مقالاتمقالات مختارة

كورونا والقرآن بين الخرافة والحقيقة

كورونا والقرآن بين الخرافة والحقيقة

بقلم يوسف عيد

انتشر فيما سبق تفسير أقرب للخرافة حول علاقة COVID-19 بسورة المدثر فأسقطت مصطلحات وسيناريوهات قرآنية حوتها السورة على الفيروس المعدي وكأنها تحكيه وتشرحُ ما خفي من أسراره ولا ريبَ أنَّ هذا النوعَ من الإسقاط خاطئ بلا ريب، ولكن هذا ليس لعجز القرآن الكريم عن قراءة واقعنا، بل لفداحة الجهلِ في إسقاط الواقع على المعاني، ولعله تعمُّدٌ مقصود، الهدفُ منه إحداثُ الخلل بالمفهوم التفسيري لمعاني القرآن ومحاولة فصل الوعي الإسلامي عن منبعه الأصيل لتنصرف القلوب إلى حسابات الدنيا المجردة من البصيرة والهدي الربانيين، أما القرآن فقد تحدث فعلا عن الكورونا وغير الكورونا بدلالة تكرار الشواهد ودوران الأحداث وأخبار الأمم السابقة باختلاف عناصر التكرار، حتى يكون دليلا واضحًا في كل مرة لنستنبط منه العبر ونتفقه به أحوال الزمان الذي نعيشه.

سورة الأعراف

يدور الصراع كعادته بين الخيرِ والشر ويغلبُ أنْ يملك الشرُّ مالًا وقوة ويملك الخير العزيمة والإصرار والصبر والاستعانة بالله، وقدْ دار الصراعُ في سورة الأعراف بين آل فرعون وبني إسرائيل بين قوة المال والترف والمسحوقين المضطهدين، فيرسلُ الله آياتِه تخويفًا، أسلحةٌ طبيعية بيولوجية تقاتلُ جشعَ الإنسانَ وطمعه وتنتصرُ للمظلومين بعموم الحال لا بخصوصه، فتقاتلُ الطبيعةُ كلَّ تطورٍ بردِّ فعلٍ يتناسبُ مع ذلك التطور الممزوج بالتفحُّش وسحقِ الفقراء وشراهة الملك.

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}

وهذا نذيرٌ واضح على أنَّ انهيار المنظومة الاقتصادية له دلالاتٌ واضحة على قدر الفسادِ الواقعِ والتفحُّشِ في الظلمِ لتكون عاقبتَه انهيارًا واضحًا في الاقتصاد علَّ الإنسان الجشع يتذكَّر أن الطبيعة لنْ تسكتَ له ولنْ تصمتَ لتشاهدَه يفسدُ فيها ويهلك الحرث والنسل ولا تردَّ عليه بما يقزِّمُ حجمَه ويكفُّ يدَه عن مواردها.

{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا}

يغلبُ الجحودُ على طبعِ البشر وتتصدَّرُ أنانيتُهم كل مؤتمرٍ للحديث عن الاقتصادِ فيُظهرون تفوُّقَهم ويتبجحون به أمامَ الخلقِ متباهينَ غيرَ مبالين بأثرِ ذلك الجحود، حتى إذا أصابتهم اللأواء انقلبوا على أعقابهم وعزوا خسائرهم لمنْ جعلوهم في حساباتهم عالةً وربطوهم بمعدلات التراجع والفقر والفاقة، سواءً الدينُ أو تقدُّم السنِّ أو أي فئات أو عناصرَ أخرى فنجدُ أصحاب الترف والمال والجبروت يعزون تراجع اقتصادهم لهذه التصنيفات ويهرعون باسم ذلك لسحقها ومحاولة التخلص من هذا العبء الذي أثقل كاهل الاقتصاد حسبَ ادعائهم.

