أعدائهم، لتخترق مجتمعاتهم بسبب سوء تقديرهم، وخلل أولوياتهم، والتي سأبيّنها لاحقاً.
ما هو حصان طروادة؟
حصان طروادة هو واحد من الأساليب الحربية التي استخدمها الإغريق ضد أهل طروادة، بعد حصار طويل بقي فيه أهل طروادة صامدين، ولم يتمكن فيه الإغريق من هزيمتهم، فلجؤوا إلى خطة خبيثة للانتصار عليهم.
تقول الأسطورة: إن الإغريق صنعوا حصاناً خشبياً كبيراً، وأوهموا أهل طروادة بأنهم يريدون الصلح، وأنهم قرروا الانسحاب، وطلبوا منهم أن يقبلوا هذا الحصان كعربون صلح، فقبل أهل المدينة ذلك.
وكان الإغريق قد ملؤوا ذلك الحصان الخشبي بالجنود، فلما أدخله أهل طروادة لمدينتهم، احتفلوا برفع الحصار وشربوا حتى الثمالة، فخرج الجنود من الحصان، وعاثوا في المدينة فساداً، حتى انتصر الأغريق عليهم.
ما الرابط بين الأسطورة والدين؟
المغزى العام من الأسطورة السابقة، أن عدوك قد يبتكر أساليب خبيثة، ويوهمك بأنها لمصلحتك، ثم تستنتج أنها فخ، وأن الخسائر الناجمة من هذا الفخ كبيرة قد لا تتمكن من تعويضها، أو أنها قد تكسر ظهرك في معركة أنت تحتاج إلى استجماع كل أشكال القوة في مواجهتها.
إن عدوك قد يبتكر أساليب خبيثة، ويوهمك بأنها لمصلحتك، ثم تستنتج أنها فخ، وأن الخسائر الناجمة من هذا الفخ كبيرة قد لا تتمكن من تعويضها، أو أنها قد تكسر ظهرك في معركة أنت تحتاج إلى استجماع كل أشكال القوة في مواجهتها
إن من أخطر الوسائل في الحرب ليست المواجهة المباشرة -فهذه قد تعزز فيك الشجاعة والصمود- وإنما المكيدة والخداع، وبث السموم والتفرقة ، حتى تأتيك الضربة من منطقة لا تتوقعها، أو تكون أكثر إيلاماً مما تظن.
ولكي أضع النقاط على الحروف، أقول إن العدو استطاع أن يوجد مدخلات عديدة ليدخل إلينا ويسيطر علينا، وفي الوقت نفسه قام بعضنا -عن جهل أو خيانة- بصناعة بعض من تلك المداخل، وأذكر ثلاثة منها:
1- تقسيم المسلمين وتصنيفهم
بتنا اليوم نسمع بالإسلام المعتدل، والإسلام الوسطي، والإسلام المتسامح، والإسلام السياسي، والإسلام الجهادي، والإسلام الحركي، والإسلام الراديكالي، وغيرها من المصطلحات التي لا أرى لها أساساً البتة.
فالإسلام كيان يجمع بين السياسة والجهاد، ويدعو أبناءه للحركة وينبذ الخمول، وإن وصف الإسلام بهذه المصطلحات -وإن قُصدت بها معانٍ محددة- هو واحد من الطرائق التي يدخل بها أعداؤنا إلى صفوفنا.
الإسلام كيان يجمع بين السياسة والجهاد، ويدعو أبناءه للحركة وينبذ الخمول، وإن وصف الإسلام بمصطلحات مثل: (الإسلام المعتدل، السياسي، الجهادي، الراديكالي… إلخ) – وإن قُصدت بها معانٍ محددة – هو واحد من الطرائق التي يدخل بها أعداؤنا إلى صفوفنا
فحينما يقول أحدهم: نحن نحارب أتباع الإسلام السياسي -أو غيره من المصطلحات– فيظن البعض أنه لا يستهدف الإسلام أو المسلمين، وإنما يحارب فئة مارقة تسمت باسم مختلف، علماً أن جوهر ما يدعون إليه هو من الإسلام.
بل بات بعضنا يقدمون الدّعمَ والتسهيلات لأعدائهم للقضاء على الإسلام السياسي، أو الحركي – أو سمّه ما تشاء – في سبيل الإبقاء على الإسلام المعتدل.
ويدخل في ذلك أن بعضنا يعزز هذا الأمر عبر تجاوز الخلاف الفقهي أو العقدي المعتبر واعتباره أساس كفر وإيمان، فيقسم الناس إلى مبتدعة، وخوارج، وأهل سنة، ومتحزبين… إلخ. وحينما يُستهدف صنفٌ منهم يقول: هم ظالمون، ونسأل الله أن يخرجنا من بينهم سالمين.
بل وتضيق الدائرة بشكل أوضح، فتصل إلى داخل الجماعة أو الحزب، ليتحول الاختلاف -في وجهة نظر ما – إلى باب للتفرقة، وتتحول الخلافات الشخصية إلى خلافات كفر وإيمان، ولا بأس أن يشمت أحدهم بقمع أخيه أو من يشترك معه في الفكر والأيدولوجيا والدين والمنهج، بل ويقدم الدعم لمن يعاديه؛ لأجل حماية الدين والأمة من الطرف الآخر، بل وربما يبارك أي جهد في محاربة إخوانه ممن اختلفوا معه في الرأي.
2- إشغال المسلمين بالقضايا الهامشية
في كل يوم والآخر بتنا نسمع عن قضية ينشغل فيها المسلمون وتلهيهم عن قضاياهم الأساسية.
على سبيل المثال: إن أردت أن تحدث انقساماً كبيراً داخل المجتمع، فقط أعلن عن نية إجراء انتخابات فيه، وهذا بحد ذاته كفيل بتحقيق كل أمانيك.
وإن أردت أن تشغل المسلمين بشكل أكبر، فأطلق تطبيقاً كذلك الذي يجعل صورتك أكبر بسنوات “Faceapp” ولاحظ كمية الجدل، وكيف يزج الدين في خضم مثل هذا الأمر.
وما كل هذا إلا تغطية على المؤامرة الحقيقية التي تحاك لهذه الأمة.
وقام بعضنا -مع الأسف- بالإضافة على مثل هذا -عن علم أو جهل- فأصبحت الأولوية تعطى لقضايا قديمة أو هامشية على حساب أخرى.
فليس مستغرباً إن كنت قد درست أو تدرس في كلية الشريعة أن تجد الجدل على أشده حول مسألة الأسماء والصفات بين الطلبة، في حين تجد غالبيتهم يجهلون الحكم على أبجديات المسائل التي يحتاج الناس لمن يبينها ، ولا عجب أن تجد التجييش لهذا أو ذاك وما يتبعه من فتنة وتفريق للناس، ولنا في التاريخ نماذج من ذلك، ويكفي أن تقرأ ما بين سطور الفتن التي وقعت بين بعض المتعصبين من أتباع المذاهب إبان الحملة الصليبية على بلاد المسلمين. حتى وصل الأمر بأحدهم أن يقول في أصحاب الإمام أحمد: “والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا” ثم تحدث مقتلة وفتنة يقتل على إثرها العديد من الناس!
وليس مستغرباً أن تجد الجدل يثور حول كيفية تحريك الإصبع في التشهد، ورفع اليد عن الركوع، وحكم إخراج صدقة الفطر نقداً، وهو ما يعني حشد الطاقات وتضييع الوقت في مسائل قتلت بحثاً، في حين نشاهد المنكرات التي تستهدف الأمة والمجتمع جهاراً نهاراً دون أن ينبس أحدهم ببنت شفه، بل وربما يعتبرها أقل أولوية.
وهذا له أبعاد خطيرة، تتمثل فيما يلي:
1- تغييب الداعية أو طالب العلم عن الواقع، وإشغاله بمسائل قديمة، مما يعني عدم قدرته على التعامل مع متغيرات الواقع المعاصر، أو الوقوع في أخطاء فادحة إن تصدى لها.
2- نشر بذور الانقسام بين الناس، وتعزيز الخلاف والفتنة.
3- تنفير الناس عنهم، خصوصاً تلك الفئة التي تربأ بنفسها عن الوقوع في هذه الخلافات، والبحث عن نماذج أخرى تقتدي بها.
الأمر الأخطر مما سبق، أن هذه المعارك باتت تعطى أهمية على حساب هجمات التشكيك في السنة، أو الإلحاد الذي وقع في براثنه العديد من شبابنا، وغير ذلك.