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}

فيتنكَّرُ البشرُ لما يخالفُ هواهم أو يكشفُ هوانهم وجشعهم، فتراهم يكذبون كل تنبُّؤٍ أو أخبارٍ لا توافقُ طموحاتهم بالتفحُّش بالثراء، ويخشون على عروشهم أنْ تزول فيتمسكون بوهم القوة والسيطرة ويظنُّون أنَّهم ملكوا الأرضَ بالمال والحرب، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، وتتنزل عليهم آيات الله حقيقة واقعة فتصيبهم.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ}

تعددت الآيات واختلفتْ وتنوَّعتْ وكانَ لكلٍّ منها خصائص ولكنَّها اتفقتْ على أنها بيولوجية مصدرها الطبيعة، خلقٌ منْ سائرِ خلقِ الله تكاتفت كما يتكاتف بنو البشرِ في أطماعهم وكُتبَ لها أنْ تخوضَ حربَ الحياة وتهديد الوجودِ مع الإنسان، توالت وتتالتْ واستمرتْ في تحقيق التوازن لتبقى هذه السُّنَّةُ الكونية متداولة دوَّارة مفصَّلة محكمَةً بالآيات، استحقَّ بها الإنسانُ الجاحدُ لها وصف الإجرام رغم تحضُّره الزائف وترَفِه الفارِه، ولستُ أرى الكورونا ببعيدٍ عن هذه الآيات، أكانَ طفرةً أو تهجينًا مخبريًّا فهو تعدَّى حدود السيطرة وأصابَ بفطرته البيولوجية ولم يخضع لأحد.

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}

هذه الكائنات المجهرية الدقيقة تكشفُ ضعفَ الإنسانِ وتفضحَ سلوكاتِه وكأنَّها أداةُ امتحانٍ دقيقة لسلوك الإنسان واختبار حقيقي لكل ما يدعيه من التحضُّر والانضباط وما يزعمُه من القوة، حتى يصل به الظنُّ أنَّ له الكلمة الأولى في هذه الدنيا وأنَّه المتحكم، ثم إذا نزلت به النوازل وألمَّت به المصائب انكشف ضعفُه وقلَّتْ حيلتُه وصار يدعو لفطرةٍ كانَ قدْ نسيِها من قبل، فتجدُه باختلاف الأديان والعقائد محتاجًا إلى السماء أو الآلهة أو بصريح العبارة إلى الله، فتجدُ شخصًا متعجرفًا يقولُ بكل ثقة: “الحلُّ في السماء” ويدعو للتضرُّع والصلاة، فترى الإيمان يتجدَّدُ فجأةً ويهرعُ الناسُ لصلواتهم ويمدون أيديهم للدعاء معترفين بضعفهم ومظهرين لخوفهم، وفي هذه الأزماتِ يطلبُ أهل الدين ويطالبون بالدعاء، ليتكرر هذا السلوك في كل وباء ومجاعة ومصيبة، ليظهر الإنسانُ بطبعه ويخفيَ تطبُّعَه، والطبعُ يغلبُ التطبُّع.

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}

ومن طبيعة الإنسان أنَّه سلوكه يرتدُّ لأصله وما اعتاد عليه بعد زوال الظرف الذي دعاه ليكونَ إنسانًا بفطرته لا بطبعِه، وبعدَ الضعفِ الذي أصابَه يعودُ ليتمرَّد ويرجعَ إلى سابقِ عهده، يطمئِنُّ بعدَ زوال الخطر أو بعدَ يألفَ الخطر أو يقررَ التعايشَ معه، فينسى أنَّه مجرَّدُ نذير وفرصة مهمة ليراجعَ حساباته، ولكنه بدلًا من ذلك يقرِّرُ أنْ ينكث عهدَه فتتحول مطالبُه التي انحصرتَ في طلب السلامة والصحة للجشع والطمع ويعودُ الإنسانُ إنسانًا كما أرادت له أطماعُه، فلا يعتبر ولا يتعظ ويرجع إلى سيرته الأولى حتى ينزلَ عليه البلاء الأخير، فلا نذرَ ولا تضرُّعَ ولا إنابة، فالأوان قدْ فات.