ويدخل في ذلك: التشدد في القضايا الفرعية الخلافية، وعدها من أصول الدين، كقضايا تغطية الوجه، والموسيقى، والبدعة، ووجوب صلاة الجماعة للفرد وغيرها؛ لكي يكره الناس أولئك الداعين والمتبنين لهذه الأحكام، فيخرجوا على دينهم بالكامل بمجرد أن تتاح لهم الفرصة، ويرون في ذلك انتصاراً على التشدد، علماً أن الأمر تجاوز هذه الجزئيات ليصل إلى الكليات، فيصبح العري والخمر والرقص وغيره بالنسبة لهم أمراً عادياً ومظهراً من مظاهر التحرر.
اقرأ أيضا..كيف يساهم الدعاة في تنفير الآخرين من الدين؟
3- الإيقاع بين الشعوب المسلمة
إن من أبرز سمات هذه الأمة أنها أمة واحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، ومن طرق إضعافها بث روح التنازع والخلاف بين أبنائها، ولذلك قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْۖ وَاصْبِرُواۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض” [متفق عليه]، وقد أصبح الغرب يغذي الصراع بين دولنا ومجتمعاتنا، بل ويغرس بذور الفتن في داخل البلد؛ لكي تنضج في وقت الحاجة إليها، ثم يستخدم الدين كستار لذلك .
فعلى سبيل المثال: تتنازع دولة مسلمة مع أخرى، أو تختلف معها، فيقف المشايخ والدعاة إلى جانب الحاكم أو ولي الأمر، ويجيّرون النصوص ويلوون أعناقها نصرة للقومية والقبلية، وللسيطرة على الناس وضمان ولائهم. وكما قال مكيافيلي في كتابه الأمير: “إن الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس”.
ثم بعد ذلك تستخدم المساجد والمنابر والفضائيات التي تنشر الدعوة، كواحد من الأسلحة التي ينتصرون فيها، وتتحول الحرب إلى صراع ديني، بعد أن كان خلافاً سياسياً -أو مفتعلاً- وفي النهاية… يصبح المسلمون ضحية لمثل أولئك الذين قزّموا رسالة الإسلام في خدمة أسيادهم، وجعلوه ديناً قومياً على الرغم من أن النصوص تؤكد على عالميته ووحدة أتباعه.
وأحياناً كثيرة يجد أعداؤنا بعض السذج ليسوّقوا لتمثيليته، فيصوروا ممثلاً على أنه مُطبّع سعودي -كما ادعى- يلبس ثوباً سعودياً، فيدخل الأقصى ويتلقى الشتائم والإهانات من الناس، في نفس وقت هدم بيوت الفلسطينيين في ضواحي القدس، وهو -وإن كان يستحق الرفض والصد- إلا أن لبسه للثوب السعودي كان متعمداً؛ لخلق حالة من الانقسام بين أهل القدس وأكنافها، وبين أولئك الذين يعيشون بجوار مكة والمدينة، ولينشغل الناس بصحة التصرف من عدمه، ثم يتناسون القضية الأساسية أن هناك احتلالاً يعيث في القدس فساداً وانتهاكاً وتهويداً.
تعمد ذلك المطبع لبس الثوب السعودي؛ هو لخلق حالة من الانقسام بين أهل القدس وأكنافها، وبين أولئك الذين يعيشون بجوار مكة والمدينة، ولينشغل الناس بصحة التصرف من عدمه، ثم يتناسون القضية الأساسية أن هناك احتلالاً يعيث في القدس فساداً وانتهاكاً وتهويداً
إن ما نطالب به اليوم، أن نكون مدركين بأن عدونا لن يتوانى عن استخدام أية طريقة متاحة لقتلنا أو السيطرة علينا، أو جعلنا نقتتل أمام ناظريه. وهو ما يعني أن لا ننجر ببلاهة لما يريده ويقصده.
وهذا يحتاج إلى فقه عظيم يجمع بين فيه الموازانات، والأولويات، والمآلات، وإعمال المقاصد ومراعاة الخلاف، وإلا سنظل ضحايا لأعدائنا، ويصبح فهمنا لديننا مصدر تفريق، بدل أن يكون مصدر وحدة وتجمع.
(المصدر: موقع بصائر)