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}

الغفلةُ صفةٌ ملازمةٌ للجشعِ والإنكار والكذب، تصيبُ الإنسانَ وتصاحبُه لتقتله فيما بعد، هي أخطرُ من الوباء نفسِه، فالوباء لديه علامات وأعراض، أما الغفلة صامتة ذات سكون رهيب، تتسلَّل بحذاقة لنفسه وروحه وتبسط سيطرتَها أثناء ضعفه، تشبه ذلك الفايروس الذي يستغلُّ ضعفَ جهازِ المناعةِ في الإنسانِ ليصيبَه بالمرض ويسلبَ منه عافيتَه، فترى الإنسانَ ماديًّا متجرِّدًا من روحانيته، يكفرُ كلَّ مرَّةٍ بعدَ إيمانِه، يُشفى فيظنُّ أنَّه القوي، يجدُ اللقاحَ فيظنُّ أنَّه النبيه الذكي، يقرُّرُ التعايشَ مع الوباء فيظنُّ أنَّه المتحايل، ويغفُل عن حقيقة كضوء الشمس يتجاهلها، أنَّ الوباء لا يصيبُ البدنَ فحسب، بل يصيبُ الروح والسلوك، فيكشفُ عيوبَه وأخطاءَه وضعفَه تجاه نزواتِه وشهواتِه فيغفلُ عنها وينسى أنَّها آيات ومعالم ليتهدي للحقيقة والصواب ولكنه يعمى ويضل حتى يهلك.

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}

سيكثُرُ الحديثُ عنْ عالمِ ما بعدَ الكورونا، وما سيصيبُ العالمَ منْ تغيير، والذكيُّ منْ يتنبَّهُ لسنَّةٍ كونية ثابتة، فالضعيفُ لا يبقى ضعيفًا، والعدلُ أساسُ كلِّ مُلك، وكما يقول ابن خلدون في مقدمتِه: ” الظلمُ مؤذِنٌ بزوال العمران ” ففي الوباء أنباء -ولو خفيت- تبشِّرُ بعدلٍ يتحضَّرُ ويتشكَّلُ ليصيرَ واقعًا يراه ويحسُّه من آمنوا به إيمانا حقيقيًّا راسخًا عاملًا في كل ضعف وقوة، ويبرزُ الوباءُ نفاسة معدنِ الصبرِ والثبات، فلا التكنولوجيا الحديثة ولا التقنياتُ المطورة استطاعتْ أنْ تخلعَ عن الإنسان ثوبَ الخوفِ والضعفِ، فعاقبة الظلم والإفساد لا بدَّ واقعة، والطبيعةُ ليستْ ساكنةً، بل هي تتفاعلُ وتدافعُ عن نفسِها، فمرحلة ما بعدَ الكورونا حاسمة وحساسة، وفيها إعادة ضبطٍ لميزان القوى، فمنْ كان ذكيًّا يعتبرُ ويتعلَّم ويدركُ كيف يصنعُ نصرَه وأمجادَه، وكيف يرقى بنفسِه ليكون في المقدمة، ولا ينسى مهما بلغَ من الملكِ أن الظلم يعني النهاية، وأشكالها كثيرة، منها الوباءُ.

وفي الختام لا بدَّ من التنويه أنَّ الكورونا مرضٌ حقيقيٌّ واقع لا يصحُّ وصفُه بالوهمِ، وفي نفسِ الوقتِ لا يصحُّ التجاوزُ عن استخدامِه واستغلالِه لفرضِ وقائع ابتغاها البعضُ من أجلِ مصالح إقليمية عالمية، وإهمال ذلك من عوارض الجهل بالواقع، والحقيقة أنَّ الأمرَ أشدُّ خطرًا من كونه مرضًا فسيولوجيا أو مناسبةً لتحقيق المصالح، إنَّه سلاحٌ رهيب للعبثِ بالسلوك البشريِّ كله، عوارضه وعلاماته الباطنة أشدُّ فتكًا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى